هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ

أضواء البيان للشنقيطي

تفسير الآية رقم (7):{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ التَّفْسِيرُ وَإِدْرَاكُ الْمَعْنَى، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَقِيقَةُ أَمْرِهِ الَّتِي يَئُولُ إِلَيْهَا وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مُقَدِّمَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّ كَوْنَ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ هُوَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ. يُبَيِّنُ أَنَّ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ الْغَالِبَ هُوَ الْمُرَادُ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْأَغْلَبِ أَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى غَيْرِهِ. وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ التَّأْوِيلِ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ الَّتِي يَئُولُ إِلَيْهَا كَقَوْلِهِ: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [12/ 100]، وَقَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} الْآيَةَ [10/ 39]، وَقَوْلِهِ: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [10/ 39]، وَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [4/ 59]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَأَصْلُ التَّأْوِيلُ مِنْ آلَ الشَّيْءُ إِلَى كَذَا إِذَا صَارَ إِلَيْهِ، وَرَجَعَ يَئُولُ أَوْ لَا، وَأَوَّلْتُهُ أَنَا صَيَّرْتُهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُ الرُّوَاةِ بَيْتَ الْأَعْشَى: [الطَّوِيلُ]:عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَأَوُّلُ حُبِّهَا ** تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَاقَالَ: وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: تَأَوُّلُ حُبِّهَا مَصِيرُ حُبِّهَا وَمَرْجِعُهُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ حُبَّهَا كَانَ صَغِيرًا فِي قَلْبِهِ فَآلَ مِنَ الصِّغَرِ إِلَى الْعِظَمِ، فَلَمْ يَزَلْ يَنْبُتُ حَتَّى أَصْحَبَ فَصَارَ قَدِيمًا كَالسَّقْبِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يَشِبُّ حَتَّى أَصْحَبَ، فَصَارَ كَبِيرًا مِثْلَ أُمِّهِ. قَالَ وَقَدْ يُنْشَدُ هَذَا الْبَيْتَ: [الطَّوِيلُ]:عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَوَابِعُ حُبِّهَا ** تَوَالِي رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَااهـ. وَعَلَيْهِ فَلَا شَاهِدَ فِيهِ، وَالرِّبْعِيُّ السَّقْبُ الَّذِي وُلِدَ فِي أَوَّلِ النِّتَاجِ، وَمَعْنَى أَصْحَبُ انْقَادَ لِكُلِّ مَنْ يَقُودُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: [الْمُتَقَارِبُ]:وَلَسْتُ بِذِي رَثْيَةٍ إِمَّرٍ ** إِذَا قِيدَ مُسْتَكْرَهًا أَصْحَبَاوَالرَّثْيَةُ: وَجَعُ الْمَفَاصِلِ، وَالْإِمَّرُ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَفْتُوحَةً بَعْدَهَا رَاءٌ، هُوَ الَّذِي يَأْتَمِرُ لِكُلِّ أَحَدٍ؛ لِضَعْفِهِ. وَأَنْشَدَ بَيْتَ الْأَعْشَى الْمَذْكُورَ الْأَزْهَرِيُّ وَصَاحِبُ اللِّسَانِ: [الطَّوِيلُ]:وَلَكِنَّهَا كَانَتْ نَوَى أَجْنَبَيْهِ ** تَوَالِي رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَاوَأَطَالَا فِي شَرْحِهِ وَعَلَيْهِ فَلَا شَاهِدَ فِيهِ أَيْضًا.تَنْبِيهٌ:اعْلَمْ أَنَّ التَّأْوِيلَ يُطْلَقُ ثَلَاثَةَ إِطْلَاقَاتٍ:الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ الْحَقِيقَةُ الَّتِي يَئُولُ إِلَيْهَا الْأَمْرُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَاهُ فِي الْقُرْآنِ.الثَّانِي: يُرَادُ بِهِ التَّفْسِيرُ وَالْبَيَانُ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْنِ عَبَّاسٍ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ». وَقَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَا وَكَذَا أَيْ: تَفْسِيرُهُ وَبَيَانُهُ. وَقَوْلُ عَائِشَةَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ تَعْنِي يَمْتَثِلُهُ وَيَعْمَلُ بِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.الثَّالِثُ: هُوَ مَعْنَاهُ الْمُتَعَارَفُ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ الْمُتَبَادَرِ مِنْهُ إِلَى مُحْتَمَلٍ مَرْجُوحٍ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ مَسْأَلَةِ التَّأْوِيلِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْ ثَلَاثِ حَالَاتٍ بِالتَّقْسِيمِ الصَّحِيحِ:الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِالتَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ، وَالتَّأْوِيلِ الْقَرِيبِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقْبِهِ»، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ الْمُتَبَادَرَ مِنْهُ ثُبُوتُ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ، وَحَمْلُ الْجَارِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى خُصُوصِ الشَّرِيكِ الْمُقَاسِمِ حَمْلٌ لَهُ عَلَى مُحْتَمَلٍ مَرْجُوحٍ، إِلَّا أَنَّهُ دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْمُصَرِّحُ بِأَنَّهُ إِذَا صُرِّفَتِ الطُّرُقُ وَضُرِبَتِ الْحُدُودُ، فَلَا شُفْعَةَ.الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ لِأَمْرٍ يَظُنُّهُ الصَّارِفُ دَلِيلًا وَلَيْسَ بِدَلِيلٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ، وَالتَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ، وَمَثَّلَ لَهُ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ بِحَمْلِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- الْمَرْأَةَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، بَاطِلٌ» عَلَى الْمُكَاتَبَةِ، وَالصَّغِيرَةِ، وَحَمْلِهِ أَيْضًا- رَحِمَهُ اللَّهُ- لِمِسْكِينٍ فِي قَوْلِهِ: سِتِّينَ مِسْكِينًا عَلَى الْمُدِّ، فَأَجَازَ إِعْطَاءَ سِتِّينَ مُدًّا لِمِسْكِينٍ وَاحِدٍ.الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ لَا لِدَلِيلٍ أَصْلًا، وَهَذَا يُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ لَعِبًا، كَقَوْلِ بَعْضِ الشِّيعَةِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [2/ 67]، يَعْنِي عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- وَأَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ إِلَى حَدِّ التَّأْوِيلِ، وَبَيَانِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ بِقَوْلِهِ مُعَرِّفًا لِلتَّأْوِيلِ: [الرَّجَزُ]:حَمْلٌ لِظَاهِرٍ عَلَى الْمَرْجُوحِ ** وَاقْسِمْهُ لِلْفَاسِدِ وَالصَّحِيحِصَحِيحُهُ وَهُوَ الْقَرِيبُ مَا حَمَلَ ** مَعَ قُوَّةِ الدَّلِيلِ عِنْدَ الْمُسْتَدِلِّوَغَيْرُهُ الْفَاسِدُ وَالْبَعِيدُ ** وَمَا خَلَا فَلَعِبًا يُفِيدُإِلَى أَنْ قَالَ: [الرَّجَزُ]:فَجَعْلُ مِسْكِينٍ بِمَعْنَى الْمُدِّ ** عَلَيْهِ لَائِحُ سِمَاتِ الْبُعْدِكَحَمْلِ امَرْأَةٍ عَلَى الصَّغِيرَةِ ** وَمَا يُنَافِي الْحُرَّةَ الْكَبِيرَةَوَحَمْلُ مَا وَرَدَ فِي الصِّيَامِ ** عَلَى الْقَضَاءِ مَعَ الِالْتِزَامِأَمَّا التَّأْوِيلُ فِي اصْطِلَاحِ خَلِيلِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيِّ الْخَاصِّ بِهِ فِي مُخْتَصَرِهِ، فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ اخْتِلَافِ شُرُوحِ الْمُدَوَّنَةِ فِي الْمُرَادِ عِنْدَ مَالِكٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَأَشَارَ لَهُ فِي الْمَرَاقِي بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ]:وَالْخَلْفُ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ صَيَّرَ ** إِيَّاهُ تَأْوِيلًا لَدَى الْمُخْتَصَرِوَالْكِتَابُ فِي اصْطِلَاحِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ الْمُدَوَّنَةُ.قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} الْآيَةَ [3/ 7]، لَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْوَاوَ مُحْتَمِلَةٌ لِلِاسْتِئْنَافِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ يَقُولُونَ، وَعَلَيْهِ فَالْمُتَشَابِهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَالْوَقْفُ عَلَى هَذَا تَامٌّ عَلَى لَفْظَةِ الْجَلَالَةِ وَمُحْتَمَلَةٌ لِأَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالرَّاسِخُونَ مَعْطُوفًا عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَعَلَيْهِ فَالْمُتَشَابِهُ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أَيْضًا، وَفِي الْآيَةِ إِشَارَاتٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ اسْتِئْنَافِيَّةٌ لَا عَاطِفَةٌ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي رَوْضَةِ النَّاظِرِ مَا نَصُّهُ: وَلِأَنَّ فِي الْآيَةِ قَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مُتَفَرِّدٌ بِعِلْمِ الْمُتَشَابِهِ، وَأَنَّ الْوَقْفَ الصَّحِيحَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} لَفْظًا وَمَعْنًى، أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ عَطْفَ الرَّاسِخِينَ لَقَالَ: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ بِالْوَاوِ، أَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ ذَمُّ مُبْتَغِي التَّأْوِيلِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لِلرَّاسِخِينَ مَعْلُومًا لَكَانَ مُبْتَغِيهِ مَمْدُوحًا لَا مَذْمُومًا؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُمْ آمَنَّا بِهِ يَدُلُّ عَلَى نَوْعِ تَفْوِيضٍ وَتَسْلِيمٍ لِشَيْءٍ لَمْ يَقِفُوا عَلَى مَعْنَاهُ سِيَّمَا إِذَا تَبِعُوهُ بِقَوْلِهِمْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا فَذِكْرُهُمْ رَبَّهُمْ هَاهُنَا يُعْطِي الثِّقَةَ بِهِ وَالتَّسْلِيمَ لِأَمْرِهِ، وَأَنَّهُ صَدَرَ مِنْ عِنْدِهِ، كَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ الْمُحْكَمُ؛ وَلِأَنَّ لَفْظَةَ أَمَّا لِتَفْصِيلِ الْجُمَلِ فَذِكْرُهُ لَهَا فِي الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ مَعَ وَصْفِهِ إِيَّاهُمْ بِاتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ يَدُلُّ عَلَى قِسْمٍ آخَرَ يُخَالِفُهُمْ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، وَهُمُ الرَّاسِخُونَ. وَلَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ لَمْ يُخَالِفُوا الْقِسْمَ الْأَوَّلَ فِي ابْتِغَاءِ التَّأْوِيلِ، وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومِ التَّأْوِيلِ لِأَحَدٍ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا. اهـ مِنْ الرَّوْضَةِ بِلَفْظِهِ.وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْوَاوَ اسْتِئْنَافِيَّةٌ لَا عَاطِفَةٌ، دَلَالَةُ الِاسْتِقْرَاءِ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا نَفَى عَنِ الْخَلْقِ شَيْئًا وَأَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ، أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ فِي ذَلِكَ الْإِثْبَاتِ شَرِيكٌ كَقَوْلِهِ: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [27/ 65]، وَقَوْلِهِ: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [7/ 187]، وَقَوْلِهِ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [28/ 88]، فَالْمُطَابِقُ لِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ كَمَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَقَالَ: لَوْ كَانَتِ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لِلنَّسَقِ، لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا فَائِدَةٌ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْوَقْفَ تَامٌّ عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: وَالرَّاسِخُونَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لِلْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا.وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يُونُسَ، عَنْ أَشْهَبَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ وَالْفَرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدٍ.وَقَالَ أَبُو نَهِيكٍ الْأَسَدِيُّ: إِنَّكُمْ تَصِلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَإِنَّهَا مَقْطُوعَةٌ وَمَا انْتَهَى عِلْمُ الرَّاسِخِينَ إِلَّا إِلَى قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ مَرْوِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُمْ. وَمِمَّنِ انْتَصَرَ لِهَذَا الْقَوْلِ وَأَطَالَ فِيهِ ابْنُ فُورَكٍ وَنَظِيرُ الْآيَةِ فِي احْتِمَالِ الِاسْتِئْنَافِ وَالْعَطْفِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: [مُرَفَّلُ الْكَامِلِ]:الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهَا ** وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ فِي الْغَمَامَهْفَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَالْبَرْقُ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ يَلْمَعُ كَالتَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ مَقْطُوعًا مِمَّا قَبْلَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الرِّيحِ، وَيَلْمَعُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي أَيْ: لَامِعًا.وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مَدَحَهُمْ بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ فَكَيْفَ يَمْدَحُهُمْ بِذَلِكَ وَهُمْ جُهَّالٌ.قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو: هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُمْ رَاسِخِينَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْمُحْكَمِ الَّذِي يَسْتَوِي فِي عِلْمِهِ جَمِيعُ مَنْ يَفْهَمُ كَلَامَ الْعَرَبِ، وَفِي أَيِّ شَيْءٍ هُوَ رُسُوخُهُمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا إِلَّا مَا يَعْلَمُ الْجَمِيعُ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: يُجَابُ عَنْ كَلَامِ شَيْخِ الْقُرْطُبِيِّ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ رُسُوخَهُمْ فِي الْعِلْمِ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي جَعَلَهُمْ يَنْتَهُونَ حَيْثُ انْتَهَى عِلْمُهُمْ وَيَقُولُونَ فِيمَا لَمْ يَقِفُوا عَلَى عِلْمِ حَقِيقَتِهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا بِخِلَافِ غَيْرِ الرَّاسِخِينَ فَإِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ.وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْكَشَّافِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَنِسْبَةُ الْعِلْمِ إِلَيْهِ أَسْلَمُ.وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: هِيَ عَاطِفَةٌ جَعَلُوا مَعْنَى التَّأْوِيلِ التَّفْسِيرَ وَفَهْمَ الْمَعْنَى كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»، أَيِ: التَّفْسِيرَ وَفَهْمَ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَالرَّاسِخُونَ يَفْهَمُونَ مَا خُوطِبُوا بِهِ وَإِنْ لَمْ يُحِيطُوا عِلْمًا بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى كُنْهِ مَا هِيَ عَلَيْهِ. وَالَّذِينَ قَالُوا: هِيَ اسْتِئْنَافِيَّةٌ جَعَلُوا مَعْنَى التَّأْوِيلَ حَقِيقَةَ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ وَذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ جَيِّدٌ وَلَكِنَّهُ يُشْكَلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ:الْأَوَّلُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: تَفْسِيرُ: لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ فِي فَهْمِهِ، وَتَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ لُغَاتِهَا، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ، وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. فَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذَا الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ لَا مَا تَئُولُ إِلَيْهِ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ.وَقَوْلُهُ هَذَا يُنَافِي التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ.الثَّانِيَ: أَنَّ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ فِي أَوَائِلِ السُّورِ لَا يَعْلَمُ الْمُرَادَ بِهَا إِلَّا اللَّهُ إِذْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِهَا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إِجْمَاعٍ وَلَا مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ. فَالْجَزْمُ بِأَنَّ مَعْنَاهَا كَذَا عَلَى التَّعْيِينِ تَحَكُّمٌ بِلَا دَلِيلٍ.تَنْبِيهَانِ:الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ فَإِنَّ إِعْرَابَ جُمْلَةِ «يَقُولُونَ» مُسْتَشْكَلٌ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتِ:الْأُولَى أَنَّهَا حَالٌ مِنَ الْمَعْطُوفِ وَهُوَ الرَّاسِخُونَ، دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ لَفْظُ الْجَلَالَةِ. وَالْمَعْرُوفُ إِتْيَانُ الْحَالِ مِنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَعًا كَقَوْلِكِ: جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو رَاكِبَيْنِ.وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} [14/ 33].وَهَذَا الْإِشْكَالُ سَاقِطٌ؛ لِجَوَازِ إِتْيَانِ الْحَالِ مِنَ الْمَعْطُوفِ فَقَطْ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [89/ 22]، فَقَوْلُهُ صَفًّا حَالٌ مِنَ الْمَعْطُوفِ وَهُوَ الْمَلَكُ، دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ لَفْظَةُ: رَبُّكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} الْآيَةَ [59/ 10]، فَجُمْلَةُ يَقُولُونَ حَالٌ مِنْ وَاوِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ جَاءُوا، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [59/ 8]، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [59/ 9]، فَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمَعْطُوفِ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَمَا بَيَّنَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ.الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ جِهَاتِ الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورَةِ هِيَ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْخَطَّابِيِّ قَالَ عَنْهُ: وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَقَالَ مَعْنَاهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَهُ قَائِلِينَ:آمَنَّا، وَزَعَمَ أَنَّ مَوْضِعَ يَقُولُونَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَعَامَّةُ أَهْلِ اللُّغَةِ يُنْكِرُونَهُ وَيَسْتَبْعِدُونَهُ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُضْمِرُ الْفِعْلَ وَالْمَفْعُولَ مَعًا، وَلَا تَذْكُرُ حَالًا إِلَّا مَعَ ظُهُورِ الْفِعْلِ، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِعْلٌ فَلَا يَكُونُ حَالٌ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَاكِبًا يَعْنِي: أَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ رَاكِبًا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ ذِكْرِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ عَبْدُ اللَّهِ يَتَكَلَّمُ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَكَانَ يُصْلِحُ حَالًا لَهُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ أَنْشَدَنِيهِ أَبُو عُمَرَ قَالَ: أَنْشَدَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ: [الرَّجَزُ]:أَرْسَلْتُ فِيهَا قَطِمًا لُكَالِكًا ** يُقَصِّرُ يَمْشِي وَيَطُولُ بَارِكًاأَيْ يَقْصُرُ مَاشِيًا وَهَذَا الْإِشْكَالُ أَيْضًا سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْعَامِلَ فِي الْحَالِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرُ مُضْمَرٍ؛ لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ يَعْلَمُ وَلَكِنَّ الْحَالَ مِنَ الْمَعْطُوفِ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، كَمَا بَيَّنَهُ الْعَلَّامَةُ الشَّوْكَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَهُوَ وَاضِحٌ.الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ جِهَاتِ الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورَةِ هِيَ: أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْحَالَ قَيْدٌ لِعَامِلِهَا وَوَصْفٌ لِصَاحِبِهَا، فَيُشْكَلُ تَقْيِيدُ هَذَا الْعَامِلِ الَّذِي هُوَ يَعْلَمُ بِهَذِهِ الْحَالِ الَّتِي هِيَ يَقُولُونَ آمَنَّا؛ إِذْ لَا وَجْهَ لِتَقْيِيدِ عِلْمِ الرَّاسِخِينَ بِتَأْوِيلِهِ بِقَوْلِهِمْ آمَنَّا بِهِ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهُمْ فِي حَالِ عَدَمِ قَوْلِهِمْ آمَنَّا بِهِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَهَذَا الْإِشْكَالُ قَوِيٌّ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى مَنْعِ الْحَالِيَّةِ فِي جُمْلَةٍ يَقُولُونَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعَطْفِ.التَّنْبِيهُ الثَّانِي: إِذَا كَانَتْ جُمْلَةُ يَقُولُونَ: لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ حَالًا لِمَا ذَكَرْنَا فَمَا وَجْهُ إِعْرَابِهَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ. الْجَوَابُ: وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ بِحَرْفٍ مَحْذُوفٍ وَالْعَطْفُ بِالْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ، أَجَازَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ. وَالتَّحْقِيقُ جَوَازُهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِضَرُورَةِ الشِّعْرِ كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالدَّلِيلِ عَلَى جَوَازِهِ وُقُوعُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ. فَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} الْآيَةَ [88/ 8]، فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ بِلَا شَكٍّ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [88]، بِالْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ الْوَاوُ وَيَدُلُّ لَهُ إِثْبَاتُ الْوَاوِ فِي نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} الْآيَةَ [22، 24]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي عَبَسَ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} الْآيَةَ [40/ 38].وَجَعَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ} الْآيَةَ [9/ 92]، قَالَ: يَعْنِي وَقُلْتَ: بِالْعَطْفِ بِوَاوٍ مَحْذُوفَةٍ وَهُوَ أَحَدُ احْتِمَالَاتٍ ذَكَرَهَا ابْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [3/ 19]، عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ هَمْزَةِ إِنْ قَالَ: هُوَ مَعْطُوفٌ بِحَرْفٍ مَحْذُوفٍ عَلَى قَوْلِهِ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [3/ 18]، أَيْ: وَشَهِدَ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَهُوَ أَحَدُ احْتِمَالَاتٍ ذَكَرَهَا صَاحِبُ الْمُغْنِي أَيْضًا وَمِنْهُ حَدِيثُ: «تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ» يَعْنِي وَمِنْ دِرْهَمِهِ وَمِنْ صَاعٍ إِلَخْ.حَكَاهُ الْأَشْمُونِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَمِنْ شَوَاهِدِ حَذْفِ حَرْفِ الْعَطْفِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: [الْخَفِيفِ]:كَيْفَ أَصْبَحْتَ كَيْفَ أَمْسَيْتَ مِمَّا ** يَغْرِسُ الْوُدَّ فِي فُؤَادِ الْكَرِيمِيَعْنِي: وَكَيْفَ أَمْسَيْتَ وَقَوْلُ الْحُطَيْئَةِ: [الْبَسِيطُ]:إِنَّ امْرَأً رَهْطُهُ بِالشَّامِ مَنْزِلُهُ ** بِرَمْلِ يَبْرِينَ جَارٌ شَدَّ مَا اغْتَرَبَاأَيْ: وَمَنْزِلُهُ بِرَمْلٍ يَبْرِينَ.وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لَا مَعْطُوفَةٌ وَعَلَيْهِ فَلَا شَاهِدَ فِي الْبَيْتِ، وَمِمَّنْ أَجَازَ الْعَطْفَ بِالْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ الْفَارِسِيُّ وَابْنُ عُصْفُورٍ خِلَافًا لِابْنِ جِنِّيِّ وَالسُّهَيْلِيِّ.وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ كَحَقِيقَةِ الرُّوحِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الْآيَةَ [17/ 85]، وَكَمَفَاتِحِ الْغَيْبِ الَّتِي نَصَّ عَلَى أَنَّهَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ بِقَوْلِهِ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} الْآيَةَ [6/ 59].وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا الْخَمْسُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} الْآيَةَ [31]. وَكَالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَكَنَعِيمِ الْجَنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الْآيَةَ [32/ 17]، وَفِيهِ أَشْيَاءُ يَعْلَمُهَا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [15/ 94]، وَقَوْلِهِ: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [7/ 6]، مَعَ قَوْلِهِ: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [55/ 39]، وَقَوْلِهِ: {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [28/ 78]، وَكَقَوْلِهِ: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [4/ 171]، وَالرُّسُوخُ وَالثُّبُوتُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: [الطَّوِيلُ]:لَقَدْ رَسَخَتْ فِي الْقَلْبِ مِنِّي مَوَدَّةٌ ** لِلَيْلَى أَبَتْ آيَاتُهَا أَنْ تُغَيَّرَاقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ شَيْئًا، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ وَقُودُ النَّارِ أَيْ: حَطَبُهَا الَّذِي تَتَّقِدُ فِيهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ نَفْيُهُ لِذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِدَعْوَاهُمْ أَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ تَنْفَعُهُمْ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُمُ ادَّعَوْا ذَلِكَ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ مَا أَعْطَاهُمُ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا لِكَرَامَتِهِمْ عَلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقِهِمْ لِذَلِكَ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ كَالدُّنْيَا يَسْتَحِقُّونَ فِيهَا ذَلِكَ أَيْضًا فَكَذَّبَهُمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمُ ادَّعَوْا ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [34/ 35]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} [19/ 77]، وَقَالَ: لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا، يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ كَمَا أُوتِيتُهُ فِي الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [41/ 50]، أَيْ: بِدَلِيلٍ مَا أَعْطَانِي فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [18/ 36]، قِيَاسًا مِنْهُ لِلْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الدَّعْوَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ هُنَا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ} الْآيَةَ [3/ 116]، وَقَوْلِهِ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} [23/ 56]، وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [34/ 37]، وَقَوْلِهِ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [3/ 178]، وَقَوْلِهِ: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [68/ 44، 45]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ كَوْنَهُمْ وَقُودَ النَّارِ الْمَذْكُورَ هُنَا عَلَى سَبِيلِ الْخُلُودِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [3/ 116].

أنوار التنزيل للبيضاوي


  " هو الذي أنزل عليك  الكتاب منه آيات محكمات " أحكمت عبارتها بأن حفظت من الإجمال والإحتمال. " هن أم الكتاب " أصله يرد إليها غيرها والقياس أمهات فأفرد على تأويل كل واحدة، أو على أن الكل بمنزلة في آية واحدة. " وأخر متشابهات " محتملات لا يتضح مقصو دها - لإجمال أو مخالفة الظاهر - إلا بالفحص و النظر ليظهر فيها فضل العلماء، ويزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبرها وتحصيل العلوم المتوقف على إستنباط المراد بها، فينالوا بها - وبإتعاب القرائح في إستخراج معانيها، والتوفيق لما بينها وبين المحكمات - معالي الدرجات. وأما قوله تعالى: " الر كتاب أحكمت آياته " فمعناه أنها حفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ، وقوله: " كتاباً متشابهاً " فمعناه أنه يشبه بعضه بعضاً في صحة المعنى وجزالة اللفظ، " وأخر " جمع أخرى وإنما لم ينصرف لأنه وصف معدول عن الآخر ولا يلزم منه معرفته، لأن معناه أن القياس أن يعرف ولم يعرف لا أنه في معنى المعرف أو عن " آخر " من " فأما الذين في قلوبهم زيغ " عدول عن الحق كالمبتدعة. " فيتبعون ما تشابه منه " فيتعلقون بظاهره أو بتأويل باطل " ابتغاء الفتنة " طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه.

" وابتغاء تأويله " وطلب أن يأولوه على ما يشتهونه، ويحتمل أن يكون الداعي إلى الإتباع مجموع الطلبتين، أو كل واحدة منهما على التعاقب. والأول يناسب المعاند والثاني يلائم الجاهل. " وما يعلم تأويله " الذي يجب أن يحمل عليه. " إلا الله والراسخون في العلم " أي الذين ثبتوا وتمكنوا فيه، ومن وقف على " إلا الله " فسر المتشابه بما إستأثر الله بعلمه: كمدة بقاء الدنيا، ووقت قيام الساعة، وخواص الأعداد كعدد الزبانية، أو بمبادل القاطع على أن ظاهره غير مراد ولم يدل على ما هو المراد. " يقولون آمنا به " إستئناف موضع لحال " الراسخون "، أ, الحال منهم أو خبر أو جعلته مبتدأ. " كل من عند ربنا " أي كل من المتشابه والمحكم من عنده، " وما يذكر إلا أولو الألباب " مدح للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر، وإشارة إلى ماإستعدوا به للإهتداء إلى تأويله، وهو تجرد العقل من غواشي الحس، وإتصال الآية بما قبلها من حيث إنها تصوير الروح بالعلم وتربيته، وما قبلها في تصوير الجسد وتسويته، أو أنها جواب عن تثبت النصارى بنحو قوله تعالى: " وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ". كما أنه جواب عن قوله لا أب له غير الله، فتعين أن يكون هو أباهبأنه تعالى هو مصور الأجنة كيف يشاء فيصور


أيسر التفاسير للجزائري


{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } * { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ } * { رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ }

شرح الكلمات:

{ محكمات }: الظاهر الدلالة البيّنة المعنى التي لا تحتمل إلا معنى واحداً، وذلك كآيات الأحكام من حلال وحرام وحدود، وعبادات، وعبر وعظات.

{ متشابهات }: غير ظاهرة الدلالة محتملة لمعان يصعب على غير الراسخين في العلم القول فيها وهي كفواتح السور، وكأمور الغيب. ومثل قول الله تعالى في عيسى عليه السلام:
{ .... وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.. }
وكقوله تعالى:
{ ..إن الحكم إلا الله،.. }
{ في قلوبهم زيغ }: الزيغ: الميل عن الحق بسبب شبهة أو شهوة أو فتنة.

{ ابتغاء الفتنة }: أي طلباً لفتنة المؤمنين في دينهم ومعتقداتهم.

{ ابتغاء تأويله }: طالباً لتأوليه ليوافق معتقداتهم الفاسدة.

{ وما يعلم تأوليه إلا الله }: وما يعلم ما يؤول إليه أمر المتشابه إلا الله منزله.

{ الراسخون في العلم }: هم أهل العلم اليقيني في نفوسهم الذين رسخت أقدامهم في معرفة الحق فلا يزلّون ولا يَشْتَطّون في شبهة أو باطل.

{ كلٌّ من عند ربنا }: أي المحكم والمتشابه فنؤمن به جميعاً.

{ أولو الألباب }: أصحاب العقول الراجحة والفهوم السليمة.

{ ربنا لا تزغ قلوبنا }: أي لا تُمل قلوبنا عن الحق بعدما هديتنا إليه وعرّفتنا به فعرفناه.

{ هب لنا من لدنك }: أعطنا من عندك رحمة.

معنى الآيات:

ما زال تعالى يقرر ربوبيته وألوهيته ونبوّة رسوله ويبطل دعوى نصارى نجران في ألوهية المسيح عليه السلام فيقول: هو أي الله الحي القيوم الذي أنزل عليك الكتاب، أي القرآن، منه آيات محكمات، لا نسخ فيها ولا خفاء في معناها ولا غموض في دلالتها على ما نزلت فيه وهذه معظم آي الكتاب وهي أمّه وأصله، ومنه آيات أخر متشابهات وهي قليلة والحكمة من إنزالها كذلك الامتحان والاختبار كالامتحان بالحلال والحرام، وبأمور الغيب ليثبت على الهداية والإِيمان من شاء الله هدايته، ويزيغ في إيمانه ويضل عن سبيله من شاء الله تعالى ضلاله وعدم هدايته. فقال تعالى: { فأمَّا الذين في قلوبهم زَيْغ.. } أي ميل عن الحق { فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } للخروج به عن طريق الحق وهداية الخلق كما فعل النصارى حيث ادعوا أن الله ثالث ثلاثة لأنه يقول نخلق ونحيي، ونميت وهذا كلام جماعة فأكثر، وكما قالوا في قوله تعالى في شأن عيسى:
{ .. وروح منه.. }
أنه جزء منه متحد به وكما قال الخوارج في قوله تعالى
{ .. إن الحكم إلا الله.. }
فلا يجوز لأحد أن يحكم في شيء وكفروا عليّا وخرجوا عنه لتحكيمه أبا موسى الأشعري في حقيقة الخلاف بين على ومعاوية وهكذا يقع الزيغ في الضلال حيث يتعبون المتشابه ولا يردونه إلى المحكم فيظهر لهم معناه ويفهمون مراد الله تعالى منه. وأخبر تعالى أنه لا يعلم تأويله إلا هو سبحانه وتعالى. وأن الراسخين في العلم يُفَوِّضُون أمره إلى الله منزله فيقولون: {.. آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب } ، ويسألون ربهم الثبات على الحق فيقولون:

{ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة.. } ترحمنا بها في دنيانا وأخرانا إنك أنت وحدك الوهاب، لا إله غيرك ولا ربّ سواك، ويقررون مبدأ المعاد والدار الآخرة فيقولون سائلين ضارعين { ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه } لمحاسبتهم ومجازاتهم على أعمالهم فاغفر لنا وارحمنا يؤمئذ حيث آمنا بك وبرسولك وبكتابك محكم آية متشابهه، إنم لا تخلف الميعاد.

هداية الآيات

{ من هداية الآيات }:

1- في كتاب الله المحكم والمتشابه، فالمحكم يجب الإِيمان به والعمل بمقتضاه، والمتشابه يجب الإِيمن ويفوض أمر تأويله إلى الله منزله ويقال: {.. آمنا به كلّ من عن ربّنا.. }.

2- أهل الزيغ الذين يتبعون ما تشابه يجب هجرانهم والإِعراض عنهم لأنهم مبتدعة وأهل أهوء.

3- استحباب الدعاء بطلب النجاة عن ظهور الزَّيغ ورؤية الفتن والضلال.

4- تقرير مبدأ المعاد والدار الآخرة.

إرشاد العقل السليم لأبي السعود

تفسير الآية رقم (7):{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}{هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} شروعٌ في إبطال شُبَهِهم الناشئةِ عما نَطَق به القرآن في نعت عيسى عليه السلام بطريق الاستئناف إثرَ بيان اختصاصِ الربوبية ومناطِها به سبحانه وتعالى تارةً بعد أخرى وكونِ كل مَنْ عداه مقهوراً تحت مَلَكوته تابعاً لمشيئته. قيل: إن وفدَ نجرانَ قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست تزعُم يا محمد أن عيسى كلمةُ الله وروح منه؟ قال عليه السلام: «بلى» قالوا: فحسبُنا ذلك. فنعى عليهم زيغَهم وفتنتَهم وبيّن أن الكتابَ مؤسسٌ على أصول رصينةٍ وفروعٍ مَبْنية عليها ناطقةٍ بالحق قاضيةٍ ببطلان ما هم عليه من الضلال، والمرادُ بالإنزال القدرُ المشتركُ المجرَّدُ عن الدِلالة على قيد التدريج وعدمِه، ولامُ الكتاب للعهد، وتقديمُ الظرف عليه لما أشير إليه فيما قبل من الاعتناءِ بشأن بشارتِه عليه السلام بتشريف الإنزال عليه ومن التشويق إلى ما أُنزل، فإن النفسَ عند تأخير ما حقُّه التقديمُ لاسيما بعد الإشعار برفعة شأنِه أو بمنفعته تبقى مترقبةً له فيتمكن لديها عند ورودِه عليها فضلُ تمكُّنٍ وليتصل به تقسيمه إلى قسميه {مِنْهُ آيات} الظرفُ خبر، وآياتٌ مبتدأ أو بالعكس بتأويل مر تحقيقه في قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ} الآية، والأولُ أوفقُ بقواعد الصناعة، والثاني أدخلُ في جزالة المعنى إذ المقصودُ الأصليّ انقسامُ الكتاب إلى القسمين المعهودين لا كونُهما من الكتاب فتذكّرْ، والجملة مستأنفة في حيز النصب على الحالية من الكتاب أي هو الذي أنزل الكتابَ كائناً على هذه الحال منقسماً إلى مُحْكَمٍ ومتشابهٍ أو الظرفُ هو الحال وحدَه وآياتٌ مرتفعٌ به على الفاعلية {محكمات} صفةُ آياتٌ أي قطعيةُ الدِلالة على المعنى المراد، مُحْكمةُ العبارةِ محفوظةٌ من الاحتمال والاشتباه {هُنَّ أُمُّ الكتاب} أي أصلٌ فيه وعُمدةٌ يُردُّ إليها غيرُها فالمرادُ بالكتابِ كلُّه، والإضافة بمعنى في كما في واحد العشرةِ لا بمعنى اللام فإن ذلك يؤدي إلى كون الكتاب عبارةً عما عدا المحكماتِ، والجملةُ إما صفةٌ لما قبلها أو مستأنفةٌ وإنما أفرد الأم مع تعدد الآيات لما أن المراد بيانُ أصليةِ كل واحدةٍ منها أو بيانُ أن الكل بمنزلة آية واحدة كما في قوله تعالى: {وجعلناها وابنها ءايَةً للعالمين} وقيل: اكتُفيَ بالمفرد عن الجمع كما في قول الشاعر:بها جِيَفُ الحسْرى فأما عظامُها ** فبِيضٌ وأما جِلْدُها فصَليبُأي وأما جلودها {وَأَخَّرَ} نعتُ المحذوف معطوفٌ على آياتٌ أي وآياتٌ أخَرُ وهي جمع أخرى، وإنما لم ينصَرِفْ لأنه وصف معدول عن الآخِر أو عن آخر من {متشابهات} صفة لأخَرُ وفي الحقيقة صفةٌ للمحذوف أي محتمِلاتٌ لمعانٍ متشابهة لا يمتاز بعضها عن بعض في استحقاق الإرادة بها ولا يتضح الأمرُ إلا بالنظر الدقيق والتأملِ الأنيق، فالتشابه في الحقيقة وصفٌ لتلك المعاني وُصف به الآياتُ على طريقة وصف الدالِّ بوصف المدلول، وقيل: لما كان من شأن الأمور المتشابهة أن يعجِزَ العقل عن التمييز بينها سُمِّي كل ما لا يهتدي إليه العقل متشابهاً وإن لم يكن ذلك بسبب التشابه كما أن المُشكِل في الأصل ما دخل في أشكاله وأمثاله ولم يُعلم بعينه، ثم أطلق على كل غامض وإن لم يكن غموضُه من تلك الجهة، وإنما جعل ذلك كذلك ليظهر فضلُ العلماء ويزدادَ حِرصهم على الاجتهاد في تدبرها وتحصيل العلوم التي نيط بها استنباطُ ما أريد بها من الأحكام الحقة فينالوا بها وبإتعاب القرائح في استخراج مقاصدِها الرائقة ومعانيها اللائقة المدارجَ العالية ويعرِّجوا بالتوفيق بينها وبين المُحْكمات من اليقين والاطمئنان إلى المعارج القاصيةِ، وأما قولُه عز وجل: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته} فمعناه أنها حُفِظت من اعتراء الخلل أو من النسخ، أو أُيِّدت بالحُجج القاطعةِ الدالةِ على حقِّيتها أو جُعلت حكيمةً لانطوائها على جلائل الحِكَم البالغةِ ودقائقِها، وقوله تعالى: {كتابا متشابها مَّثَانِيَ} معناه متشابهُ الأجزاء أي يشبه بعضُها بعضاً في صحة المعنى وجزالةِ النظم وحقية المدلول.{فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي ميلٌ عن الحق إلى الأهواء الباطلة. قال الراغبُ: الزيغُ الميلُ عن الاستقامة إلى أحد الجانبين، وفي جعل قلوبهم مقراً للزيغ مبالغةٌ في عدولهم عن سَنن الرشاد وإصرارِهم على الشر والفساد {فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ} مُعْرضين عن المُحْكمات أي يتعلقون بظاهر المتشابه من الكتاب أو بتأويل باطلٍ لا تحرِّياً للحق بعد الإيمان بكونه من عند الله تعالى بل {ابتغاء الفتنة} أي طلبَ أن يفتِنوا الناسَ عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضةِ المُحكم بالمتشابه كما نُقل عن الوفد {وابتغاء تَأْوِيلِهِ} أي وطلبَ أن يؤوّلوه حسبما يشتهونه من التأويلات الزائغةِ والحال أنهم بمعزل من تلك الرتبة وذلك قوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والرسخون فِي العلم} فإنه حالٌ من ضمير {فَيَتَّبِعُونَ} باعتبار العلة الأخيرة أي يتّبعون المتشابهِ لابتغاء تأويلِه والحالُ أنه مخصوصٌ به تعالى وبمن وفّقه له من عباده الراسخين في العلم أي الذين ثبَتوا وتمكّنوا فيه ولم يتزلزلوا في مزالِّ الأقدام، وفي تعليل الاتّباعِ بابتغاء تأويلِه دون نفسِ تأويلِه وتجريدِ التأويل عن الوصف بالصحة أو الحقية إيذانٌ بأنهم ليسوا من التأويل في شيء وأن ما يبتغونه ليس بتأويل أصلاً لا أنه تأويلٌ غيرُ صحيح قد يُعذر صاحبه، ومن وقف على {إِلاَّ الله} فسّر المتشابهَ بما استأثر الله عز وعلا بعلمه كمدة بقاءِ الدنيا ووقتِ قيام الساعة وخواصِّ الأعداد كعدد الزبانية أو بما دل القاطعُ على عدم إرادة ظاهرِه ولم يدل على ما هو المراد به.{يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ} أي بالمتشابه، وعدمُ التعرُّض لإيمانهم بالمُحْكم لظهوره، أو بالكتاب والجملة على الأول استئنافٌ موضِّحٌ لحال الراسخين أو حال منه وعلى الثاني خبر لقوله تعالى: {والرسخون} وقوله تعالى: {كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا} من تمام المَقول مقرِّر لما قبله ومؤكِّد له أي كلُّ واحدٍ منه ومن المحكم، أو كلُّ واحدٍ من متشابهه ومحكَمِه منزلٌ من عنده تعالى لا مخالفةَ بينهما، أو آمنا به وبحقيته على مراده تعالى {وَمَا يَذَّكَّرُ} حقَّ التذكر {إِلاَّ أُوْلُواْ الالباب} أي العقولِ الخاصةِ عن الركون إلى الأهواء الزائغةِ وهو تذييلٌ سيق من جهته تعالى مدحاً للراسخين بجَوْدة الذهن وحسنِ النظر وإشارةً إلى ما به استعدوا للاهتداء إلى تأويله من تجرد العقلِ عن غواشي الحِسِّ، وتعلقُ الآيةِ الكريمة بما قبلها من حيث إنها جوابٌ عما تشبّث به النصارى من نحو قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ} على وجه الإجمال وسيجيء الجوابُ المفصل بقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}

البحر المحيط لأبي حيّان


التأويل : مصدر أوَّل ، ومعناه : آخر الشيء ومآله ، قاله الراغب . وقال غيره : التأويل المرد والمرجع . قال :
أؤول الحكم على وجهه ... ليس قضاي بالهوى الجائر
الرسوخ : الثبوت . قال :
لقد رسخت في القلب منّي مودة ... لليلى أبت أيامها أن تغيّرا
---------------------------------------------------------------------------------
(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات ) مناسبة هذا لما قبله أنه : لما ذكر تعديل البنية وتصويرها على ما يشاء من الأشكال الحسنة ، وهذا أمر جسماني ، استطرد إلى العلم ، وهو أمر روحاني . وكان قد جرى لوفد نجران أن من شُبَهِهِمْ قوله (وروح منه ) فبيّن أن القرآن منه محكم العبارة قد صينت من الاحتمال ، ومنه متشابه ، وهو ما احتمل وجوهاً .
ونذكر أقاويل المفسرين في المحكم والمتشابه .
وقد جاء وصف القرآن بأن آياته محكمة ، بمعنى كونه كاملاً ، ولفظه أفصح ، ومعناه أصح ، لا يساويه في هذين الوصفين كلام ، وجاء وصفه بالتشابه بقوله : (كتاباً متشابهاً ) معناه يشبه بعضه بعضاً في الجنس والتصديق . وأما هنا فالتشابه ما احتُمل وعجز الذهن عن التمييز بينهما ، نحو : (إن البقر تشابه علينا ) (وأتوا به متشابهاً ) أي : مختلف الطعوم متفق المنظر ، ومنه : اشتبه الأمران ، إذا لم يفرق بينهما . ويقال لأصحاب المخاريق : أصحاب الشبه ، وتقول : الكلمة الموضوعة لمعنى لا يحتمل غيره نص ، أو يحتمل راجحاً أحد الاحتمالين على الآخر ، فبالنسبة إلى الراجح ظاهر ، وإلى المرجوح مؤوّل ، أو يحتمل من غير رجحان ، فمشترك بالنسبة إليهما ، ومجمل بالنسبة إلى كل واحد منهما . والقدر المشترك بين النص والظاهر هو المحكم ، والمشترك بين المجمل والمؤوّل هو المتشابه ، لأن عدم الفهم حاصل في القسمين .
قال ابن عباس ، وابن مسعود ، وقتادة ، والربيع ، والضحاك : المحكم الناسخ ، والمتشابه المنسوخ .
 
وقال مجاهد ، وعكرمة : المحكم : ما بيَّن تعالى حلاله وحرمه فلم تشتبه معانيه ، والمتشابه : ما اشتبهت معانيه . وقال جعفر بن محمد ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، والشافعي : المحكم ما لا يتحمل إلاَّ وجهاً واحداً ، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً . وقال ابن زيد : المحكم : ما لم تتكرر ألفاظه ، والمتشابه : ما تكررت . وقال جابر بن عبد الله ، وابن دئاب ، وهو مقتصى قول الشعبي والثوري وغيرهما : المحكم ما فهم العلماء تفسيره ، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه : كقيام الساعة ، وطلوع الشمس من مغربها ، وخروج عيسى .
وقال أبو عثمان : المحكم ، الفاتحة . وقال محمد بن الفضل : سورة الإخلاص ، لأن ليس فيها إلاَّ التوحيد فقط . وقال محمد بن إسحاق : المحكمات ما ليس لها تصريف ولا تحريف . وقال مقاتل : المحكمات خمسمائة آية ، لأنها تبسط معانيها ، فكانت أمَّ فروع قيست عليها وتولدت منها ، كالأم يحدث منها الولد ، ولذلك سماها : أم الكتاب ، والمتشابه : القصص والأمثال .
وقال يحي بن يعمر : المحكم الفرائض ، والوعد والوعيد؛ والمتشابه : القصص والأمثال . وقيل : المحكم ما قام بنفسه ولم يحتج إلى استدلال . والمتشابه ما كان معاني أحكامه غير معقولة ، كأعداد الصلوات ، واختصاص الصوم بشهر رمضان دون شعبان . وقيل : المحكم ما تقرر من القصص بلفظ واحد ، والمتشابه ما اختلف لفظه ، كقوله : (فإذا هي حية تسعى ) (فإذا هي ثعبان مبين ) و (قلنا احمل ) و (فاسلك )
وقال أبو فاختة : المحكمات فواتح السور المستخرج منها السور : كألم والمر . وقيل : المتشابه فواتح السور ، بعكس الأول . وقيل : المحكمات : التي في سورة الأنعام إلى آخر الآيات الثلاث ، والمتشابهات : آلم وآلمرَ ، وما اشتبه على اليهود من هذه ونحوها ، حين سمعوا : آلم ، فقالوا : هذه بالجُمَّلِ : أحد وسبعون ، فهو غاية أجل هذه الأمة ، فلما سمعوا : ألر ، وغيرها ، اشتبهت عليهم . أو : ما اشتبه من النصارى من قوله : (وروح منه )
وقيل : المتشابهات ما لا سبيل إلى معرفته ، كصفة الوجه ، واليدين ، واليد ، والاستواء .
وقيل : المحكم ما أمر الله به في كل كتاب أنزله ، نحو قوله : (قل تعالوا أتل ) الآيات و (قضى ربك ) الآيات وما سوى المحكم متشابه .
وقال أكثر الفقهاء : المحكمات التي أحكمت بالإبانة ، فإذا سمعها السامع لم يحتج إلى تأويلها ، لأنها ظاهرة بينة ، والمتشابهات : ما خالفت ذلك . وقال بن أبي نجيح : المحكم ما فيه الحلال والحرام . وقال ابن خويز منداذ : المتشابه ما له وجوه واختلف فيه العلماء ، كالآيتين في الحامل المتوفى عنها زوجها ، عليّ وابن عباس يقولان : تعتد أقصى الأجلين ، وعمر ، وزيد ، وابن مسعود يقولون : وضع الحمل . وخلافهم في النسخ ، وكالاختلاف في الوصية للوراث هل نسخت أم لا . ونحو تعارض الآيتين : أيهما أولى أن يقدّم إذا لم يعرف النسخ؟ نحو : (وأحل لكم ما وراء ذلكم ) يقتضي الجمع بين الأقارب بملك اليمين (وأن تجمعوا بين الاختين إلاَّ ما قد سلف ) يمنع من ذلك؟
ومعنى : أم الكتاب ، معظم الكتاب ، إذ المحكم في آيات الله كثير قد فصل .
 
وقال يحي بن يعمر : هذا كما يقال لمكة : أم القرى ، ولمرو : أم خراسان ، و : أم الرأس : لمجتمع الشؤون ، إذ هو أخطر مكان .
وقال ابن زيد : جماع الكتاب ، ولم يقل : أمهات ، لأنه جعل المحكمات في تقدير شيء واحد ، ومجموع المتشابهات في تقدير شيء وآخر ، وأحدهما أم للآخر ، ونظيره (وجعلنا ابن مريم وأمه آية ) ولم يقل : اثنين ، ويحتمل أن يكون : هنّ ، أي كل واحدة منهنّ ، نحو : (فاجلدوهم ثمانين جلدة ) أي كل واحد منهم . قيل : ويحتمل أن أفراد في موضع الجمع . نحو : (وعلى سمعهم ) وقال الزمخشري : أمّ الكتاب أي أصل الكتاب ، تحمل المتشابهات عليها ، وترد إليها . ومثال ذلك : (لا تدركه الأبصار ) (إلى ربها ناظرة ) (لا يأمر بالفحشاء ) (أمرنا مترفيها ) إنتهى . وهذا على مذهبه الإعتزالي في أن الله لا يُرى ، فجعل المحكم لا تدركه الأبصار . والمتشابه قوله : (إلى ربها ناظرة )
وأهل السنة يعكسون هذا ، أو يفرقون بين الإدراك والرّؤية . وذكر من المحكم : (وما كان ربك نسيا ) (لا يضل ربي ولا ينسى ) ومتشابهه : (نسوا الله فنسيهم ) ظاهر النسيان ضد العلم ، ومرجوحه الترك . وأرباب المذاهب مختلفون في المحكم والمتشابه ، فما وافق المذهب فهو عندهم محكم ، وما خالف فهو متشابه . فقوله : (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) عند المعتزلة محكم (وما تشاءون إلا أن يشاء الله ) متشابه . وغيرهم بالعكس .
وصرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل ، فإن كان لفظياً فلا يتم إلاَّ بحصول التعارض ، وليس الحمل على أحدهما أولى من العكس ، ولا قطع في الدليل اللفظي ، سواء كان نصاً أو أرجح لتوقفه على أمور ظنية ، وذلك لا يجوز في المسائل الأصولية . فإذن المصير إلى المرجوح لا يكون بواسطة الدلالة العقلية القاطعة ، وإذا علم صرفه عن ظاهره فلا يحتاج إلى تعيين المراد ، لأن ذلك يكون ترجيح مجاز على مجاز ، وتأويل على تأويل .
ومن الملاحدة من طعن في القرآن لاشتماله على المتشابه ، وقال : يقولون ، ان تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى يوم القيامة ، ثم إنا نراه يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه ، فالجبري يتمسك بآيات الجبر : (وجعلنا على قلوبهم أكنة ) (وفي آذانهم وقرا ) والقدري يقول : هذا مذهب الكفار في معرض الذم لهم في قوله : (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ) وفي موضع آخر : (وقالوا قلوبنا غلف )
ومثبتو الرؤية تمسكوا بقوله : (إلى ربها ناظرة ) والآخرون ، بقوله : (لا تدركه الأبصار ) ومثبتو الجهة بقوله : (يخافون ربهم من فوقهم ) وبقوله : (على العرش استوى ) والآخرون بقوله : (ليس كمثله شيء ) فكيف يليق بالمحكم أن يرجع إلى المرجوع إليه هكذا؟ إنتهى كلام الفخر الرازي . وبعضه ملخص .
وقد ذكر العلماء لمجيء المتشابه فوائد ، وأحسن ذلك ما ذكره الزمشخري . قال :
فإن قلت : فهلا كان القرآن كله محكماً؟
قلت : لو كان كله محكماً لتعلق الناس به لسهولة مأخذه ، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال ، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلاَّ به ، ولما في المتشابه من الإبتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه ، ولما في تقادح العلماء وإتقانهم القرائح في إستخراج معانيه ، ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة ، والعلوم الجمة ، ونيل الدرجات عند الله ، ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله ، ولا اختلاف إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره ، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد ، ففكر وراجع نفسه وغيره ، ففتح الله عليه ، وتبين مطابقة المتشابة المحكم ، ازداد طمأنينة إلى معتقده ، وقوة في اتقانه .
 
إنتهى كلام الزمخشري ، وهو مؤلف مما قاله الناس في فائدة المجيء بالمشابه في القرآن .
ولما ذكر تعالى أول السورة (الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب ) ذكر هنا كيفية الكتاب ، وأتى بالموصول ، إذ في صلته حوالة على التنزيل السابق ، وعهد فيه . وقوله : (منه آيات محكمات ) إلى آخره ، في موضع الحال ، أي : تركه على هذين الوجهين محكماً ومتشابهاً ، وارتفع : آيات ، على الفاعلية بالمجرور لأنه قد اعتمد ، ويجوز ارتفاعه على الإبتداء ، والجملة حالية . ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة ، ووصف الآيات بالأحكام صادق على أن كل آية محكمة ، وأما قوله : (وأخر متشابهات ) فأُخر صفة لآيات محذوفة ، والوصف بالتشابه لا يصح في مفرد آخر ، لو قلت : وأخرى متشابهة لم يصح إلاَّ بمعنى أن بعضها يشبه بعضاً ، وليس المراد هنا هذا المعنى ، وذلك أن التشابه المقصود هنا لا يكون إلاَّ بين اثنين فصاعداً ، فلذلك صح هذا الوصف مع الجمع ، لأن كل واحد من مفرداته يشابه الباقي ، وإن كان الواحد لا يصح فيه ذلك ، فهو نظير ، رجلين يقتتلان ، وإن كان لا يقال : رجل يقتتل .
وتقدم الكلام على أخر في قوله : (فعدة من أيام أُخر ) فاغنى عن إعادته هنا .
وذكر ابن عطية أن المهدوي خلط في مسألة : أخر ، وأفسد كلام سيبوية ، فتوقف على ذلك من كلام المهدوي .
(فأما الذين في قلوبهم زيغ ) هم نصارى نجران لتعرضهم للقرآن في أمر عيسى ، قاله الربيع . أو : اليهود ، قاله ابن عباس ، والكلبي ، لأنهم طلبوا بقاء هذه الآية من الحروف المقعطة والزيغ : عنادهم .
وقال الطبري : هو الأشبه . وذكر محاورة حيي بن أخطب وأصحابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مدة ملته ، واستخراج ذلك من الفواتح ، وانتقالهم من عدد إلى عدد إلى أن قالوا : خلطت علينا فلا ندري بكثير نأخذ أم بقليل؟ ونحن لا نؤمن بهذا . فأنزل الله تعالى : (هو الذي أنزل عليك الكتاب ) الآية ، وفسر الزيغ : بالميل عن الهدى ، ابن مسعود ، وجماعة من الصحابة ، ومجاهد ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وغيرهم .
وقال قتادة : هم منكرو البعث ، فإنه قال في آخرها (وما يعلم تأويله إلا الله ) وما ذاك إلاَّ يوم القيامة ، فإنه أخفاه عن جميع الخلق . وقال قتادة أيضاً : هم الحرورية ، وهم الخوارج . ومن تأول آية لا في محلها .
 
وقال أيضاً : إن لم تكن الحرورية هم الخوارج السبائية ، فلا أدرى من هم .
وقال ابن جريح : هم المنافقون . وقيل : هم جميع المبتدعة .
وظاهر اللفظ العموم في الزائغين عن الحق ، وكل طائفة ممن ذكر زائغة عن الحق ، فاللفظ يشملهم وإن كان نزل على سبب خاص ، فالعبرة لعموم اللفظ .
(فيتبعون ما تشابه منه ) قال القرطبي : متبعو المتشابه إما طالبو تشكيك وتناقض وتكرير ، وإما طالبو ظواهر المتشابه : كالمجمسة إذ أثبتوا أنه جسم ، وصورة ذات وجه ، وعين ويد وجنب ورجل وأصبع . وإما متبعو إبداء تأويل وإيضاح معاينة ، كما سأل رجل ابن عباس عن أشياء اختلفت عليه في القرآن ، مما ظاهرها التعارض ، نحو : (ولا تساءلون ) و (أقبل بعضهم على بعض يتساءلون ) (ولا يكتمون الله حديثاً ) (والله ربنا ما كنا مشركين ) ونحو ذلك . وأجابه ابن عباس بما أزال عنه التعارض ، وإما متبعوه وسائلون عنه سؤال تعنت ، كما جرى لأصيبغ مع عمر ، فضرب عمر رأسه حتى جرى دمه على وجهه . انتهى كلامه ملخصاً .
(إبتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) علل اتباعهم للمتشابه بعلتين :
إحداهما : إبتغاء الفتنة . قال السدي ، وربيع ، ومقاتل ، وابن قتيبة : هي الكفر . وقال مجاهد : الشبهات واللبس . وقال الزجاج : إفساد ذات البين . وقيل : الشبهات التي حاج بها وفد نجران .
والعلة الثانية : إبتغاء التأويل . قال ابن عباس : ابتغوا معرفة مدة النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : التأويل : التفسير ، نحو (سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ) وقال ابن عباس أيضاً : طلبوا مرجع أمر المؤمنين ، ومآل كتابهم ودينهم وشريعتهم ، والعاقبة المنتظرة . وقال الزجاج : طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم ، فأعلم تعالى : أن تأويل ذلك ، ووقته يوم يرون ما يوعدون من البعث والعذاب ، يقول الذين نسوه ، أي تركوه : قد جاءت رسل ربنا ، أي : قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل . وقال السدي : أرادوا أن يعلموا عواقب القرآن ، وهو تأويله متى ينسخ منه شيء . وقيل : تأويله طلب كنه حقيقته وعمق معانيه . وقال الفخر الرازي كلاماً ملخصه : إن المراد بالتأويل ما ليس في الكتاب دليل عليه ، مثل : متى الساعة؟ ومقادير الثواب والعقاب لكل مكلف؟
وقال الزمخشري : (الذين في قلوبهم زيغ ) هم أهل البدع ، فيتبعون ما تشابه منه ، فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ، ويحتمل ما يطابقه من قوله أهل الحق ، إبتغاء الفتنة : طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم ، وإبتغاء تأويله : طلب أن يؤولوه التأويل الذي يشتهونه . إنتهى كلامه . وهو كلام حسن .
(وما يعلم تأويله إلاَّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ) تم الكلام عند قوله : إلا الله ، ومعناه ان الله استأثر بعلمه تأويل المتشابه ، وهو قول ابن مسعود ، وأبي ، وابن عباس ، وعائشة ، والحسن ، وعروة ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبي نهيك الأسدي ، ومالك بن أنس ، والكسائي ، والفراء ، والجلبائي ، والأخفش ، وأبي عبيد . واختاره : الخطابي والفخر الرازي .
 
ويكون قوله (والراسخون ) مبتدأ و (يقولون ) خبر عنه وقيل : والراسخون ، معطوف على الله ، وهم يعلمون تأويله ، و : يقولون ، حال منهم أي : قائلين وروي هذا عن ابن عباس أيضاً ، ومجاهد والربيع بن أنس ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وأكثر المتكلمين . ورجح الأول بأن الدليل إذا دل على غير الظاهر علم أن المراد بعض المجازات ، وليس الترجيح لبعض إلاَّ بالأدلة اللفظية ، وهي ظنية ، والظن لا يكفي في القطعيات ، ولأن ما قبل الآية يدل على ذم طالب المتشابه ، ولو كان جائزاً لما ذمّ بأن طلب وقت الساعة تخصيص بعض المتشابهات ، وهو ترك للظاهر ، ولا يجوز ، ولأنه مدح الراسخين في العلم بأنهم قالوا (آمنا به ) ولو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان في الإيمان به مدح ، لأن من علم شيئاً على التفصيل لا بد أن يؤمن به ، وإنما الراسخون يعلمون بالدليل العقلي أن المراد غير الظاهر ، ويفوضون تعيين المراد إلى علمه تعالى ، وقطعوا أنه الحق ، ولم يحملهم عدم التعيين على ترك الإيمان ، ولأنه لو كان : الراسخون ، معطوف على : الله ، للزم أن يكون : يقولون ، خبر مبتدأ وتقديره : هؤلاء ، أو : هم ، فيلزم الإضمار ، أو حال والمتقدّم : الله والراسخون ، فيكون حالاً من الراسخين فقط ، وفيه ترك للظاهر . ولأن قوله : (كل من عند ربنا ) يقتضي فائدة ، وهو أنهم آمنوا بما عرفوا بتفصيله وما لم يعرفوه ، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل عري عن الفائدة ، ولما نقل عن ابن عباس أن تفسير القرآن على أربعة أوجه : تفسير لا يقع جهله ، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلاَّ الله ، تعالى .
وسئل مالك ، فقال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة . انتهى ما رجح به القول الأول ، وفي ذلك نظر ، ويؤيد هذا القول قراءة أبي ، وابن عباس ، فيما رواه طاووس عنه : إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به . وقراءة عبد الله : وابتغاء تأويله إن تأويله إلاَّ عند الله ، والراسخون في العلم يقولون .
ورجح ابن فورك القول الثاني وأطنب في ذلك ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس : « اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل » ما يبين ذلك ، أي : علمه معاني كتابك . وكان عمر إذا وقع مشكل في كتاب الله يستدعيه ويقول له : غص غوّاص . ويجمع أبناء المهاجرين والأنصار ، ويأمرهم بالنظر في معاني الكتاب .
وقال ابن عطية : إذا تأملت قرب الخلاف من الاتفاق ، وذلك أن الكتاب محكم ومتشابه ، فالمحكم المتضح لمن يفهم كلام العرب من غير نظر ، ولا لبس فيه ، ويستوى فيه الراسخ وغيره . والمتشابه منه ما لا يعلمه إلاَّ الله ، كأمر الروح ، وآماد المغيبات المخبر بوقوعها ، وغير ذلك . ومنه ما يحمل على وجوه في اللغة ، فيتأول على الاستقامة كقوله في عيسى
 
(وروح منه ) إلى غير ذلك . ولا يسمى راسخاً إلاَّ من يعلم من هذا النوع كثيراً بحسب ما قدّر له ، وإلاَّ فمن لا يعلم سوى المحكم فليس براسخ .
فقوله (إلا الله ) مقتض ببديهة العقل أنه تعالى يعلمه على استيفاء نوعيه جميعاً ، والراسخون يعلمون النوع الثاني ، والكلام مستقيم على فصاحة العرب . ودخلوا بالعطف في علم التأويل كما تقول : ما قام لنصري إلاَّ فلان وفلان ، وأحدهما نصرك بأن ضارب معك ، والآخر أعانك بكلام فقط .
وإن جعلنا (والراسخون ) مبتدأ مقطعوعاً مما قبله ، فتسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي استوى في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع؟ وما الرسوخ إلاَّ المعرفة بتصاريف الكلام ، وموارد الأحكام ، ومواقع المواعظ؟ .
وإعراب : الراسخين ، يحتمل الوجهين ، ولذلك قال ابن عباس بهما .
ومن فسر المتشابه بأنه ما استأثر الله بعلمه فقط ، فتفسيره غير صحيح ، لأنه تخصيص لبعض المتشابه . انتهى . وفيه بعض تلخيص ، وفيه اختياره أنه معطوف على : الله ، وإياه اختار الزمخشري . قال : لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلاَّ الله وعباده الذين رسخوا في العلم ، أي ثبتوا فيه وتمكنوا ، وعضوا فيه بضرس قاطع . ويقولون ، كلام مستأنف موضح لحال الراسخين ، بمعنى : هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به ، أي : بالمتشابه . انتهى كلامه .
وتلخص في إعراب (والراسخون ) وجهان : .
أحدهما : أنه معطوف على قوله : الله ، ويكون في إعراب : يقولون ، وجهان : أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف . والثاني : أنه في موضع نصب على الحال من الراسخين ، كما تقول : ما قام إلاَّ زيد وهند ضاحكة .
والثاني : من إعراب : والراسخون ، أن يكون مبتدأ ، ويتعين أن يكون : يقولون ، خبراً عنه ، ويكون من عطف الجمل .
وقيل : (الراسخون في العلم ) مؤمنو أهل الكتاب : كعبد الله بن سلام وأصحابه ، بدليل (لكن الراسخون في العلم منهم ) يعنى الراسخين في علم التوراة ، وهذا فيه بعد ، وقد فسر الرسوخ في العلم بما لا تدل عليه اللغة ، وإنما هي أشياء نشأت عن الرسوخ في العلم ، كقول نافع : الراسخ المتواضع لله ، وكقول مالك : الراسخ في العلم العامل بما يعلم ، المتبع .
(كل من عند ربنا ) هذا من المقول ، ومفعول : يقولون قوله : (آمنا به كل من عند ربنا ) وجعلت كل جملة كأنها مستقلة بالقول ، ولذلك لم يشترك بينهما بحرف العطف ، أو جعلا ممتزجين في القول امتزاج الجملة الواحدة ، نحو قوله :
كيف أصحبت؟ كيف أمسيت؟ مما ... يزرع الود في فؤاد الكريم؟
كأنه قال : هذا الكلام مما يزرع الودّ . والضمير في : به ، يحتمل أن يعود على المتشابه ، وهو الظاهر ، ويحتمل أن يعود على الكتاب . والتنوين في : كل ، للعوض من المحذوف ، فيحتمل أن يكون ضمير الكتاب ، أي : كله من عند ربنا ، ويحتمل أن يكون التقدير : كل واحد من المحكم والمتشابه من عند الله ، وإذا كان من عند الله فلا تناقض ولا اختلاف ، وهو حق يجب أن يؤمن به .
 
وأضاف العندية إلى قوله : ربنا ، لا إلى غيره من أسمائه تعالى لما في الإشعار بلفظة الرب من النظر في مصلحة عبيده ، فلولا أن في المتشابه مصلحة ما أنزله تعالى ، ولجعل كتابه كله محكماً .
(وما يتذكر إلا أولوا الألباب ) أي : وما يتعظ بنزول المحكم والمتشابه إلاَّ أصحاب العقول ، إذ هم المدركون لحقائق الأشياء ، ووضع الكلام مواضعه ، ونبه بذلك على أن ما اشتبه من القرآن ، فلا بد من النظر فيه بالعقل الذي جعل مميزاً لإدراك : الواجب ، والجائز ، والمستحيل ، فلا يوقف مع دلالة ظاهر اللفظ ، بل يستعمل في ذلك الفكر حتى لا ينسب إلى البارىء تعالى ، ولا إلى ما شرع من أحكامه ، ما لا يجوز في العقل .
وقال ابن عطية : أي ، ما يقول هذا ويؤمن به ، ويقف حيث وقف ، ويدع اتباع المتشابه إلاَّ ذو لبٍّ .
وقال الزمخشري : مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل .

البسيط للواحدي

7 - قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ} إلى قوله: {مُتَشَابِهَاتٌ} اختلف المفسرون في المُحْكَمِ والمُتَشابِه.
واختلفت (فيهما) الروايات عن ابن عبّاس، فقال في روايةِ عَطِيّة: المُحْكَم: الناسخ الذي يُعمل به. والمُتشابه: المَنْسُوخُ الذي يُؤمَنُ به، ولا يُعمل [به] . وهذا قول قتادة، والربيع .
وقال في رواية عطاء: المُحْكَمَات: (هي) الثلاثُ (الآيات) في (آخر) سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا} [الأنعام: 151]، إلى آخر الآيات الثلاث .
{وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} يريد: (التي) تشابهت اليهود؛ وهي حُرُوف التَّهَجِّي في أوائل السُّوَرِ؛ وذلك أنهم أوَّلُوها على حِسَابِ الجُمَّلِ، وطلبوا أن يَسْتَخرِجوا منها مُدَّة بقاء هذه الأمَّةِ، فاختلط عليهم واشْتَبَه . وهذا القول، اختيار الفرّاء .
وقال في رواية الوالبي : محكمات القرآن: ما فيه من الحلال والحرام، والحُدُود والفرائض، مِمّا يُعمل به. والمتشابهات: مُقَدَّمُه ومُؤَخَّرُه، وأمثالُهُ وأقسامه، وما يُؤمَنُ به (ولا يُعمل به) .
وقال ابن كَيْسَان : المُحْكَمَات: حُجَجُها واضحةٌ، ودَلائِلُها لائحة، (لا) حاجة بمن سمعها إلى طلب معانيها. والمتشابه: ما يُدرَك عِلْمُهُ بالنظر. وهذا القول؛ اختيار أبي إسحاق؛ لأنه حكى هذا القول، وقال : معنى {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ}: أي: أُحكِمت في الإبانة، فإذا سمعها السامعُ لَمْ يَحْتَجْ إلى تأويلها؛ لأنها ظاهرة بَيِّنةٌ؛ نحو: ما قَصّ اللهُ تعالى مِنْ أقاصيص الأنبياء، مِمّا اعترف به أهلُ الكِتَاب، وما أخبر اللهُ جلّ وعزَّ به مِنْ إنشاءِ الخَلْقِ، في قوله: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون: 14] الآية. ومِنْ خَلْقِهِ مِنَ الماءِ (كلَّ) شيءٍ (حَيٍّ) ، وما خلق مِنَ الثمار، وهذا (ما) لَمْ يُنْكِروا، (وأنكروا) ما احتاجوا فيه إلى النَّظَرِ مِنْ أنَّ اللهَ يبعثهم بعد أنْ يَصِيروا تُرابًا، (ولُوْ نَظَرُوا وتَدَبَّروا) لَصَارَ المُتَشابِهُ عندهم كالظاهر؛ لأنَّ مَنْ قَدَرَ على الإنشاء أوّلًا، قَدَرَ على الإعادَةِ.
وقد نَبَّهَ اللهُ تعالى بِقَوْلِهِ: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا} [يونس: 79].
وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المُحْكَم: ما لا يَحْتَمِل مِنَ التأويل غير وَجْهٍ واحدٍ. والمُتَشابه: ما احتمل من التأويل أوجُهًا . وهذا اختيار ابن الأنباري، وكثيرٍ مِنَ العلماء .
[و] قال ابن الأنباري : الآية المُحْكَمَةُ: التي مَنَعَتْ كَثْرَةَ التأويلات؛ لأنها لا تَحْتَمِلُ إلّا تفسيرًا واحدا.
والعرب تقول : (حَكَمتُ) و (أحكمتُ) و (حَكَّمْتُ)؛ بمعنى: (رَدَدْت) ، ومَنَعْتُ. والحاكم يَمْنَعُ (الظالمَ) من الظُلْم.
قال الأصمعي : وأصلُ الحُكُومَةِ: رَدُّ الرَّجُلِ عَنِ الظُّلْمِ، ومِنْهُ قولُ لَبِيد:
أَحْكَمَ الجِنْثِيَّ مِنْ عَوْراتِها ... كُلُّ حِرْباءٍ إذا أُكْرِهَ صَلْ قال: (الجِنْثِيّ): السَّيْف ؛ أي: ردَّ السيفَ عن عوراتِ (الدرع) (وهي) فُرَجُها، كلُّ حِرْباءٍ وهُوَ المِسْمَارُ الذي يُسَمَّرُ به حَلَقُها .
ومِنْهُ حديثُ النَّخَعِيِّ: (حَكّمْ اليتيمَ كما تُحَكِّم وَلَدكَ) ، أي: امنعه من الفَسَاد . وقال جرير:
.. أَحْكِمُوا سُفهاءَكُمْ ...
يقول: امنعوهم من التَعرُّض.
قال أبو بكر : والمُتَشَابِهُ، ما اعتَوَرَتْهُ تأويلات. وسُمِّيَ مُتشابهًا؛ لأن لفظَهُ يُشْبِهُ لفظَ غيره، ومعناه يخالف معناه.
وقال بعضهم : المُحْكَمُ: ما عرفَ العلماءُ تأويلَهُ، وفهموا معناه. والمتشابه: ما ليس لأحدٍ إلى عِلْمِهِ سبيلٌ، مِمَّا استأثرَ اللهُ بِعِلْمِهِ؛ وذلك نحو: وقت خروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدجّال، ونزول عيسى، وقيام الساعة، وعِلْم الرُّوح.
ويُسْأَلُ (فيقال) : ماذا أراد اللهُ بإنزال المُتشابِهِ في القرآن؛ وأراد بالقرآن لِعِبادِهِ الهُدَى والبيان؟ فيقال: إنَّ القرآن نَزَلَ بألفاظِ العَرَبِ ومذاهبها في: الإيجاز؛ (للاختصار) ، والإطالَةِ؛ (للتوكيد) ، والإشارة إلى الشيء، واغماض بعض المعاني؛ حتى لا يظهر عليه إلا اللَقِن . ولو كانَ القرآنُ كلُّهُ ظاهرًا مكشوفًا، حتى يستوي في معرفته العالمُ والجاهلُ، لَبَطَلَ التفاضُلُ بين الناس، وسقطت المِحْنَةُ، وماتت الخواطرُ. ومَعَ الحاجَةِ تَقَعُ الفِكْرةُ والحِيلَةُ، ومع الكفاية يقع العَجْزُ والبَلاَدَةُ .
وأصل التشابه : أن يُشْبِهَ اللفظُ اللّفظَ في (الظاهر) ، والمَعْنَيَانِ مُخْتَلِفان. قال اللهُ عز وجل في وَصْفِ ثِمَارِ الجَنَّةِ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25]؛ أي: مُتَّفِقَ المَنَاظِرِ، [و] مُخْتَلِفَ الطُعُوم . ثم يقال لكل ما غَمُضَ ودَقّ: (مُتشابهٌ)، وإنْ لم تقع الحَيْرَةُ فيه، مِنْ جِهَةِ (الشَّبَهِ) بغيره ألا تَرَى أنه قد قيل للحروف المقَطَّعَةِ في أوائل السُّوَر: متشابهة؟ (وليس) الشكُّ فيها. والوقوف فيها؛ لمشاكَلَتِها غيرَهَا والتباسِها به. ومثل المتشابه: المُشكِلُ.
واعلَمْ أنَّ القرآن كُلَّهُ محكَمٌ مِنْ وَجْهٍ؛ على معنى: أنه (حقٌّ) ثابت . قال اللهُ تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]. ومُتَشابِهٌ مِنْ وَجْهٍ؛ وهو أن يشبه بعضه بعضًا في الحُسْنِ، ويُصدّق بَعْضُه بعضًا ، وهو قوله تعالى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23]. وقوله تعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}. أي: أصل الكتاب الذي يُعْمَل عليه . فَمَنْ جَعَلَ (المُحْكَمَات): الآيات الثلاث في (الأنعام)، قال: يريد: هُنّ أم كلِّ كِتَابٍ أنزله الله على نَبِيٍّ، فيهن كلُّ ما أحلّ، وفيهن كلُّ ما حرّم. ووحَّد (الأمَّ) بعد قوله: {هُنَّ}؛ لأن الآياتِ كلَّها في تكامُلِها واجتماعها، كالآية الواحدة، وكلام الله واحد.
وقال أبو العباس : لأنهن بكمالِهِنَّ (أُمٌّ)، وليست كلُّ واحدِةٍ منهن (أُمَّ الكتاب)، على انفرادها.
وقال الأخفش : وَحَّدَ {أُمُّ الْكِتَابِ} بالحكاية؛ على تقدير الجواب؛ كأنه قيل : ما أمُّ الكتاب؟ فقيل: هنّ أم الكتاب؛ كما تقول: مَنْ نَظِيرُ زيد؟ فيقول قومٌ: نحن نظيرُه ؛ كأنهم حَكَوا ذلك اللفظ. وهذا على قولهم : دَعْنِى مِنْ (تَمْرَتان) ؛ أي: مِمَّا يقالُ له (تمرتان).
قال أبو بكر : وقولُ الأخفش بِعيدٌ مِنَ الصواب في الآية؛ لأن الإضمار لمْ يَقُمْ عليه دليلٌ، ولم تَدْعُ إليه حاجةٌ. وقيل : أراد: كل آية منهنّ أمُّ الكتاب؛ كما قال: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50]؛ أي: كلُّ واحدٍ منهما آية .
قال العلماءُ، وأصحابُ المعاني: معنى قوله: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي: أصلُ الكتاب الذي يُسْتَدَلُّ به على المتشابه وغيره مِنْ أمور الدين. فإذا وردت الآية المتشابهة رُدَّت إلى المحْكَمَةِ، فكانت المُحْكَمَةُ مُفَسِّرَةً لها، وقاضِيَةً على معناها.
فـ {أُمُّ الْكِتَابِ} معناه: أصل الكتاب الذي ترجع إليه التأويلات، وتضم جميع المعاني، لأن الأم يرجع إليها بنوها فتضمهم. مثال ما ذكرنا: قوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3]. هذه آيةٌ مُحْكَمَةٌ، لا تحتمل تأويلًا غير ظاهرها ، لأن معناها: لا ينشئ الصُّوَرَ ، ولا يُرَكِّبُ الأرواحَ في الأجسام غيره عز وجل.
وأما الآية المتشابهة: فقوله عزَّ ذِكْرُه: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]؛ يقع هذا متنافيًا عند الجاهل؛ إذْ كان قالَ في ذلك الموضع: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3]، وَجَعَلَ في هذا الموضع مع الله خالِقِين، فاحتجنا إلى رَدِّ هذه الآية، إلى الآية المحكمة؛ لِتَحْكُمَ عليها، فقلنا: قد نَفَت الآيةُ المُحْكَمة أن يكون مع الله تعالى خالق يُنْشئ وُيحْيي.
ووجدنا العربَ تجعل (الخَلْقَ) على مَعْنيَيْن: أحدهما: (الإنشاء)، والآخر: (التقدير). فنفت الآيةُ المُحْكَمة (الخَلْقَ) الذي بمعنى: (الإنشاء)، فبقي الذي معناه : (التقدير). فَحَمَلْنا المُتشابِهَ عليه، وقلنا: تأويلُهُ: فتباركَ اللهُ أحْسَن المُقَدِّرِين؛ كما قال: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17]، أي: ويُقَدِّرُون .
ومن هذا القَبِيل أيضًا، قولُه: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52]؛ هذه مُحْكَمَةٌ لا تَحْتَمِل التأويلات. ثم قال: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]؛ فَأَثْبَتَ في المُتَشَابِهِ ما نفاهُ في المحكمة؛ فكانت المُحْكَمة قاضيةً عليها؛ لأنا وجدنا النسيان في كلام العرب على مَعْنيَيْنِ: أحدهما: (الإغفال)، والآخر: (التَّعَمُّدُ والتَّرْكُ) .
فقلنا في قوله عز وجل: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]: تركوا العَمَلَ لله، فَتَرَكَ أنْ يُثِيبهم ؛ فكان في المُحْكَمِ بَيانُ المُتَشابِهِ. ومن هذا: قولُ اللهِ عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، احتمل في اللغة أنْ يكونَ كاستواءِ الجالِسِ على سَرِيرِهِ، واحتَمَلَ أن يكون بمعنى الاستيلاءِ؛ وأحَدُ الوَجْهَيْنِ لا يجوز على الله؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وهذا من المُحْكم، الذي هو أصلٌ يُردُّ إليه المتشابهُ، فقلنا: إنَّ استواءَهُ بمعنى: الاستيلاء ومثل هذا كثيرٌ، وفيما أوردتُهُ كِفَايَةٌ لِمَنْ رُزِقَ الفَهْمَ.
وقوله تعالى: {وَأُخَرُ} زعم سِيبَويه والخليلُ أنَّ (أُخَرَ) فارقت أخواتها، والأصلَ الذي عليه بِنَاءُ أَخَواتِها؛ لأن (أُخَرَ) أصلُها أن تكون بالألف واللّام ؛ كما تقول: (الصُّغْرى) و (الصُغَر)، و (الكُبْرَى) و (الكُبَر). فلما عُدِلَت عن مُجْرَى الألِفِ واللام، وأصلِ (أَفْعَلَ مِنْكَ) وهي مِمَّا لا يكونُ إلا صِفَةً، مُنِعَت الصَّرْفَ. وقد شرحنا هذه المسألة عند قوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].
قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}. الزَّيْغُ: المَيْلُ. يعني: مَيْلًا عن الحقِّ؛ (زاغ، يَزِيغ، زَيْغًا، وزَيْغُوغَةً، وزَيَغانًا، وزيوغًا) .
قال الفراء : والعرب تقول في عامةِ ذوات الياء، مِمَّا يُشْبِهُ (زِغتُ)؛ مثل: (سِرْتُ)، و (صرْتُ)، و (طِرتُ): (سَيْرُورَةً)، و (صَيْرُورَةً)، و (طَيْرُورَةً)، و (حِدْتُ حَيْدُودَةً)، و (مِلْتُ مَيْلُولَةً)، لا أحصى ذلك، وهو كثير. فأمّا ذوات الواو؛ مثل: (قلتُ)، و (رُضْتُ)، فإنهم لمْ يقولوا ذلك إلا في أربعة أحْرُف، منها: الكَيْنُونة ، والدَّيْمُومَةُ، مِنْ: (دُمْتُ)، والهَيْعُوعَةُ، من: (الهُواع) ، والسيْدُودَةُ، من: (سُدْتُ).
وكان ينبغي أن يكونَ -في القياس-: (كَوْنُونَة) بالواو ، ولكنها لَمَّا قَلَّت في مصادر الواو، وكثرت في مصادر الياء، ألحقوها بالذي هو أكثر مجيئًا منهما؛ إذ كانت الواوُ والياءُ مُتَقارِبَتَينِ في المَخْرَج.
ومثل هذا: أنهم يقولون في ذوات الياء: (سَعَيْتُ به سِعَايةً)، و (رَمَيْتُهُمْ رِمَايَةً)، و (دَرَيْتُ بِهِ دِرايةً)، فتأتي المصادرُ في ذوات الياء، على هذا النحو، كثيرةً، ولا تكاد تأتي في ذوات الواو؛ نحو: (خَلَوْتُ)، و (دَعَوْتُ). فَنَدَرَ حرفٌ مِنْ ذوات الواو فألْحِقَ بذوات الياء، وهو قولُهم: (شَكَوْتُ فُلانًا شِكَايَةً)، ولم يقولوا: (شِكاوَةً)، فألحقوها بالمصادر من الياء .
واختلفوا في هؤلاء الذي عُنُوا بقوله: {فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}: فقال الربِيع : هم وَفْدُ نَجْرَانَ؛ لَمَّا حَاجُّوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، في المَسِيح، فقالوا: أليسَ هُوَ كَلِمَة اللهِ، وروح منه؟ قال: "بَلَى". قالوا: حَسْبُنا. فأنزلَ اللهُ تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}، الآية. ثمّ أنزل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} الآية.
وقال الكَلْبِيُّ : هم اليهود، طَلَبُوا عِلْمَ أكْلِ هذه الأُمَّةِ، واستِخْراجِهِ مِنَ الحُرُوف المُقَطَّعَةِ في أوائل السُّوَرِ . وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء .
وقيل: هم جميع المُبْتَدِعَةِ، وكلُّ من احتَجَّ لِباطِلِهِ بالمتشابه . وهذا معنى قول قتادة . وقولُ الزَّجَّاج في هذه الآية، يَدُلُّ على أنّ هؤلاء، هم الكفار الذين يُنْكِرُون البَعْثَ، لأنه قال في سياق الآية: معنى ابتغائهم تأويله: أنهم طلبوا تأويل بَعثِهِمْ وإحيائهم.
وقوله تعالى: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ}. قال عطاءٌ، عن ابن عباس : يريد: الكفر. وقال الرَّبِيع ، والسدي : طلب الشرك .
وقال مجاهد : اللَّبْسِ ؛ لِيُضِلُّوا به جُهَّالَهم. وقال أبو إسحاق : الفِتْنَةُ في اللغة على ضُرُوب: فالضَّرْبُ الذي ابتغاه هؤلاء: إفسادُ ذوات البَيْن في الدِين، والحرب. والفتنة في اللغة: الاستهتار بالشيء والغُلُوُّ فيه؛ يقال: (فلانٌ مَفْتُونٌ بِطَلَب الدُّنْيا)؛ أي: قد غلا في طَلَبِها، وتجاوز القَدر .
وقوله تعالى: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}. التأويل: التفسير. وأصلُهُ في اللغة: المرجِعُ والمَصِيرُ؛ مِنْ قولهم: (آل الأمْرُ إلى كذا): إذا صار إليه. و (أوَّلْته تأويلًا): إذا صَيَّرته إليه، فتأول ؛ أي: رَجَعَ، وصار.
قال الأعشى:
على أَنَّها كانتْ تَأوُّلُ حُبِّها ... تأؤُّلَ رِبْعيِّ السِّقابِ فَأَصْحَبَا أي: كان حُبُّها صغيرًا، فآل إلى العِظَم، كما آل السَّقْبُ إلى الكِبَرِ .
هذا معنى (التأويل) في اللغة .
ثم تُسَمَّى (العاقبةُ): (تأويلا)؛ لأنَّ الأمرَ يصيرُ إليها. و (التفسير) يُسمَّى: (تأويلًا)، وهو قوله: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 78]؛ أي: بِعِلْمِهِ وتفسيره؛ لأن التَّأويل: إخبارٌ عَمَّا يَرْجِعُ إليه اللفظُ مِنَ المعنى.
وذكرنا معنى التَّأوِيل [بأبلغ] مِنْ هذا، في سورة النساء، عند قوله: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] .
قال ابن عباس في رواية عطاء : {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} أي: طَلَبِ مُدَّةِ أُكْلِ مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم -.
وفي قول الزجاج : المراد به: الكفار ؛ طلبوا متى يُبْعثون؟ وكيف يكون إحياؤُهم بعد الموت؟ وفي قول الباقِين: معناه: طَلَبُ تفسير المُتَشابِهِ، وعِلْمِهِ. قال الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} يريد: ما يَعلَمُ انقضاءَ مُلْكِ أُمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلّا الله؛ لأن انقضاءَ مُلك هذه الأُمَّةِ مع قيام الساعَةِ، ولا يَعْلَم ذلك مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبِيٌ مُرْسَلٌ. وهذا قولُ عطاء . وعلى هذا؛ يَحْسُنُ الوقفُ على قوله: {إِلَّا اللَّهُ}، وكذلك على قول الزجاج؛ لأن وقت البعثِ لا يَعلَمُهُ إلا الله. ثم ابتدأ، فقال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} أي: الثابتون فيه. والرُّسُوخُ في اللغة : الثُّبُوتُ في الشيء . وعند أكثر المفَسِّرين : المرادُ بـ (الراسخين علمًا): مُؤْمِني أهل الكتاب؛ دليله: قوله: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} [النساء: 162]. قال ابن عباس ، ومجاهد ، والسُّدِّي : بقولهم: {آمَنَّا بِهِ}، سَمَّاهُم اللهُ (راسخينَ في العِلْم). فَرُسُوخُهم في العِلْمِ؛ قولُهم: {آمَنَّا بِهِ} أي: بالمُتَشَابِهِ.
{كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} المُحْكَم والمُتشابه؛ الناسخُ والمنسوخ؛ وما عَلِمْناه وما لَمْ نعْلَمْه.
وقال الزجاج : أي: يقولون: صَدَّقنا بأن الله عز وجل يبعثنا، ويؤمنون بأنَّ البَعْثَ حَقٌّ، كما أنَّ الإنشاءَ حَقٌّ.
وقوله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}. قال عطاء : هذا ثَنَاءٌ مِن الله تعالى على الذين قالوا: {آمَنَّا بِهِ}، معناه: ما يَتَّعِظُ [بما] في القُرْآن، إلّا ذَوُو العُقُول.
وقال الزَّجَّاج : هذا دليلٌ على أن الأمرَ الذي اشْتَبَهَ عليه من البَعْثِ، لمْ يَتَدَبَّرُوه، ومعناه: ما يَتَدَّبر القرآنَ، وما أتَى به الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -، إلّا أوْلُوا الألباب. والأظهر في تفسير هذه الآية: قولُ عطاء: إنَّ هذا في اليهود، حين طلبوا تفسيرَ الحروف المُقَطَّعَة، والقولُ الذي حكاه الزجَّاج: إن هذه في منكري البعث.
ويقال: هل يجوز أن يكون في القرآن شيءٌ، لا يعلمه إلا الله؟ فيقال: اختلف الصحابة والناسُ في هذا:
فذهب الأكثرون: إلى أنَّ تَمَامَ الوَقْفِ على قوله: {إِلَّا اللَّهُ}، وأن جميع المتشابه لا يعلمه إلا الله؛ مثل: وقت قيام الساعة، وطلوع الشمس من المغرب، ونزول عيسى، وخروج الدجَّال.
وقال قومٌ: في القرآن أشياء لا يَعْرِف حقيقَتَها إلا الله؛ كالحروف المُقَطَّعة، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [المائدة: 64]، وقوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، وأشباه هذا. والله تعالى مُخْتَصٌّ مُستأثِرٌ بِعِلْم هذه، والإيمانُ بها حَقٌّ، وحقائقُ عُلُومِها مُفَوَّضَةٌ إلى الله تعالى.
وهذا مذهب: عائشة، وابن مسعود، وابن عباس، وأُبَي، وكثير من التابعين، واختيار الفَرّاء، والكسائي ، والمُفَضَّل ، وابن الأنباري، وأَبي عُبَيد ، وأحمد بن يحيى .
ودليل هذا القول: قراءة عبد الله : (إنْ تَأويلُهُ إلّا عِنْدَ الله. والرّاسخون في العِلْم يقولون آمَنّا به) . وفي حرف أُبَيٍّ، وابن عباس: (ويقول الراسخون في العلم آمَنّا به) . وهذا هو الأشبه بظاهر الآية؛ لأنه لو كان {الرَّاسِخُونَ} عَطْفًا، لَقَال: ويقولون آمنّا به.
وفي قوله أيضًا: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، دليلٌ على أنهم لَمْ يَعْرِفوا البعضَ فآمَنُوا بظاهره، وقالوا: إنه من عند الله.
وقد رُوي عن ابن عباس، أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسيرٌ لا يَسَعُ أحدًا جَهْلُه، وتفسيرٌ تَعرِفُهُ العربُ بألسنتها، وتفسيرٌ يَعْلَمُهُ العلماءُ، وتفسيرٌ لا يعلمه إلا الله . وعلى هذا المذهب؛ إنما أنزل الله -تعالى- ما لا يعلمه إلّا هو؛ اختبارًا للعباد، لِيُؤمِنَ به المُؤْمِنُ فَيَسْعَد، ويكفر به الكافرُ فَيَشْقَى؛ لأن سبيلَ المُؤْمِنِ إذا قرأ من هذا شيئًا، أنْ يُصَدِّق رَبه عز وجل، ولا يعترض فيه بسؤال وإنكار؛ فَيَعْظُمَ -بذلك- ثوابُهُ على الله عز وجل.
فإن قيل: وأي تخصيصٍ لِلرَّاسخين إذا لم يَعرِفوا، فإنَّ غيرَهم أيضًا يقولون: {آمَنَّا بِهِ}، فَلِمَ خَصَّ الراسخينَ بالذكر؟
قلنا: المراد بـ (الراسخين): كلُّ مَنْ يقول: {آمَنَّا} وليس المراد بهم الذين يدأبون في التَّعَلُّمِ ويَجْتَهِدُون. وقد ذكرنا عن ابن عباس، أنه قال: سمَّاهم (راسخين)، بقولهم: {آمَنَّا}.
وقال مجاهد ، والربيع ، ومحمد بن جعفر بن الزبير : المتشابه يعلمه الله، ويعلمه الراسخون. ولا يجوز أن يكون في القرآن شيءٌ، لا يعرفه أحدٌ مِنَ الأُمَّةِ. وهذا اختيار ابن قتيبة ، وزَعَمَ أنَّ الراسخينَ في العِلْمِ عَلِمُوا تأويل القرآن مع الله تعالى؛ لأنه لم يُنْزِلْ كتابَهُ، إلا لِيَنْفَعَ به عِبَادَه، ويدل على المعنى الذي أراده. وتأوَّلَ قولَهُ: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}، على أنه حالٌ صُرِفَت إلى المُضَارَعَةِ؛ أي : (والراسخون في العلم، قائلين آمَنَّا به).
قال: ومثله من الكلام: (لا يَأتِيك إلا عبدُ الله، وزَيْدٌ يقول: أنا مسرورٌ بزيارتك)، تريد : (لا يأتيك إلا عبدُ الله، وزيدٌ قائلًا: أنا مسرورٌ بزيارتك). فـ (زيد) عطفٌ على (عبد الله) .
واحتج لهذه الطريقة في كتابه (المُشْكل) بما يطول ذِكْرُه .

التحرير والتنوير لابن عاشور

استئناف ثالث بإخبار عن شأن من شؤون الله تعالى ، متعلّق بالغرض المسوق له الكلام: وهو تحقيق إنزاله القرآنَ والكتابينِ من قبله، فهذا الاستئناف مؤكّد لمضمون قوله: { نزل عليك الكتاب بالحق } [آل عمران: 3] وتمهيد لقوله: {منه آيات محكمات} لأنّ الآيات نزلت في مجادلة وفد نجران، وصُدّرت بإبطال عقيدتهم في إلاهية المسيح: فالإشارة إلى أوصاف الإله الحقّة، تَوَجَّه الكلام هنا إلى إزالة شبهتهم في شأن زعمهم اعترافَ نصوص القرآن بإلهية المسيح؛ إذ وُصف فيها بأنّه روح الله؛ وأنّه يُحي الموتى وأنّه كلمة الله، وغير ذلك فنودي عليهم بأن ما تعلّقوا به تعلّق اشتباه وسوء تأويل.

وفي قوله: {هو الذي أنزل عليك الكتاب} قصر صفة إنزال القرآن على الله تعالى: لتكون الجملة، مع كونها تأكيداً وتمهيداً، إبطالاً أيضاً لقول المشركين: {إنّما يعلّمه بَشَر} [النحل: 103] وقولهم: {أساطير الأوّلين اكتَتبها فهي تُمْلَى عليه بُكْرَةً وأصيلا} [الفرقان: 5]، وكقوله: {وما تنزلت به الشياطين وما ينبغِي لهم وما يستطيعون إنّهم عن السمع لمعزولون} [الشعراء: 210 ـــ 212] ذلك أنّهم قالوا: هو قول كاهن، وقول شاعر، واعتقدوا أنّ أقوال الكهّان وأقوال الشعراء من إملاء الأرْئِياء (جمعَ رئي).

ومن بدائع البلاغة أن ذكر في القصر فعل أنزل، الذي هو مختصّ بالله تعالى ولو بدون صيغة القصر، إذ الإنزال يرادف الوحي ولا يكون إلاّ من الله بخلاف ما لو قال هو الذي آتاك الكتاب.

وضمير {منه} عائد إلى القرآن، و«منه» خبر مقدم و{آيات محكمٰت} مبتدأ.

والإحكام في الأصل المنع، قال جرير:.

أبني حنيفة أحْكِموا سُفَهَاءَكم   ***   إنّي أخاف عليكُم أنْ أغضبَا.

واستعمل الإحكام في الإتقان والتوثيق؛ لأنّ ذلك يمنع تطرّق ما يضادّ المقصود، ولذا سمّيت الحِكْمة حكْمَة، وهو حقيقة أو مجاز مشهور.

أطلق المحكم في هذه الآية على واضح الدلالة على سبيل الاستعارة لأنّ في وضوح الدلالة، منعاً لتطرّق الاحتمالات الموجبة للتردّد في المراد، وأطلق التشابه هنا على خفاء الدلالة على المعنى، على طريقة الاستعارة لأنّ تطرّق الاحتمال في معاني الكلام يفضي إلى عدم تعيّن أحد الاحتمالات، وذلك مثل تشابُه الذوات في عدم تمييز بعضها عن بعض.

وقوله: {أم الكتاب} أمّ الشيء أصله وما ينضمّ إليه كثيره وتتفرّع عنه فروعه، ومنه سمّيت خريطة الرأس، الجامعة له: أمّ الرأس وهي الدمَاغ، وسمّيت الراية الأمّ، لأنّ الجيْش ينضوي إليها، وسمّيت المدينة العظيمة أمّ القرى، وأصل ذلك أنّ الأمّ حقيقة في الوالدة، وهي أصل للمولود وجامع للأولاد في الحضانة، فباعتبار هذين المعنيين، أطلق اسم الأمّ على ما ذكرنا، على وجه التشبيه البليغ، ثم شاع ذلك الإطلاق حتى ساوى الحقيقة، وتقدّم ذلك في تسمية الفاتحة أمّ القرآن.

والكتاب: القرآن لا محالة؛ لأنّه المتحدّث عنه بقوله: {هو الذي أنزل عليك الكتاب} فليس قوله: {أم الكتاب} هنا بمثلِ قوله: {وعنده أم الكتاب} [الرعد: 39].

وقوله: {وأُخر متشابهات} المتشابهات المتماثلات، والتماثل يكون في صفات كثيرة فيبين بما يدل على وجه التماثل، وقد يترك بيانه إذا كان وجه التماثل ظاهراً، كما في قوله تعالى: { إن البقر تشابه علينا } [البقرة: 70] ولم يذكر في هذه الآية جهة التشابه.

وقد أشارت الآية: إلى أنّ آيات القرآن صنفان: محكمات وأضدادها، التي سميت متشابهات، ثم بيّن أنّ المحكمات هي أمّ الكتاب، فعلمنا أنّ المتشابهات هي أضداد المحكمات، ثم أعقب ذلك بقوله: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} [آل عمران: 7] أي تأويله الذي لا قبل لأمثالهم به فعلمنا أنّ المتشابهات هي التي لم يتّضح المقصود من معانيها، فعلمنا أنّ صفة المحكمات، والمتشابهات، راجعة إلى ألفاظ الآيات.

ووصف المحكمات بأنّها أمُّ الكتاب فاحتمل أن يكون المراد من الأمّ الأصل، أو المرجع، وهما متقاربان: أي هنّ أصل القرآن أو مرجعه، وليس يناسب هذين المعنيين إلاّ دلالةُ القرآن؛ إذ القرآن أنزل للإرشاد والهدي، فالمحكمات هي أصول الاعتقاد والتشريع والآداب والمواعظ، وكانت أصولاً لذلك: باتّضاح دلالتها، بحيث تدل على معانٍ لا تحتمل غيرها أو تحتمله احتمالاً ضعيفاً غير معتدَ به، وذلك كقوله: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] {لا يُسأل عمّا يفعل} [الأنبياء: 23] {يريد اللَّه بكم اليسر} [البقرة: 185] {واللَّه لا يحبّ الفساد} [البقرة: 205] {وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى فإنّ الجنة هي المأوى} [النازعات: 40]، وباتّضاح معانيها بحيث تتناولها أفهام معظم المخاطبين بها وتتأهّل لفهمها فهي أصل القرآن المرجوعُ إليه في حمل معاني غيرها عليها للبيان أو التفريع.

والمتشابهات مقابل المحكمات، فهي التي دلّت على معانٍ تشابهت في أن يكون كلُّ منها هو المرادَ، ومعنى تشابهها: أنّها تشابهت في صحة القصد إليها، أي لم يكن بعضها أرجح من بعض، أو يكون معناها صادقاً بصور كثيرة متناقضة أو غير مناسبة لأن تكون مراداً، فلا يتبيّن الغرض منها، فهذا وجه تفسير الآية فيما أرى.

وقد اختلف علماء الإسلام في تعيين المقصود من المحكمات والمتشابهات على أقوال: مرجعها إلى تعيين مقدار الوضوح والخفاء، فعن ابن عباس: أنّ المحكم ما لا تختلف فيه الشرائع كتوحيد الله تعالى ، وتحريم الفواحش، وذلك ما تضمنته الآيات الثلاث من أواخر سورة [الأنعام:151]: {قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم} والآيات من سورة [الإسراء: 23]: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وأن المتشابه المجملات التي لم تبيّن كحروف أوائل السور.

وعن ابن مسعود، وابن عباس أيضاً: أنّ المحكم ما لم ينسخ والمتشابه المنسوخ وهذا بعيد عن أن يكون مراداً هنا لعدم مناسبتِه للوصفين ولا لبقية الآية.

وعن الأصم: المحكم ما اتّضح دليلُه، والمتشابه ما يحتاج إلى التدبّر، وذلك كقوله تعالى: {والذي نزّل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتاً كذلك تخرجون} [الزخرف: 11] فأولها محكم وآخرها متشابه.

وللجمهور مذهبان:.

أولهما أنّ المحكم ما اتّضحت دلالته، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، ونسب هذا القول لمالك، في رواية أشهب، من جامع العتبيَّة، ونسبه الخفاجي إلى الحنفية وإليه مال الشاطبي في الموافقات.

وثانيهما أنّ المحكم الواضح الدلالة، والمتشابه الخفيُها، وإليه مال الفخر: فالنص والظاهر هما المحكم، لاتّضاح دلالتهما، وإن كان أحدهما أي الظاهر يتطرّقه احتمال ضعيف، والمجمل والمؤوّل هما المتشابه، لاشتراكهما في خفاء الدلالة وإن كان أحدهما: أي المؤول دالاً على معنى مرجوح، يقابله معنى راجح، والمجمل دالاً على معنى مرجوح يقابله مرجوح آخر، ونسبت هذه الطريقة إلى الشافعية.

قال الشاطبي: فالتشابه: حقيقي، وإضافي، فالحقيقي: ما لا سبيل إلى فهم معناه، وهو المراد من الآية، والإضافي: ما اشتبه معناه، لاحتياجه إلى مراعاة دليل آخر، فإذا تقصّى المجتهد أدلّة الشريعة وجد فيها ما يبيّن معناه، والتشابه بالمعنى الحقيقي قليل جدّاً في الشريعة وبالمعنى الإضافي كثير.

وقد دلت هذه الآية على أنّ من القرآن محكماً ومتشابهاً، ودلت آيات أخر على أنّ القرآن كلَّه محكم، قال تعالى: {كتاب أحكمت آياته} [هود: 1] وقال: {تلك آيات الكتاب الحكيم} [يونس: 1] والمراد أنّه أحكم وأتقنَ في بلاغته، كما دلت آيات على أنّ القرآن كلّه متشابه، قال تعالى: {اللَّهُ نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً} [الزمر: 23] والمعنى أنّه تشابه في الحسن والبلاغة والحقيّة، وهو معنَى: «ولو كان من عند غير الله لوَجدوا فيه اختلافاً كثيراً» فلا تعارض بين هذه الآيات: لاختلاف المراد بالإحكام والتشابه في مواضعها، بحسب ما تقتضيه المقامات.

وسبب وقوع المتشابهات في القرآن: هو كونه دعوة، وموعظة، وتعليماً، وتشريعاً باقياً، ومعجزة، وخوطب به قوم لم يسبق لهم عهد بالتعليم والتشريع، فجاء على أسلوب مناسب لِجمع هذه الأمور، بحسب حال المخاطبين الذين لم يعتادوا الأساليب التدريسية، أو الأمالي العلمية، وإنّما كانت هجّيراهم الخطابة والمقاولة، فأسلوب المواعظ والدعوةِ قريب من أسلوب الخطابة، وهو لذلك لا يأتي على أساليب الكتب المؤلَّفة لِلعلم، أو القوانين الموضوعة للتشريع، فأودعت العلوم المقصودة منه في تضاعيف الموعظة والدعوة، وكذلك أودع فيه التشريع، فلا تجد أحكام نوع من المعاملات، كالبيع، متّصلاً بعضها ببعض، بل تجده موزّعاً على حسب ما اقتضته مقامات الموعظة والدعوة، ليخفّ تلقّيه على السامعين، ويعتادُوا علم ما لم يألفوه في أسلوب قد ألفوه فكانت متفرّقة يضمّ بعضها إلى بعض بالتدبّر، ثم إنّ إلقاء تلك الأحكام كان في زمان طويل، يزيد على عشرين سنة، ألقِي إليهم فيها من الأحكام بمقدار ما دعت إليه حاجتهم، وتحمّلته مقدرتهم، على أنّ بعض تشريعه أصول لا تتغيّر، وبعضه فروع تختلف باختلاف أحوالهم، فلذلك تجد بعضها عاماً، أو مطلقاً، أو مجملاً، وبعضها خاصاً، أو مقيداً، أو مبيَّناً، فإذا كان بعض المجتهدين يرى تخصيص عموم بعض عموماته بخصوص بعض الخصوصات مثلاً، فلعلّ بعضاً منهم لا يتمسّك إلاّ بعمومه، حينئذ، كالذي يرى الخاص الوارد بعد العام ناسخاً، فيحتاج إلى تعيين التاريخ، ثم إنّ العلوم التي تعرّض لها القرآن هي من العلوم العليا: وهي علوم فيما بعد الطبيعة، وعلوم مراتب النفوس، وعلوم النظام العمراني، والحكمة، وعلوم الحقوق. وفي ضيق اللغة الموضوعة عن الإيفاء بغايات المرادات في هاته العلوم، وقصور حالة استعداد أفهام عموم المخاطبين لها، مَا أوجب تشابهاً في مدلولات الآيات الدالة عليها. وإعجازُ القرآن: منه إعجاز نظمي ومنه إعجاز علمي، وهو فنّ جليل من الإعجاز بيّنته في المقدمة العاشرة من مقدّمات هذا التفسير، فلمّا تعرض القرآن إلى بعض دلائل الأكوان وخصائصها، فيما تعرّض إليه، جاء به محكياً بعبارة تصلح لحكاية حالته على ما هو في نفس الأمر، وربّما كان إدراك كنه حالته في نفس الأمر مجهولاً لأقوام، فيعدّون تلك الآي الدالة عليه من المتشابه فإذا جاء من بَعْدهم علموا أنّ ما عدّه الذين قبلهم متشابهاً ما هو إلاّ محكم.

على أنّ من مقاصد القرآن أمرين آخرين:.

أحدَهما كونه شريعة دائمة، وذلك يقتضي فتح أبواب عباراته لِمختلِف استنباط المستنبطين، حتى تؤخذ منه أحكام الأولين والآخرين، وثانيهما تعويد حَمَلة هذه الشريعة، وعلماء هذه الأمة، بالتنقيب، والبحث، واستخراج المقاصد من عويصات الأدلة، حتى تكون طبقات علماء الأمة صالحة - في كلّ زمان - لفهم تشريع الشارع ومقصده من التشريع، فيكونوا قادرين على استنباط الأحكام التشريعية، ولو صيغ لهم التشريع في أسلوب سهل التناول لاعتادوا العكوف على ما بينَ أنظارهم في المطالعة الواحدة، من أجل هذا كانت صلوحية عباراته لاختلاف منازع المجتهدين، قائمة مقام تلاحق المؤلّفين في تدوين كتب العلوم، تبعاً لاختلاف مراتب العصور.

فإذا علمت هذا علمت أصل السبب في وجود ما يسمّى بالمتشابه في القرآن، وبقي أن نذكر لك مراتب التشابه وتفاوت أسبابها، وأنّها فيما انتهى إليه استقراؤنا الآن عشر مراتب:.

أولاها: معانٍ قُصِد إيداعها في القرآن، وقُصد إجمالها: إمّا لعدم قابلية البشر لفهمها، ولو في الجملة، إن قلنا بوجود المجمل، الذي استأثر الله بعلمه، على ما سيأتي، ونحن لا نختاره. وإمّا لعدم قابليتهم لكنه فهمها، فألقيت إليهم على وجه الجملة أو لعدم قابلية بعضهم في عصر، أو جهةٍ، لفهمها بالكنة ومن هذا أحوال القيامة، وبعضُ شؤون الربوبية كالإتيان في ظُلل من الغمام، والرؤية، والكلامِ، ونحو ذلك.

وثانيتها: معانٍ قصد إشعار المسلمين بها، وتَعيّن إجمالها، مع إمكان حملها على معانٍ معلومةٍ لكن بتأويلات: كحُروف أوائل السور، ونحوِ {الرحمانُ على العرش استوى} [طه: 5] {ثم استوى إلى السماء} [البقرة: 29].

ثالثتها: معانٍ عاليةً ضاقت عن إيفاء كنهها اللغةُ الموضوعةُ لأقصى ما هو متعارَف أهلها، فعبّر عن تلك المعاني بأقصى ما يقرِّب معانيَها إلى الأفهام، وهذا مثل أكثر صفات الله نحو الرحمان، الرؤوف، المتكبّر، نورُ السمٰوات والأرض.

رابعتها: معانٍ قَصُرت عنها الأفهام في بعض أحوال العصور، وأودعت في القرآن ليكون وجودها معجزة قُرآنيَّة عند أهل العلم في عصور قد يضعف فيها إدراك الإعجاز النظمي، نحو قوله: {والشمس تجري لمستقر لها} [يس: 38] {وأرسلنا الرياح لواقح} [الحجر: 22] {يكور الليل على النهار} [الزمر: 5] {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب} [النمل: 88] {تنبت بالدهن} [المؤمنون: 20] {زيتونة لا شرقية ولا غربية} [النور: 35] {وكان عرشه على الماء} [هود: 7] {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} [فصلت: 11] وذكرِ سُدِّ يأجوج ومأجوج.

خامستها: مَجازات وكنايات مستعملة في لغة العرب، إلاّ أنّ ظاهرها أوهم معاني لا يليق الحمل عليها في جانب الله تعالى: لإشعارها بصفات تخالف كمال الإلهية، وتوقّف فريق في محملها تنزيهاً، نحو: {فإنّك بأعيننا} [الطور: 48] {والسماء بنيناها بأيدٍ} [الذاريات: 47] {ويبقى وجه ربّك} [الرحمٰن: 27].

وسادستها: ألفاظ من لغات العرب لم تُعرف لدى الذين نزل القرآن بينهم: قريش والأنصار مثل: {وفاكهة وأبّا} [عبس: 31] ومثل {أو يأخذهم على تخوف} [النحل: 47] {إنّ إبراهيم لأوّاه حليم} [التوبة: 114] {ولا طعامٌ إلاّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36].

سابعتها: مصطلحات شرعية لم يكن للعرب علم بخصوصها، فما اشتهر منها بين المسلمين معناه، صار حقيقة عرفية: كالتيمّم، والزكاة، وما لم يشتهر بقي فيه إجمال: كالربا قال عمر: «نزلت آيات الربا فِي آخر ما أنزل فتوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبيّنها» وقد تقدم في سورة البقرة.

ثامنتها: أساليب عربية خفيت على أقوام فظنّوا الكلام بها متشابهاً، وهذا مثل زيادة الكاف في قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] ومثل المشاكلة في قوله: {يخادعون اللَّه وهو خادعهم} [النساء: 142] فيعلم السامع أنّ إسناد خادع إلى ضمير الجلالة إسناد بمعنى مجازي اقتضته المشاكلة.

وتاسعتها: آيات جاءت على عادات العرب، ففهمها المخاطبون، وجاء مَن بعدهم فلم يفهموها، فظنّوها من المتشابه، مثل قوله: {فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أَنْ يَطَّوّفَ بهما} [البقرة: 158]، في «الموطأ» قال ابن الزبير: «قلت لعائشة - وكنت يومئذ حدثاً لم أتفقّه - لا أرى بأساً على أحدٍ ألاّ يطوف بالصفا والمروة» فقالت له: «ليس كما قلت إنّما كان الأنصار يهلون لمناةَ الطاغية» إلخ. ومنه: {عَلِم اللَّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم} [البقرة: 187] {ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتّقوا وءامنوا} [المائدة: 93] الآية فإنّ المراد فيما شربوا من الخمر قبل تحريمها.

عاشرتها: أفهام ضعيفة عَدت كثيراً من المتشابه وما هو منه، وذلك أفهام الباطنية، وأفهام المشبِّهة، كقوله تعالى: {يوم يكشف عن شاق} [القلم: 42].

وليس من المتشابه ما صرّح فيه بأنّا لا نصل إلى علمه كقوله: {قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: 85] ولا ما صرّح فيه بجهل وقته كقوله: {لا تأتيكم إلاّ بغتة} [الأعراف: 187].

وليس من المتشابه ما دلّ على معنى يعارض الحملَ عليه دليل آخر، منفصل عنه؛ لأنّ ذلك يرجع إلى قاعدة الجمع بين الدليلين المتعارضين، أو ترجيح أحدهما على الآخر، مثل قوله تعالى خطاباً لإبليس: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك} الآية في سورة [الإسراء: 64] مع ما في الآيات المقتضية {فإنّ الله غني عنكم ولا يرضَى لعباده الكفر} [الزمر: 7] والله لا يحبّ الفساد.

وقد علمتم من هذا أنّ مِلاك التشابه هو عدم التواطؤ بين المعاني واللغة: إمّا لضيقها عن المعاني، وإمّا لضيق الأفهام عن استعمال اللغة في المعنى، وإمّا لتناسي بعض اللغة، فيتبيّن لك أنّ الإحكام والتشابه: صفتان للألفاظ، باعتبار فهم المعاني.

وإنّما أخبر عن ضمير آياتٍ محكمات، وهو ضمير جمع، باسم مفرد ليس دالاً على أجزاءٍ وهو {أمّ}، لأنّ المراد أنّ صنف الآيات المحكمات يتنزّل من الكتابِ منزلة أمّه أي أصله ومرجِعه الذي يُرجّع إليه في فهم الكتاب ومقاصده، والمعنى: هنّ كأمِّ للكتاب، ويعلم منه أنّ كل آية من المحكمات أم للكتاب في ما تتضمّنه من المعنى، وهذا كقول النابغة يَذْكُر بني أسد:.

فَهُمْ دِرْعِي التِي استلأمْتُ فيها.

أي مجموعهم كالدِّرع لي، ويعلم منه أنّ كلّ أحد من بني أسد بمنزلة حلقة من حلق الدرع، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {واجعلنا للمتقين إماما} [الفرقان: 74].

والكلام على (أخَر) تقدّم عند قوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} [البقرة: 184].

تفصيل لإجمال اقتضاه الكلام السابق؛ لأنّه لما قسّم الكتاب إلى محكم ومتشابه، وكان ذلك التقسيم باعتبار دلالة الألفاظ على المعاني، تشوّفت النفس إلى معرفة تلقّي الناس للمتشابه، أمّا المحكم فتلقّي الناس له على طريقة واحدة، فلا حاجة إلى تفصيل فيه، واقتصر في التفصيل على ذكر قسم من أقسامه: وهو حال الذين في قلوبهم زيغ كيف تلقّيهم للمتشابهات؛ لأنّ بيان هذا هو الأهمّ في الغرض المسوق له الكلام، وهو كشف شبهة الذين غرّتهم المتشابهات ولم يهتدوا إلى حقّ تأويلها، ويعرف حال قسيمهم وهم الذين لا زيغ في قلوبهم بطريق المقابلة ثم سيُصرّح بإجمال حال المهتدين في تلقّي ومتَشابهات القرآن.

والقلوب محالُّ الإدراك، وهي العقول، وتقدّم ذلك عند قوله تعالى: {ومن يكتمها فإنّه آثم قلبه} في سورة [البقرة: 283].

والزيغ: الميل والانحراف عن المقصود: {ما زاغ البصر} [النجم: 17] ويقال: زاغت الشمس، فالزيغ أخصّ من الميل؛ لأنّه ميل عن الصواب والمقصودِ.

والاتّباع هنا مجاز عن الملازمة والمعاودة، أي يعكفون على الخوض في المتشابه، يحصونه، شبهت تلك الملازمة بملازمة التابع متبوعَهُ.

وقد ذكر علة الاتّباع، وهو طلب الفتنة، وطَلبُ أن يؤوّلوه، وليس طلبُ تأويله في ذاته بمذمّة، بدليل قوله: {وما يعلم تأويله إلاّ اللَّهُ والراسخون في العلم} كما سنبيِّنه وإنّما محلّ الذم أنّهم يطلبون تأويلاً ليسوا أهلاً له فيؤوّلونه بما يُوافق أهواءهم. وهذا ديدن الملاحِدة وأهلِ الأهواء: الذين يتعمّدون حمل الناس على متابعتهم تكثيراً لسوادهم.

ولما وَصَف أصحَاب هذا المقصد بالزيغ في قلوبهم، علمنا أنّه ذمهم بذلك لهذا المقصد، ولا شك أنّ كل اشتغال بالمتشابه إذا كان مفضياً إلى هذا المقصد يناله شيء من هذا الذم، فالذين اتّبعوا المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله المنافقون، والزنادقة، والمشركون مثال تأويل المشركين: قصةُ العاصي بن وائل - من المشركين - إذْ جاءه خباب بن الأرت - من المسلمين - يتقاضاه أجراً، فقال العاصي - متهكّما به - «وإنِّي لمبعوثٌ بعد الموت - أي حَسْب اعتقادكم - فسوفَ أقضيك إذا رجعتُ إلى مال وولد» فالعاصي توهّم، أو أراد الإيهام، أنّ البعث بعد الموت رجوع إلى الدنيا، أو أراد أن يوهم دهماء المشركين ذلك ليكون أدْعَى إلى تكذيب الخبر بالبعث، بمشاهدة عدم رجوع أحد من الأموات، ولذلك كانوا يقولون: {فأتُوا بآبائنا إن كُنتم صادقين} [الدخان: 36].

ومثال تأويل الزنادقة: ما حكاه محمد بن علي بن رزام الطائي الكوفي قال: كنت بمكة حين كان الجَنَّابي - زعيم القرامطة - بمكة، وهم يقتلون الحجاج، ويقولون: أليس قد قال لكم محمد المكي «ومن دخله كان آمناً فأيُّ أمْن هنا ؟» قال: فقلت له: هذا خرج في صورة الخبر، والمراد به الأمرُ أي ومن دخله فأمِّنُوه، كقوله: {والمطلقات يتربّصن} [البقرة: 228]. والذين شابهوهم في ذلك كلّ قوم يجعلون البحث في المتشابه ديدنهم، ويفضون بذلك إلى خلافات وتعصّبات، وكلّ من يتأوّل المتشابه على هواه، بغير دليل على تأويله مستند إلى دليل واستعمال عربي.

وقد فُهم أنّ المراد: التأويل بحسب الهوى، أو التأويل المُلْقِي في الفتنة، بقرينة قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا اللَّه والراسخون في العلم يقولون ءامنّا به} الآية، كما فهم من قوله: {فيتّبعون} أنّهم يهْتَمُّون بذلك، ويستهترون به، وهذا ملاك التفرقة بين حال من يتبع المتشابه للإيقاع في الشك والإلحاد، وبين حال من يفسّر المتشابه ويؤوّله إذا دعاه داع إلى ذلك، وفي «البخاري» - عن سعيد بن جُبير - أنّ رجلاً قال لابن عباس: «إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ» قال: ما هو - قال: «فلا أنسَابَ بينهم يومئذ ولا يتساءلون» - وقال - «وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون» وقال: «ولا يكتمون الله حديثاً» وقال: «قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين» قال ابن عباس: «فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى ثم النفخة الثانية أقبل بعضهم على بعض يتساءلون، فأما قوله: { والله ربّنا ما كنّا مشركين } [الأنعام: 23] فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول المشركون: تعالَوا نقلْ: «ما كنا مشركين، فيختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم فعند ذلك لا يكتمون الله حديثاً»، وأخرج البخاري، عن عائشة: قالت «تلا رسول الله هذه الآية إلى قوله: { أولوا الألباب } [البقرة: 269] - قالت - قال رسول الله:» "فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم".

ويقصد من قوله تعالى: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه} التعريض بنصارى نجران، إذ ألزموا المسلمين بأنّ القرآن يشهد لكون الله ثالث ثلاثة بما يقع في القرآن من ضمير المتكلم ومعه غيره من نحو خلقنا وأمرنا وقضينا، وزعموا أنّ ذلك الضمير له وعيسى ومريم ولا شك أنّ هذا - إن صح عنهم - هو تمويه؛ إذ من المعروف أنّ في ذلك الضمير طريقتين مشهورتين إما إرادة التشريك أو إرادة التعظيم فما أرادوا من استدلالهم هذا إلا التمويه على عامة الناس.

جملة حال أي وهم لا قِبل لهم بتأويله؛ إذ ليس تأويله لأمثالهم، كما قيل في المثل: «ليس بعشّك فادرجي».

ومن هنا أمسك السلف عن تأويل المتشابهات، غير الراجعة إلى التشريع، فقال أبو بكر رضي الله عنه : «أيُّ أرضٍ تُقِلّنِي وأيُّ سماء تُظِلُّنِي إن قلتُ في كتاب الله بما لا أعلم»، وجاء في زمن عمر - رضي الله عنه  - رجل إلى المدينة من البصرة، يقال له صَبِيغ بن شريك أو ابن عِسْل التميمي فجعل يسأل الناس عن متشابه القرآن، وعن أشياء فأحضره عمر، وضربه ضرباً موجعاً، وكرّر ذلك أياماً، فقال: «حسبُك يا أمير المؤمنين فقد ذهب ما كنتُ أجد في رأسي» ثم أرجعه إلى البصرة وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن يمنع الناس من مخالطته، ومن السلف من تأوّل عند عروض الشبهة لبعض الناس، كما فعل ابن عباس فيما ذكرناه آنفا.

قال ابن العربي في «العواصم من القواصم» - «من الكائدين للإسلام الباطنية والظاهرية». قلت: أمَّا الباطنية فقد جعلوا معظم القرآن متشابهاً، وتأوّلوه بحسب أهوائهم، وأمّا الظاهريون فقد أكثروا في متشابهه، واعتقدوا سبب التشابه واقعاً، فالأوّلون دخلوا في قوله: {وابتغاء تأويله}، والأخيرون خرجوا من قوله: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} أو وما يعلم تأويله إلا الله، فخالفوا الخلف والسلف، قال ابن العربي - «في العواصم» - «وأصل الظاهريين الخوارج الذين قالوا: لا حُكْم إلاّ لله» يعني أنّهم أخذوا بظاهر قوله تعالى: {إنِ الحُكْمُ إلا لله} ولم يتأولوه بما هو المراد من الحكم.

والمراد بالراسخين في العلم: الذين تمكّنوا في علم الكتاب، ومعرفة محامله، وقام عندهم من الأدلة ما أرشدهم إلى مراد الله تعالى، بحيث لا تروج عليهم الشبه، والرسوخ في كلام العرب: الثبات والتمكن في المكان، يقال: رسخت القدم ترسخ رسوخاً إذا ثبتت عند المشي ولم تتزلزل، واستعير الرسوخ لكمال العقل والعلم بحيث لا تضلّله الشبه، ولا تتطرّقه الأخطاء غالباً، وشاعت هذه الاستعارة حتى صارت كالحقيقة، فالراسخون في العلم: الثابتون فيه العارفون بدقائقه، فهم يحسنون مواقع التأويل، ويعلمونه.

ولذا فقوله: {والراسخون} معطوف على اسم الجلالة، وفي هذا العطف تشريف عظيم: كقوله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم} [آل عمران: 18] وإلى هذا التفسير مَال ابن عباس، ومجاهد، وَالربيع بن سليمان، والقاسم بن محمد، والشافعية، وابن فورك، والشيخ أحمد القرطبي، وابن عطية، وعلى هذا فليس في القرآن آية استأثر الله بعلمها، ويؤيّد هذا أن الله أثبت للراسخين في العلم فضيلة، ووصفهم بالرسوخ، فآذن بأنّ لهم مزية في فهم المتشابه: لأنّ المحكم يستوي في علمه جميع من يفهم الكلام، ففي أيِّ شيء رسوخهم، وحكى إمام الحرمين، عن ابن عباس: أنّه قال في هاته الآية: «أنا ممّن يعلم تأويله».

وقيل: الوقف على قوله: {إلا الله} وإنّ جملة {والراسخون في العلم} مستأنفة، وهذا مروي عن جمهور السلف، وهو قول ابن عمر، وعائشة، وابن مسعود، وأبي، ورواه أشهب عن مالك في جامع العتبية، وقاله عروة بن الزبير، والكسائي، والأخفش والفرّاء، والحنفية، وإليه مال فخر الدين.

ويؤيّد الأول وصفهم بالرسوخ في العلم؛ فإنّه دليل بيّن على أنّ الحُكم الذي أثبت لهذا الفريق، هو حكم من معنى العلم والفهم في المعضِلات، وهو تأويل المتشابه، على أنّ أصل العطف هو عطف المفردات دون عطف الجمل، فيكون الراسخون معطوفاً على اسم الجلالة فيدخلون في أنّهم يعلمون تأويله. ولو كان الراسخون مبتدأ وجملةُ: «يقولون ءامّنا به» خبراً، لكان حاصل هذا الخبر ممّا يستوي فيه سائر المسلمين الذين لا زيغ في قلوبهم، فلا يكون لتخصيص الراسخين فائدة، قال ابن عطية: «تسميتهم راسخين تقتضي أنّهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أيّ شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلاّ ما يعلمه الجميع وما الرسوخ إلاّ المعرفةُ بتصاريف الكلام بقريحة معدة» وما ذكرناه وذكره ابن عطية لا يعد وأن يكون ترجيحاً لأحد التفسيرين، وليس إبطالاً لمقابله إذ قد يوصف بالرسوخ من يفرق بين ما يستقيم تأويله، وما لا مطمع في تأويله.

 

وفي قوله: {وما يذكر إلا أولوا الألباب} إشعار بأنّ الراسخين يعلمون تأويل المتشابه.

واحتجّ أصحاب الرأي الثاني، وهو رأي الوقف على اسم الجلالة: بأنّ الظاهر أن يكون جملة (والراسخون) مستأنفة لتكون معادِلاً لجملة: {فأما الذين في قلوبهم زيغ}، والتقدير: وأمّا الراسخون في العلم، وأجاب التفتازاني بأنّ المعادِل لا يلزم أن يكون مذكوراً، بل قد يحذف لدلالة الكلام عليه، واحتجّوا أيضاً بقوله تعالى: {يقولون آمنا به كل من عند ربنا} قال الفخر: لو كانوا عالمين بتأويله لم يكن لهذا الكلام فائدة؛ إذ الإيمان بما ظهر معناه أمر غير غريب وسنجيب عن هذا عند الكلام على هذه الجملة، وذكر الفخر حججاً أخر غير مستقيمة.

ولا يخفى أنّ أهل القول الأول لا يثبتون متشابهاً غير ما خفي المراد منه، وأنّ خفاء المراد متفاوت، وأنّ أهل القول الثاني يثبتون متشابهاً استأثر الله بعلمه، وهو أيضاً متفاوت؛ لأنّ منه ما يقبل تأويلات قريبَة، وهو ممّا ينبغي ألاّ يعدّ من المتشابه في اصطلاحهم، لكنّ صنيعهم في الإمساك عن تأويل آيات كثيرة سَهْلٍ تأويلُها مثل {فإنّك بأعيننا} [الطور: 48] دلّ على أنّهم يسدّون باب التأويل في المتشابه، قال الشيخ ابن عطية «إنّ تأويل ما يمكن تأويله لا يَعلم تأويلَه - على الاستيفاء - إلاّ الله تعالى فمَن قالَ، من العلماء الحذّاق: بأنّ الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه، فإنّما أراد هذا النوع، وخافوا أن يظنّ أحد أنّ الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال».

وعلى الاختلاف في محمل العطف في قوله تعالى: {والراسخون في العلم} انبنى اختلاف بين علماء الأمة في تأويل ما كان متشابهاً: من آيات القرآن، ومن صحاح الأخبار، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فكان رأي فريق منهم الإيمانَ بها، على إبهامها وإجمالها، وتفويضَ العلم بكنه المراد منها إلى الله تعالى، وهذه طريقة سلَف علمائنا، قبل ظهور شكوك الملحدين أو المتعلِّمين، وذلك في عصر الصحابة والتابعين وبعض عصر تابعيهم، ويُعبّر عنها بطريقة السلف، ويقولون: طريقة السلف أسْلَمُ، أي أشدُّ سلامة لهم من أن يَتأوّلوا تأويلات لا يدرَى مدى ما تفضِي إليه من أمور لا تليق بجلال الله تعالى ولا تتّسق مع ما شرعه للناس من الشرائع، مع ما رأوا من اقتناع أهل عصرهم بطريقتهم، وانصرافهم عن التعمّق في طلب التأويل.

وكان رأي جمهور من جاء بعد عصر السلف تأويلها بمعانٍ من طرائق استعمال الكلام العربي البليغ من مجاز، واستعارة، وتمثيل، مع وجود الدّاعي إلى التأويل، وهو تعطّش العلماء الذين اعتادوا التفكر والنظر وفهم الجمع بين أدلّة القرآن والسنة، ويعبّر عن هذه الطريقة بطريقة الخلف، ويقولون: طريقة الخلف أعلم، أي أنسب بقواعد العلم وأقوى في تحصيل العلم القاطع لِجدال الملحدين، والمقنع لمن يتطلّبون الحقائق من المتعلّمين، وقد يصفونها بأنّها أحْكَمُ أي أشدّ إحكاماً؛ لأنّها تقنع أصحاب الأغراض كلّهم.

وقد وقع هذان الوصفان في كلام المفسّرين وعلماءِ الأصول، ولم أقف على تعيين أوّلِ من صدَرا عنه، وقد تعرّض الشيخ ابن تيمية - في «العقيدة الحموية» - إلى ردّ هذين الوصفين ولم ينسبهما إلى قائل، والموصوف بأسْلَم وبأعلَم الطريقةُ لا أهلُها؛ فإنّ أهل الطريقتين من أئمة العلم، وممّن سلموا في دينهم من الفِتن.

وليس في وصف هذه الطريقة، بأنّها أعْلَمُ أوْ أحْكَمُ، غضاضة من الطريقة الأولى؛ لأنّ العصور الذين درجوا على الطريقة الأولى، فيهم من لا تخفى عليهم محاملها بسبب ذوقهم العربي، وهديهم النبوي، وفيهم من لا يُعير البحثَ عنها جانباً من همّته، مثل سائر العامة. فلا جرم كان طَيّ البحث عن تفصيلها أسلم للعموم، وكان تفصيلها بعد ذلك أعْلَم لمن جاء بعدهم، بحيث لو لم يؤوِّلوها به لأوسعوا، للمتطلّعين إلى بيانها، مجالاً للشك أو الإلحاد، أو ضيقِ الصدر في الاعتقاد.

واعلم أنّ التأويل منه ما هو واضح بيِّن، فصرف اللفظ المتشابه عن ظاهره إلى ذلك التأويل يُعادِل حملَ اللفظ على أحد معنييه المشهورين لأجل كثرة استعمال اللفظ في المعنى غير الظاهر منه، فهذا القسم من التأويل حقيق بألاّ يسمّى تأويلاً وليس أحدُ مَحْمَلَيْه بأقوى من الآخر إلاّ أنّ أحدهما أسبقُ في الوضع من الآخر، والمحملان متساويان في الاستعمال وليس سبقُ إطلاق اللفظ على أحد المعنيين بمقتضٍ ترجيحَ ذلك المعنى، فكم من إطلاق مجازي للفظٍ هو أسبق إلى الأفهام من إطلاقه الحقيقي، وليس قولهم في علم الأصول بأنّ الحقيقة أرجحُ من المجاز بمقبول على عمومه.

وتسميةُ هذا النوع بالمتشابه ليست مرادة في الآية، وعدّه من المتشابه جمود.

ومن التأويل ما ظاهر معنى اللفظ فيه أشهر من معنى تأويله ولكنّ القرائن أو الأدلةَ أوجبت صرف اللفظ عن ظاهر معناه فهذا حقيق بأن يعدّ من المتشابه.

ثم إنّ تأويل اللفظ في مِثله قد يتيسّر بمعنى مستقيم يغلب على الظن أنّه المراد إذا جَرى حمل اللفظ على ما هو من مستعملاته في الكلام البليغ مثل الأيدي والأعين في قوله: {بَنيناها بأيدٍ} [الذاريات: 47] وقوله: {فإنَّك بأعيننا} [الطور: 48] فمَن أخذوا من مثله أنّ لله أعيناً لا يُعرف كنهها، أوْ له يداً ليست كأيدينا، فقد زادوا في قوة الاشتباه.

ومنه ما يعتبر تأويله احتمالاً وتجويزاً بأن يكون الصرف عن الظاهر متعيّناً وأمّا حمله على ما أوّلوه به فعلى وجه الاحتمال والمثالِ، وهذا مثل قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] وقوله: {هل ينظرون إلاّ أن يأتيَهم الله في ظُلَل من الغمام} [البقرة: 210] فمثل ذلك مقطوع بوجوب تأويله ولا يَدعي أحد، أن ما أوّلَه به هو المرادُ منه ولكنّه وجه تابع لإمكان التأويل، وهذا النوع أشدّ مواقع التشابه والتأويل.

وقد استبان لك من هذه التأويلات: أنّ نظم الآية جاء على أبلغ ما يعبّر به في مقام يسع طائفتين من علماء الإسلام في مختلف العصور.

وقوله: {يقولون آمنا به} حال من (الراسخون) أي يعلمون تأويله في هذه الحالة والمعنى عليه: يحتمل أن يكون المراد من القول الكناية عن الاعتقاد؛ لأنّ شأن المعتقد أن يقول معتَقَده، أي يعلمون تأويله ولا يهجس في نفوسهم شك من جهة وقوع المتشابه حتى يقولوا: لماذا لم يجىء الكلام كلّه واضحاً، ويتطرّقهم من ذلك إلى الرّيبة في كونه من عند الله، فلذلك يقولون: {كل من عند ربنا}، ويحتمل أنّ المراد يقولون لغيرهم: أي من لم يبلغ مرتبة الرسوخ من عامة المسلمين، الذين لا قِبل لهم بإدراك تأويله، ليعلّموهم الوقوف عند حدود الإيمان، وعدمَ التطلّع إلى ما ليس في الإمكان، وهذا يقرب ممّا قاله أهل الأصول: إنّ المجتهد لا يلزمه بيانُ مُدركه للعامي، إذا سأله عن مأخذ الحكم، إذا كان المدرَك خفياً، وبهذا يحصل الجواب عن احتجاج الفخر بهذه الجملة لترجيح الوقفِ على اسم الجلالة.

وعلى قول المتقدّمين يكون قوله: {يقولون} خبراً، ومعنى قولهم: {آمنا به} آمنّا بكونه من عند الله، وإن لم نفهم معناه.

وقوله: {كل من عند ربنا} أي كلٌ من المحكَم والمتشابه، وهو على الوجهين بيان لمعنى قولهم: {آمنا به}، فلذلك قطعت الجملة، أي كلّ من المحكم والمتشابه، مُنزل من الله.

وزيدت كلمة (عند) للدلالة على أنّ مِن هنا للابتداء الحقيقي دون المجازي، أي هو منزل من وحي الله تعالى وكلامِه، وليس كقوله: {ما أصابك مِن حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك} [النساء: 197].

وجملة {وما يذَّكَّر إلاّ أولوا الألباب} تذييل، ليس من كلام الراسخين، مَسوق مَساق الثناء عليهم في اهتدائهم إلى صحيح الفهم.

والألبابُ: العقول، وتقدّم عند قوله تعالى: {واتقون يا أولي الألباب} في سورة [البقرة: 197].

التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي

{مِنْهُ آيات محكمات} المحكم من القرآن: هو البيِّن المعنى، الثابت الحكم، والمتشابه: هو الذي يحتاج إلى التأويل، أو يكون مستغلق المعنى: كحروف الهجاء، قال ابن عباس: المحكمات: الناسخاتُ والحلال والحرام، والمتشابهات المنسوخات والمقدّم والمؤخر، وهو تمثيل لما قلنا {هُنَّ أُمُّ الكتاب} أي عمدة ما فيه ومعظمه {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} نزلت في نصارى نجران فإنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أليس في كتابك أن عيسى كلمة الله وروح منه؟ قال: نعم، قالوا: فحسبنا إذاً، فهذا من المتشابه الذي اتبعوه، وقيل: نزلت في أبي ياسر بن أخطب اليهودي وأخيه حيي ثم يدخل في ذلك كل كافر أو مبتدع، أو جاهل يتبع المتشابه من القرآن {ابتغاء الفتنة} أي ليفتنوا به الناس {وابتغاء تَأْوِيلِهِ} أي: يبتغون أن يتأوّلوه على ما تقتضي مذاهبهم، أو يبتغون أن يصلوا من معرفة تأويله إلى ما لا يصل إليه مخلوق {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} إخبارٌ بانفراد الله بعلم تأويل المتشابه من القرآن، وذم لمن طلب علم ذلك من الناس {والراسخون فِي العلم} مبتدأ مقطوع مما قبله، والمعنى أن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه وإنما يقولون: آمنا به على وجه التسليم والانقياد والاعتراف بالعجز عن معرفته، وقيل: إنه معطوف على ما قبله، وأن المعنى أنهم يعلمون تأويله، وكلا القولين مرويٌ عن ابن عباس، والقول الأول قول أبي بكر الصديق وعائشة، وعروة بن الزبير، وهو أرجح، وقال ابن عطية: المتشابه نوعان؛ نوع انفرد الله بعلمه، ونوع يمكن وصول الخلق إليه. فيكون الراسخون ابتداء بالنظر إلى الأول، وعطفاً بالنظر إلى الثاني {كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} أي: المحكم والمتشابه من عند الله {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} حكاية عن الراسخين، ويحتمل أن يكون منقطعاً على وجه التعليم والأوّل أرجح لاتصال الكلام، وأما قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب}: فهو من كلام الله تعالى، لا حكاية قول الراسخين. أو منقطعاً فهو من كلام الله.

التفسير الميسّر

هو وحده الذي أنزل عليك القرآن: منه آيات واضحات الدلالة, هن أصل الكتاب الذي يُرجع إليه عند الاشتباه, ويُرَدُّ ما خالفه إليه, ومنه آيات أخر متشابهات تحتمل بعض المعاني, لا يتعيَّن المراد منها إلا بضمها إلى المحكم, فأصحاب القلوب المريضة الزائغة, لسوء قصدهم يتبعون هذه الآيات المتشابهات وحدها; ليثيروا الشبهات عند الناس, كي يضلوهم, ولتأويلهم لها على مذاهبهم الباطلة. ولا يعلم حقيقة معاني هذه الآيات إلا الله. والمتمكنون في العلم يقولون: آمنا بهذا القرآن, كله قد جاءنا من عند ربنا على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, ويردُّون متشابهه إلى محكمه, وإنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها الصحيح أولو العقول السليمة.

التفسير الوسيط لطنطاوي

قوله - تعالى - : { مُّحْكَمَاتٌ } من الإِحكام - بكسر الهمزة - وهذه المادة تستعمل فى اللغة لمعان متعددة ، ترجع إلى شئ واحد هو المنع يقال : أحكم الأمر أى أتقنه ومنعه عن الفساد ويقال : أحكمه عن الشئ أى أرجعه عنه ومنعه منه . ويقال حكم نفسه وحكم الناس ، أى منع نفسه ومنع الناس عما لا يليق . ويقال أحكم الفرس أى جعل له حكمة تمنعه من الجموح والاضطراب .
وقوله : { هُنَّ أُمُّ الكتاب } أى أصله الذى فيه عماد الدين وفرائضه وحدوده وما يحتاج إليه الناس فى دنياهم وآخرتهم . وأم كل شئ : أصله وعماده .
قال ابن جرير : والعرب تسمى الأمر الجامع لمعظم الشئ أماً له . فيسمون راية القوم التى تجمعهم فى العساكر أمهم . ويسمون المدبر لمعظم أمر البلدة والقرية أمها " .
وقوله { مُتَشَابِهَاتٌ } من التشابه بمعنى أن يكون أحد الشيئين مشابهاً للآخر ومماثلا ومشاكلا له مشاكلة تؤدى إلى الالتباء غالباً . قال : أمور مشتبة ومشبهة - كمعظمة - : أى مشكلة . ويقال : شبه عليه الأمر تشبيها : لبس عليه .
ولقد جاء فى القرآن ما يدل على أنه كله محكم كما فى قوله - تعالى - { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } وجاء فيه ما يدل على أنه كله متشابه كما فى قوله - تعالى - { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } وجاء فيه ما يدل على أن بعضه متشابه كما فى الآية التى نحن بصدد تفسيرها . ولا تعارض بين هذه الإِطلاقات الثلاثة ، لأن معنى إحكامه كله : أنه متقن متين لا يتطرق إليه خلل أو اضطراب . ومعنى كونه كله متشابها أنه يشبه بعضه بعضا فى بلاغته وفصاحته وإعجازه وهدايته ، ومعنى أن بعضه محكم وبعضه متشابه ، فسنبينه بعد سرد بعض الأقوال التى قالها العلماء فى تحديد معنى كل منهما .
فمنهم من يرى أن المحكم هو الواضح الدلالة الذى لا يحتمل النسخ ، والمتشابه هو الخفى الذى لا يدرك معناه وهو ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة والروح .
ومنهم من يرى أن المحكم هو الواضح الدلالة الذى لا يحتمل النسخ ، والمتشابه هو الخفى الذى لا يدرك معناه وهو ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة والروح .
ومنهم من يرى أن المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان . والمتشابه هو الذى لا يستقل بنفسه ، بل يحتاج إلى بيان ، فتارة يبين بكذا ، وتارة يبين بكذا ، لحصول الاختلاف فى تأويله .
ومنهم من يرى أن المحكم هو الذى لا يحتمل فى تأويله إلا وجها واحداً والمتشابه هو الذى يحتمل أوجها . ومنهم من يرى أن المحكم ما كانت دلالته راجحة وهو النص والظاهر . أما المتشابه فهو ما كانت دلالته غير راجحة ، وهو المجمل والمؤول والمشكل .


 

هذه بعض الأقوال فى تحديد معنى المحكم والمتشابه . وقد اختار كثير من المحققين هذا القول الأخير ، ومعنى الآية الكريمة - بعد هذا التهميد الموجز :
الله - عز وجل - الذى لا إله إلا هو الحى القيوم ، والذى أنزل الكتب السماوية لهداية الناس ، والذى صورهم فى الأرحام كيف يشاء ، وهو الذى أنزل عليك - يا محمد - هذا الكتاب الكريم المعجز العظيم الشأن ، لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ، وقد اقتضت حكمة الله - تعالى - أن يجعل هذا الكتاب { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } أى واضحات الدلالة ، محكمات التراكيب ، جليات المعانى ، متقنات النظم والتعبير حاويات لكل ما يسعد الناس فى معاشهم ومعادهم ، بينات لا التباس فيها ولا اشتابه .
وقوله { هُنَّ أُمُّ الكتاب } أى هذه الآيات المحكمات الواضحات الدلالة المانعات من الوقوع فى الالتباس لانكشاف معانيها لكل ذى عقل سليم ، هن أصل الكتاب الذى يعول عليه فى معرفة الأحكام ، ويرجع إليه فى التمييز بين الحلال والحرام ، ويرد إليه ما تشابه من آياته ، وما استشكل من معانيها .
والجار والمجرور { مِنْهُ } خبر مقدم ، و { آيَاتٌ } مبتدأ مؤخر ، و { مُّحْكَمَاتٌ } صفة لآيات . وقوله { هُنَّ أُمُّ الكتاب } صفة ثانية للآيات .
قال الجمل : وأخبر بلفظ الواحد وهو { أُمُّ } عن الجمع وهو { هُنَّ } لأن الآيات كلها فى تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة ، وكلام الله واحد . أو أن كل واحدة منهن أم الكتاب كما قال - تعالى - : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } أى كل واحد منهما . أو لأنه مفرد واقع موقع الجمع " .
وقوله { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } أى ومنه آيات أخر متشابهات وذلك كالآيات التى تتحدث عن صفات الله - تعالى - مثل : الاستواء ، واليد والغضب ، ونحو ذلك من الآيات التى تحدثت عن صفاته - سبحانه - وكالآيات التى تتحدث عن وقت الساعة ، وعن الروح وعن حقيقة الجن والملائكة وكالحروف المقطعة فى أوائل السور .
قال الشيخ الزرقانى ما ملخصه : ومنشأ التشابه إجمالا هو خفاء مراد الشارع من كلامه . أما تفصيلا فنذكر أن منه ما يرجع خفاؤه إلى اللفظ من جهة غرابته كلفظ الأب فى قوله تعالى : { وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } أو من جهة اشتراكه بين معان عدة كما فى قوله - تعالى - { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين } أى فأقبل إبراهيم على الأصنام يضربها بيمينه ، أو بقوة ، أو بسبب اليمين التى حلفها . ومن هذا النوع فواتح السور المبدوءة بحروف التهجى لأن التشابه والخفاء فى المراد منها جاء من ناحية ألفاظها .
ومنه ما يرجع خفاؤه إلى المعنى ، ومثاله كل ما جاء فى القرآن وصفا لله - تعالى - أو لأهوال القيامة ، أو لنعيم الجنة . . فإن العقل البشرى لا يمكن أن يحيط بحقائق صفات الخالق ، ولا بأهوال يوم القيامة ، ولا بنعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار .


 

ثم قال - رحمه الله - ويمكننا أن ننوع المتشابهات ثلاثة أنواع :
النوع الأول : مالا يستطيع البشر جميعا أن يصلوا إليه كالعلم بذات الله وحقائق صفاته ، وكالعلم بوقت القيامة ونحوه مما استأثر الله بعلمه .
النوع الثانى : ما يستطيع كل إنسان أن يعرفه عن طريق البحث والدرس ، كالمتشابهات التى نشأ التشابه فيها من جهة الإِجمال والبسط والترتيب . والأمثلة على ذلك كثيرة ، فمثال التشابه بسبب الإِجمال قوله - تعالى :
{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } فإن خفاء المراد فيه جاء من ناحية إيجازه . والأصل : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى } لو تزوجتموهن فانكحوا من غيرهن { مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } .
النوع الثالث : ما يعلمه خواص العلماء دون عامتهم ولذلك أمثلة كثيرة من المعانى العالية التى تفيض على قلوب أهل الصفاء والاجتهاد عند تدبرهم لكتاب الله " .
ثم بين - سبحانه - موقف الذي فى قلوبهم مرض وانحراف عن الحق من متشابه القرآن فقال : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ } فالجملة الكريمة تفصيل لإِجمال اقتضاه الكلام السابق .
والزيغ - كما يقول القرطبى - الميل ، ومنه زاغت الشمس ، وزاغت الأبصار ، ويقال : زاغ يزيغ زيغاً إذا ترك القصد ، ومنه قوله - تعالى - : { فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } وهذه الآية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة ، وإن كانت الإِشارة بها فى ذلك الوقت إلى نصارى نجران .
والابتغاء : الاجتهاد فى الطلب . يقال : بغيت الشئ وابتغيته ، إذا طلبته بجد ونشاط . والفتنة : من الفتن : وأصل الفتن إدخال الذهب للنار لتظهر جودته من رداءته . والمراد بها هنا الإِضلال وإثارة الشكوك حول الحق .
والتأويل : يطلق بمعنى التفسير والتوضيح والبيان . ويطلق بمعنى حقيقة الشئ وما يؤول إليه أمره ، مأخوذ من الأول وهو الرجوع إلى الأصل .
يقال : آل الأمر إلى كذا يؤول أولاً أى رجع . وأولته إليه : رجعته .
المعنى : لقد اقتضت حكمتنا - يا محمد - أن ننزل عليك القرآن مشتملا على آيات محكمات هن أم الكتاب ، وعلى أخر متشابهات . فأما الفاسقون الذين فى قلوبهم انحراف عن طلب الحق ، وميل عن المنهج القويم ، وانصراف عن القصد السوى فيتبعون ما تشابه منه ، أى : يتعلقون بذلك وحده . ويعكفون على الخوض فيه . ولا تتجه عقولهم إلى المحكم ليردوا المتشابه إليه ، وإنما يلازمون الأخذ بالمتشابه كما يلازم التابع متبوعه ، لأنه يوافق اعوجاج نفوسهم وسوء نياتهم . وتحكم أهوائهم وشهواتهم .
وقد بين - سبحانه - أن اتباع هؤلاء الزائغين للمتشابه إنما يقصدون من ورائه أمرين :
أولهما : { ابتغاء الفتنة } أى طلبا لفتنة المؤمنين فى دينهم . وتشكيكهم فى عقيدتهم ، وإثارة الريب فى قلوبهم بأوهام يلقونها حول المتشابه الذى جاء به القرآن ، بأن يقولوا - كما حكى القرآن عنهم -


 

{ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } وبأن يقولوا : كيف يكون نعيم الجنة ، وما حقيقة الروح ولماذا يعذبنا الله على أعمالنا مع أنه هو الخالق لكل شئ ، إلى غير ذلك من الشبهات الزائفة التى يثيرها الذين فى قلوبهم زيغ طلبا لتشكيك المؤمنين فى دينهم .
وثانيهما : { وابتغاء تَأْوِيلِهِ } أى : ويتعلقون بالمتشابه ويتبعونه طلبا لتأويل آيات القرآن تأويلا باطلا ، وتفسيرها تفسيرا فاسداً بعيداً عن الحق زاعمين أن تفسيرهم هذا هو الحق بعينه ، لأنه يتفق مع أهوائهم وشهواتهم وميولهم الأثيمة .
وفى جعل قلوبهم مقراً للزيغ مبالغة فى عدولهم عن سنن الرشاد وإصرارهم على الشر والفساد .
وفى تعليل الاتباع - كما يقول الآلوسى - " بابتغاء تأويله دون نفس تأويله وتجريد التأويل عن الوصف بالصحة أو الحقيقة . إيذان بأنهم ليسوا من أهل التأويل - فى عير ولا نفير ولا قبيل ولا دبير - وأن ما يبتغونه ليس بتأويل أصلا لا أنه تأويل غير صحيح قد يعذر صاحبه " .
وقد ذم النبى صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين يتبعون ما تشابه من القرآن طلبا للفتنة والتأويل الباطل ، وحذر منهم فى أحاديث كثيرة . ومن ذلك ما رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى عن عائشة - رضى الله عنها - قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } . . إلخ الآيات قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم " .
وقد استجاب الصحابة - رضى الله عنهم - لوصايا الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا يتباعدون عن الذين فى قلوبهم زيغ . ويزجرونهم ويشفون عن أباطيلهم .
قال القرطبى : " حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضى : قال : أنبأنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن يزيد بن حازم ، عن سليمان بن يسار أن صَبِيغ بن عِسل قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء : فبلغ ذلك عمر - رضى الله عنه - فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعد له عراجين من عراجين النخل . فلما حضر قال له عمر : من أنت؟ قال : أنا عبد الله صبيغ . فقال عمر - وانا عبد الله عمر : ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه ، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه فقال حسبك يا أمير المؤمنين!! فقد والله ذهب ما كنت أجد فى رأسى " .
ثم بين - سبحانه - أن تأويل المتشابه مرده إلى الله - تعالى - وأن الراسخين فى العلم يعلمون منه ما يوفقهم الله لمعرفته فقال ، { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } .


 

وقوله - تعالى - { والراسخون فِي العلم } من الرسوخ وهو الثبات والتمكن وأصله فى الأجرام ، أن يرسخ الجبل والشجر فى الأرض ، واستعمل فى المعانى ومنه رسخ الإِيمان فى القلب . أى ثبت واستقر وتمكن .
والألباب ، جمع لب وهو - كما يقول الراغب - العقل الخالص من الشوائب وسمى بذلك لكونه خالص ما فى الإِنسان من معانيه ، كاللباب واللب من الشئ وقيل هو ما زكا من العقل ، فكل لب عقل وليس كل عقل لبا ، ولهذا علق الله - تعالى - الأحكام التى لا يدركها إلا العقول الزكية بأولى الألباب " .
قال الآلوسى : " وقوله { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم } فى موضع الحال من ضمير يتبعون باعتبار العلة الأخيرة . أى يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله - تأويلا فاسداً - والحال أن التأويل المطابق للواقع - كما يشعر به التعبير بالعلم والإِضافة إلى الله - تعالى - مخصوص به - سبحانه - وبمن وفقه - عز شأنه - من عباده الراسخين فى العلم . أى الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ولم يتزلزلوا فى مزال الأقدام ، ومداحض الأفهام ، دونهم حيث إنهم بمعزل عن تلك الرتبة ، هذا ما يقتضيه الظاهر فى تفسير الراسخين " .
وقوله . { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } جملة موضحة لحال الراسخين فى العلم ، ومبينة لما هم عليهم من قوة الإِيمان ، وصدق اليقين .
أى يقول الراسخون فى العلم عندما يقرءون ما تشابه من آيات القرآن آمنا به وصدقنا وأذعنا فنحن لا نشك فى أن كلا من الآيات المتشابهة والآيات المحكمة من عند الله وحده فهو الذى أنزلها على نبيه صلى الله عليه وسلم بمقتضى حكمته ومشيئته .
وقوله { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } ، معطوف على جملة { يَقُولُونَ } وقد ختم به - سبحانه - هذه الآية على سبيل المدح لهؤلاء الراسخين فى العلم .
أى : وما يدرك هذه الحقائق الدينية ويعتبر بها ويتذكر ما اشتمل عليه القرآن من أحكام وآداب وهدايات وتشريعات إلا أصحاب العقول السليمة ، والألباب المستنيرة التى لا تتأثر بالأهواء والشهوات ، ولا تركن إلى البدع الزائفة والأفكار الفاسدة .
قال ابن كثير : " وقوله - تعالى - { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } اختلف القراء فى الوقف هنا فقيل الوقف على لفظ الجلالة ، فقد ورد عن ابن عباس أنه قال : " التفسير على أربعة انحاء فتفسير لا يعذر أحد فى فهمه ، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها ، وتفسير يعلمه الراسخون فى العلم ، وتفسير لا يعلمه إلا الله " . وعن أبى مالك الأشعرى أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا أخاف على أمتى إلا ثلاث خلال : أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا ، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغى تأويله { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } الآية وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يسألون عنه " .


 

وحكى ابن جرير أن قراءة عبد الله بن مسعود ، إن تأويله إلا عند الله ، والراسخون فى العلم يقولون آمنا به . واختار هذا القول ابن جرير - وهو مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين وأتباعهم خصوصا أهل السنة .
ومنهم من يقف على قوله { والراسخون فِي العلم } وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول ، وقالوا الخطاب بما لا يفهم بعيد . وقد روى عن ابن عباس أنه قال . أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله ، وروى عن مجاهد أنه قال والراسخون فى العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به .
وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال : " اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل " .
والذى نراه أنه إذا فسر المتشابه بما استأثر الله - تعالى - بعلمه كقيام الساعة وحقيقة الروح ، كان الوقف على لفظ الجلالة وكانت الواو فى قوله { والراسخون } للاستئناف ، والراسخون مبتدأ وجملة " يقولون " خبر عنه .
أى والراسخون فى العلم يقولون آمنا به ويفوضون علمه إليه - سبحانه - ولا يقتحمون أسواره ، كأهل الزيغ والضلال الذين أولوه تأويلا فاسدا . . وإذا فسر المتشابه بما لا يتبين معناه إلا بعد نظر دقيق بحيث يتناول المجمل ونحوه كان الوقف على لفظ العلم ، وكانت الواو فى قوله { والراسخون } للعطف .
أى : لا يعلم تأويل المتشابه تأويلا حقا سليما إلا الله والراسخون فى العلم أما أولئك الذين فى قلوبهم زيغ فهم أبعد ما يكونون عن ذلك .
ويجوز الوقف على هذا الرأى أيضاً على لفظ الجلالة؛ لأنه لا يعلم تأويل هذا المتشابه علما كاملا إلا الله . أولا يعلم كنهه وحقيقته أحد سواه .
وإذا فسر المتشابه بما قام الدليل القاطع على أن ظاهره غير مراد . مع عدم قيام الدليل على تعيينه ، كمتشابه الصفات أو ما يسمى بآيات الصفات مثل قوله - تعالى - { الرحمن عَلَى العرش استوى } جاز الوقف والعطف عند من يؤولون هذه الصفات تأويلا يليق بذاته - تعالى - وهم جمهور علماء الخلف ووجب الوقف على لفظ الجلالة عند من يفوض معاني هذه المتشابهات إلى الله - تعالى - مع تنزيهه عن ظواهرها المستحيلة وهم جمهور علماء السلف وهذه المسألة من المسائل التي أفاض القول فيها الباحثون في علم الكلام .
هذا وقد ذكر العلماء حكما متعددة لاشتمال القرآن على المحكم والمتشابه ، منها : الابتلاء والاختبار ، لأن الراسخون في العلم سيؤمنون به وإن لم يعرفوا تأويله ، ويخضعون لسلطان الربوبية ، ويقرون بالعجز والقصور ، وفي ذلك غاية التربية ونهاية المصلحة . وأما الذين في قلوبهم زيغ فيؤولونه تأويلا باطلا لإضلال الناس وتشكيكهم في دينهم .


 

ومنها : رحمة الله بهذا الإنسان الضعيف الذي لا يطيق معرفة كل شيء . فقد أخفى - سبحانه - على الناس معرفة وقت قيام الساعة لكيلا يتكاسلوا ويقعدوا عن الاستعداد لها ، ولكيلا يفتك بهم الخوف فيما لو أدركوا بالتحديد قرب قيامها .
ومنها - كما يقول الفخر الرازي : " أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق ، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب ، ومنها : أن القرآن إذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل ، وحينئذ يتخلص من ظلمة التقليد ، ويصل إلى ضياء الاستدلال والبينة ، أما لو كان كله محكما لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية ، فحينئذ يبقى في الجهل والتقليد . ومنها أن اشتماله على المحكم والمتشابه يحمل الإنسان على تعلم علوم كثيرة كعلم اللغة والنحو وأصول الفقه وغير ذلك من أنواع العلوم ، ومنها : أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام ، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق ، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه ، ظن أن هذا عدم ونفى فوقع في العطيل ، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه ، وبذلك يكون مخلوطا بما يدل على الحق الصريح . فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من المتشابهات ، والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو المحكمات " .
ومنها - كما يقول الجمل نقلا عن الخازن : " فإن قيل القرآن نزل لإرشاد الناس فهلا كان كله محكما؟ فالجواب أنه نزل بألفاظ العرب وعلى أسلوبهم . وكلامهم على ضربين : الموجز الذي لا يخفى على سامع هذا هو الضرب الأول ، والثاني المجاز والكنايات والإرشادات والتلويحات وهذا هو المستحسن عندهم ، فأنزل القرآن على ضربين ليتحقق عجزهم فكأنه قال : عارضوه بأي الضربين شئتم ، ولو نزل كله محكما لقالوا : هلا نزل بالضرب المستحسن عندنا " .
قال بعض العلماء : والذي يستخلص من مصادر الشريعة ومواردها ، أن الآيات المتشابهة لا يمكن أن يكون موضوعها حكما تكليفيا من الأحكام التي كلف عامة المسلمين أن يقوموا بها ، وأنه لا يمكن أن تكون آية من آيات الأحكام التكليفية قد انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى دون أن يبينها ، ولا تشابه فيها بعد أن بينتها السنة النبوية ، لأن الله - تعالى - يقول : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } ولا شك من أول بيان ما نزل إليهم بيان الأحكام التكليفية .
لذلك نقول جازمين : إنه ليس في آيات الأحكام آية متشابهة ، وإن اشتبه فهمها على بعض العقول ، لأنه لم يطلع على موضوعها ، فليس ذلك لأنها متشابهة في ذاتها ، بل لاشتباه عند من لا يعلم ، واشتباه من لا يعلم لا يجعل آية في القرآن متشابهة " .

الدر المصون للسمين الحلبي

[آية رقم : 7]
قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ} : يجوزُ أن تكونَ «آيات» رفعاً بالابتداء والجارُّ خبرُه. وفي الجملةِ على هذا وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ. والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال من «الكتاب» أي: هو الذي أنزل الكتاب في هذه الحال أي: منقسماً إلى مُحْكَم ومتشابه، ويجوز أن يكونَ «منه» هو الحالَ وحدَه، و «آياتٌ» رفع به على الفاعلية. و {هُنَّ أُمُّ الكتاب} يجوز أن تكونَ الجملةُ صفةً للنكرة قبلها، ويجوز أن تكونَ مستأنفةً، وأخْبر بلفظ الواحد وهو «أمُّ» عن جمع، وهو «هُنَّ» : إمَّا لأن المراد كلُّ واحدةٍ منه أمُّ، وإمَّا لأنْ المجموعَ بمنزلةِ آيةٍ واحدة كقوله: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] ، وإما لأنه مفردٌ واقعٌ موقعَ الجمعِ كقوله: {وعلى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] و: 1163 - كُلوا في بعضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [وقوله] : 1164 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيب [وقال الأخفشْ: «وَحَّد» أمَّ الكتاب «بالحكاية على تقديرِ الجوابكأنه قيل: ما أمُّ الكتاب؟» ] فقال: هُنَّ أمُّ الكتاب، كما يقال: مَنْ نظير زيد؟ فيقول قوم: «نحنُ نظيرُه» كأنهم حَكَوا ذلك اللفظَ، وهذا على قولهم: «دعني من تمرتان» أي: «مِمَّا يقال له تمرتان» . قال ابن الأنباري: «وهذا بعيدٌ من الصواب في الآية، لأن الإِضمارَ لم يَقُمْ عليه دليلٌ، ولم تَدْعُ إليه حاجةٌ» وقيل: لأنه بمعنى أصلِ الكتابِ والأصلُ يُوَحَّدُ. قوله: «وأُخَرُ» نسقٌ على «آيات» ، و «متشابهاتٌ» نعتُ لأُخَر، وفي الحقيقة «أُخَرُ» نعتٌ لمحذوف تقديره: وآياتٌ أُخَرٌ متشابهاتٌ. قال أبو البقاء: «فإنْ قيل: واحدةُ» متشابهات «متشابهة، وواحدة» أُخَر «أُخْرى، والواحدةُ هنا لا يَصِحُّ أن توصف بهذا الواحد فلا يُقال، أخرى متشابهة إلا أن يكونَ بعضُ الواحدةُ يُشبْه بعضاً، وليس المعنى على ذلك/ وإنما المعنى أنَّ كل آيةٍ تشبه آيةً أخرى، فكيف صَحَّ وصفُ هذا الجمعِ بهذا الجمعِ، ولم يَصِحَّ وصفُ مفردهِ بمفرده؟ قيل: التشابهُ لا يكون إلا بين اثنينِ فصاعداً، فإذا اجتمعت الأشياءُ المشابهةُ كان كل واحدٍ منها مشابهاً للآخر، فلمَّا لم يَصِحَّ التشابُه إلا في حالةِ الاجتماع وَصَفَ الجمعَ بالجمع لأنَّ كلَّ واحدٍ منها يشابه باقيها، فأمَّا الواحدُ فلا يَصِحُّ فيه هذا المعنى، ونظيرُه قوله: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ} [القصص: 15] فثنَّى الضميرَ وإن كان الواحدُ لا يَقْتَتِلُ. قلت: يعني أنه ليس من شرطِ صحةِ الوصفِ في التثنية أو الجمعِ صحةُ انبساطِ مفرداتِ الأوصاف على مفرداتِ الموصوفاتِ، وإنْ كان الأصلُ ذلك، كما أنه لا يُشْتَرط في إسناد الفعلِ إلى المثنَّى والمجموعِ صحةُ إسنادِه لى كلِّ واحدٍ على حِدَتِه. وقريب من ذلك قوله: {حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} [الزمر: 75] قيل: ليس لحافِّين مفردٌلأنه لو قيل: « حافّ» لم يَصِحَّ، إذ لا يتحقق الحُفوفُ في واحد فقط، وإنما يتحقق بجمعِ يُحيطون بذلك الشيء المحفوفِ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى في موضعِهِ. قوله: {زَيْغٌ} يجوز أن يكون مرفوعاً بالفاعلية لأنَّ الجارَّ قبله صلةٌ لموصول ويجوز أن يكونَ مبتدأ وخبُره الجارُّ قبله. والزَّيْغُ: قيل: المَيْلُ، وقال بعضُهم: هو أخصُّ مِنْ مُطْلق الميل، فإنَّ الزيغَ لا يُقال إلاَّ لِما كان من حقٍ إلى باطل. قال الراغب: «الزَّيْغُ: الميلُ على الاستقامةِ إلى أحدِ الجانبين، وزاغَ وزالَ ومالَ تتقارب، لكن» زاغ «لا يُقال إلا فيما كان عن حق إلى باطل» انتهى. يقال: زاغَ يزيغُ زَيْغاً وزيغوغَةً وزَيَغاناً وزُيوغاً. قال الفراء: «والعربُ تقول في عامةِ ذواتِ الياء مِمَّا يشبه زِغْتُ مثل: سِرْتُ وصِرْتُ وطِرْتُ: سَيْرورةً وصَيْرورةً وطَيْرورةً، وحِدْتُ حَيْدودة، ومِلْتُ مَيْلولة، لا أُحصي ذلك كثرةً، فأما ذوات الواو مثل: قُلت ورضِيت فإنهم لم يقولوا ذلك إلا في أربعة ألفاظ: الكَيْنونة والدَّيْمومة من دام، والهَيْعُوعة من الهُواع، والسَّيدودة من سُدْت» . ثم ذكر كلاماً كثيراً غيرَ متعلقٍ بما نحن فيه، وقد تقدَّم الكلامُ على هذا المصدر، وما ذكر الناس فيه، وأنه قد سُمِع فيه الأصل وهو «كَيَّنونة» في قول الشاعر: 1165 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... حَتَّى يعودَ البحرُ كَيَّنونَهْ قوله: {مَا تَشَابَهَ} مفعولُ الاتباع، وهي موصولةٌ أو موصوفة، ولا تكون مصدريةً لعَوْدِ الضمير مِنْ «تَشَابَه» عليها إلاَّ على رأي ضعيفٍ. و «منه» حالٌ من فاعل «تشابه» أي: تشابه حالَ كونِه بعضَه.قوله: «ابتغاءَ» منصوبٌ على المفعولِ له أي: لأجلِ الابتغاء، وهو مصدرٌ مضافٌ لمفعوله. والتأويلُ: مصدرُ أَوَّل يُؤَوِّل. وفي اشتقاقِه قولان أحدهما: أنه من آل يَؤُول أَوْلاً ومَآلاً. أي: عادَ ورجَع، و «آلُ الرجل» من هذا عند بعضِهم، لأنهم يَرْجِعون إليه في مُهِمَّاتهم، ويقولون: أَوَّلْتُ الشيءَ فآلَ، أي: صَرَفْتُه لوجهٍ لائقٍ به فانصرفَ، قال الشاعر: 1166 - أُؤَوِّلُ الحكمَ على وجهه ... ليس قضائي بالهَوى الجائر وقال بعضُهم: أَوَّلْتُ الشيءَ فتأوَّل، فجعل مطاوِعَه تَفَعَّل، وعلى الأول مطاوعه فَعَل، وأنشد للأعشى: 1167 - على أنها كانَتْ تَأَوُّلُ حُبِّها ... تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابَ فَأَصْحَبَا يعني أنَّ حبَّها كان صغيراً قليلاً فآل إلى العِظَم، كما يَؤُول السَّقْبُ إلى الكِبَر. ثم قد يُطْلق على العاقبةِ والمَرَدِّ، لأنَّ الأمرَ يَصِير إليهما. والثاني: أنه مشتقٌ من: الإِيالة وهي السياسة. تقول العرب: «قد إلْنا وإيل علينا» أي: سُسْنا وساسَنا غيرُنا، وكأنَّ المؤوِّلَ للكلامِ سائِسُه والقادرُ عليه وواضعُه موضعَه، نُقل ذلك عن النضر بن شميل. وفَرَّق النَاس بين التأويل والتفسير في الاصطلاح: بأن التفسيرَ مقتصَرٌ به على ما لا يُعْلم إلا بالتوقيف كأسباب النزول ومدلولاتِ الألفاظ، وليس للرأي فيه مَدْخَلٌ، والتأويل يجوز لمَنْ حَصَلَتْ عنده صفاتُ أهلِ العلم وأدواتٌ يَقْدِرُ أن يتكلَّم بها إذا رَجَع بها إلى أصولٍ وقواعدَ.وقوله: {والراسخون} يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أنه مبتدأ والوقفُ على الجلالة المعظمة، وعلى هذا فالجملةُ من قوله: «يقولون» خبرُ المبتدأ. والثاني: أنهم منسوقونٌ على الجلالةِ المعظمةِ، فيكونون داخلين في علم التأويل. وعلى هذا فيجوز في الجملةِ القولية وجهان، أحدُهما: أنها حالٌ أي: يعلمون تأويلَه حالَ كوِنهم قائلين ذلك، والثاني: أن تكون خبرَ مبتدأٍ مضمرٍ أي: هم يقولون. والرُّسوخ: الثُبوتُ والاستقرار ثبوتاً متمكِّناً فهو أخصُّ من مطلقِ الثبات قال الشاعر: 1168 - لقد رَسَخَتْ في القلبِ مني مودَّةٌ ... لِلَيْلَى أَبَتْ آياتُها أَنْ تُغَيَّرا و {آمَنَّا بِهِ} في محلِّ نصب بالقول، و «كل» مبتدأٌ، أي كله أو كلٌّ منه، والجارُّ بعده خبرهُ، والجملةُ نصبٌ بالقول أيضاً.

الدر المنثور للسيوطي

أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس قال: {المحكمات} ناسخه، وحلاله، وحرامه، وحدوده؛ وفرائضه، وما يؤمن به و {المتشابهات} منسوخه، ومقدمه، ومؤخره، وأمثاله، وأقسامه، وما يؤمن به ولا يعمل به.
وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: {المحكمات} الناسخ الذي يدان به ويعمل به. {المتشابهات} المنسوخات التي لا يدان بهن.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن عبدالله بن قيس: سمعت ابن عباس يقول في قوله {منه آيات محكمات} قال: الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات
{ قل تعالوا... } [الأنعام: 151 - 153] والآيتان بعدها.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس في قوله {آيات محكمات} قال: من ههنا
{ قل تعالوا... } [الأنعام: 151 - 153]. إلى آخر ثلاث آيات. ومن ههنا { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه... } [الإسراء: 23 - 25] إلى ثلاث آيات بعدها.
وأخرج ابن جرير من طريق السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة بن مسعود وناس من الصحابة {المحكمات} الناسخات التي يعمل بهن {والمتشابهات} المنسوخات.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال {المحكمات} الحلال والحرام.
وأخرج عبد بن حميد والفريابي عن مجاهد قال {المحكمات} ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك منه متشابه يصدق بعضه بعضاً. مثل قوله
{ وما يضل به إلا الفاسقين } [البقرة: 26] ومثل قوله { كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } [الأنعام: 125] ومثل قوله { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } [محمد: 17].
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال {المحكمات} هي الآمرة الزاجرة.
وأخرج عبد بن حميد وابن الضريس وابن جرير وابن أبي حاتم عن إسحق بن سويد، أن يحيى بن يعمر، وأبا فاختة. تراجعا هذه الآية {هنَّ أم الكتاب} فقال أبو فاختة: هن فواتح السور، منها يستخرج القرآن {الم ذلك الكتاب} منها استخرجت البقرة، و {الم، الله لا إله إلا هو الحي القيوم} منها استخرجت آل عمران، قال يحيى: هن اللاتي فيهن الفرائض، والأمر والنهي، والحلال والحدود، وعماد الدين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير {هنَّ أم الكتاب} قال: أصل الكتاب، لأنهن مكتوبات في جميع الكتب.
وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير قال {المحكمات} حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه {وأخر متشابهات} في الصدق لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل، ولا يحرفن عن الحق.
وأخرج ابن جرير عن مالك بن دينار قال: سألت الحسن عن قوله {أم الكتاب} قال: الحلال والحرام قلت له فـ
{ الحمد لله رب العالمين } [الفاتحة: 1] قال: هذه أم القرآن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: إنما قال {هن أم الكتاب} لأنه ليس من أهل دين إلا يرضى بهن {وأخر متشابهات} يعني فيما بلغنا {الم} و (المص) و (المر) و (الر).
وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال {المتشابهات} آيات في القرآن يتشابهن على الناس إذا قرأوهن. ومن أجل ذلك يضل من ضل، فكل فرقة يقرؤون آية من القرآن يزعمون أنها لهم، فمنها يتبع الحرورية من المتشابه قول الله
{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [المائدة: 44] ثم يقرؤون معها { والذين كفروا بربهم يعدلون } [الأنعام: 1] فإذا رأوا الامام يحكم بغير الحق قالوا: قد كفر فمن كفر عدله بربه، ومن عدل بربه فقد أشرك بربه. فهؤلاء الأئمة مشركون.
وأخرج البخاري في التاريخ وابن جرير من طريق ابن إسحق عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن رباب قال
"مر أبو ياسر بن أخطب، فجاء رجل من يهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه}.
فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود، فقال أتعلمون؟ والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل عليه {الم، ذلك الكتاب} فقال: أنت سمعته قال: نعم. فمشى حتى وافى أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: الم تقل إنك تتلو فيما أنزل عليك {الم، ذلك الكتاب}؟ فقال: بلى، فقالوا: لقد بعث بذلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مده ملكه، وما أجل أمته غيرك. الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة.
ثم قال: يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. (المص) قال: هذه أثقل وأطول! الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، هذه إحدى وثلاثون ومائة. هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. (الر) قال: هذه أثقل وأطول! الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان. هذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة. هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. (المر) قال: هذه أثقل وأطول. هذه إحدى وسبعون ومائتان. ثم قال: لقد لبس علينا أمرك حتى ما ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً!.
ثم قال: قوموا عنه. ثم قال أبو ياسر لأخيه ومن معه: ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد. إحدى وسبعون، وإحدى وثلاثون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع سنين! فقالوا: لقد تشابه علينا أمره، فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات}"
. وأخرج يونس بن بكير في المغازي عن ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وجابر بن رباب، "أن أبا ياسر بن أخطب مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ (فاتحة الكتاب، والم، ذلك الكتاب) فذكر القصة" . وأخرجه ابن المنذر في تفسيره من وجه آخر عن ابن جريج معضلاً.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس {فأما الذين في قلوبهم زيغ} يعني أهل الشك. فيحملون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم، ويلبسون فلبس الله عليهم {وما يعلم تأويله إلا الله} قال: تأويله يوم القيامة لا يعلمه إلا الله.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود {زيغ} قال: شك.
وأخرج عن ابن جريج قال {الذين في قلوبهم زيغ} المنافقون.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله {فيتبعون ما تشابه منه} قال: الباب الذي ضلوا منه وهلكوا فيه {ابتغاء تأويله} وفي قوله {ابتغاء الفتنة} قال: الشبهات.
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والدارمي وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن أبي حبان والبيهقي في الدلائل من طرق عن عائشة قالت
"تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ} إلى قوله {أولوا الألباب} فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم" . ولفظ البخاري: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم. وفي لفظ لابن جرير: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه سمى الله فاحذروهم. وفي لفظ لابن جرير: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه والذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فلا تجالسوهم".
وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه} قال: هم الخوارج. وفي قوله
{ يوم تبيض وجوه وتسودُّ وجوه } [آل عمران: 106] قال: هم الخوارج.
وأخرج الطبراني عن أبي مالك الأشعري، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
"لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذَّكَّرُ إلا أولوا الألباب} ، وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يبالوا به"
وأخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مما أتخوف على أمتي؛ أن يكثر فيهم المال حتى يتنافسوا فيه فيقتتلوا عليه، وإن مما أتخوف على أمتي أن يُفْتَحَ لهم القرآن حتى يقرأه المؤمن والكافر والمنافق فيحل حلاله المؤمن" .
أما قولهتعالى: {ابتغاء تأويله} الآية.
أخرج أبو يعلى عن حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
"إن في أمتي قوماً يقرؤون القرآن ينثرونه نثر الدقل، يتأوّلونه على غير تأويله"
وأخرج ابن سعد وابن الضريس في فضائله وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على قوم يتراجعون في القرآن وهو مغضب فقال: بهذا صلت الأمم قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضرب الكتاب بعضه ببعض. قال: وإن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً، ولكن نزل أن يصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعلموا به، وما تشابه عليكم فآمنوا به"
وأخرج أحمد من وجه آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً يتدارأون فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فَكِلُوه إلى عالِمِهِ"
وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه وأبو نصر السجزي في الابانة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف. زاجر وآمر، وحلال وحرام، ومحكم ومتشابه وأمثال، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نُهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا {آمنا به كل من عند ربنا} " وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود. موقوفاً.
وأخرج الطبراني عن عمر بن أبي سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن مسعود
"إن الكتب كان تنزل من السماء، من باب واحد، وأن القرآن نزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف، حلال وحرام، ومحكم ومتشابه، وضرب أمثال، وآمر وزاجر، فأحل حلاله، وحرم حرامه، واعمل بمحكمه، وقف عند متشابهه، واعتبر أمثاله، فإن كلا من عند الله {وما يذّكَّر إلا أولوا الألباب}"
وأخرج ابن النجار في تاريخ بغداد بسند واهٍ عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: "أيها الناس قد بين الله لكم في محكم كتابه ما أحل لكم وما حرم عليكم. فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وآمنوا بمتشابهه، واعلموا بمحكمه، واعتبروا بأمثاله"
وأخرج ابن الضريس وابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود قال: أنزل القرآن على خمسة أوجه: حرام، وحلال، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. فأحل الحلال، وحرم الحرام، وآمن بالمتشابه، واعمل بالمحكم، واعتبر بالأمثال.
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن ابن مسعود قال: إن القرآن أنزل على نبيكم صلى الله عليه وسلم من سبعة أبواب على سبعة أحرف، وأن الكتاب قبلكم كان ينزل من باب واحد على حرف واحد.
وأخرج ابن جرير ونصر المقدسي في الحجة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" نزل القرآن على سبعة أحرف. المراء في القرآن كفر. ما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عَالِمِهِ"
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعربوا القرآن واتبعوا غرائبه، وغرائبه فرائضه وحدوده. فإن القرآن نزل على خمسة أوجه: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال"
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إن القرآن ذو شجون، وفنون، وظهور، وبطون. لا تنقضي عجائبه، ولا تبلغ غايته. فمن أوغل فيه برفق نجا، ومن أوغل فيه بعنف غوى. أخبار وأمثال وحرام وحلال، وناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، وظهر وبطن. فظهره التلاوة، وبطنه التأويل. فجالسوا به العلماء، وجانبوا به السفهاء، وإياكم وزلة العالم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع أن النصارى قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست تزعم أن عيسى كلمة الله، وروح منه؟ قال: بلى. قالوا: فحسبنا ... فأنزل الله {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة}.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري في كتاب الأضداد والحاكم وصححه عن طاوس قال: كان ابن عباس يقرؤها "وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به"
وأخرج أبو داود في المصاحف عن الأعمش قال: في قراءة عبد الله "وان حقيقة تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به".
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبن أبي مليكة قال: قرأت على عائشة هؤلاء الآيات فقالت: كان رسوخهم في العلم أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه {وما يعلم تأويله إلا الله} ولم يعلموا تأويله.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي الشعثاء وأبي نهيك قالا: إنكم تصلون هذه الآية وهي مقطوعة {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} فانتهى عملهم إلى قولهم الذي قالوا.
وأخرج ابن جرير عن عروة قال {الراسخون في العلم} لا يعلمون تأويله، ولكنهم يقولون {آمنا به كل من عند ربنا}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عمر بن عبد العزيز قال: انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا {آمنا به كل من عند ربنا} .
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي قال: كتاب الله ما استبان منه فاعمل به، وما اشتبه عليك فآمن به وَكِلْهُ إلى عالمه.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: إن للقرآن مناراً كمنار الطريق، فما عرفتم فتمسكوا به، وما اشتبه عليكم فذروه.
وأخرج ابن أبي شيبة عن معاذ قال: القرآن منار كمنار الطريق ولا يخفى على أحد، فما عرفتم منه فلا تسألوا عنه أحداً، وما شككتم فيه فكلوه إلى عالمه.
وأخرج ابن أبي جرير من طريق أشهب عن مالك في قوله {وما يعلم تأويله إلا الله} قال: ثم ابتدأ فقال {والراسخون في العلم يقولون آمنا به} وليس يعلمون تأويله.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أنس وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع وأبي الدرداء
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن {الراسخين في العلم} فقال: من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه. فذلك من الراسخين في العلم"
وأخرج ابن عساكر من طريق عبد الله بن يزيد الأودي. سمعت أنس بن مالك يقول " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من {الراسخون في العلم} ؟ قال: من صدق حديثه، وبر في يمينه، وعف بطنه وفرجه. فذلك {الراسخون في العلم}
"
. وأخرج ابن المنذر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: تفسير القرآن على أربعة وجوه: تفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعذر الناس بجهالته من حلال أو حرام، وتفسير تعرفه العرب بلغتها، وتفسير لا يعلم تأويله إلا الله. من ادعى علمه فهو كاذب.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أُنْزِلَ القرآن على سبعة أحرف: حلال وحرام لا يعذر أحد بالجهالة به، وتفسير تفسره العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله. ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب"
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: أنا ممن يعلم تأويله.
وأخرج ابن جرير عن الربيع "والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به".
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس {يقولون آمنا به} نؤمن بالمحكم وندين به، ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به. وهو من عند الله كله.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس {كل من عند ربنا} يعني ما نسخ منه وما لم ينسخ.
وأخرج الدارمي في مسنده ونصر المقدسي في الحجة عن سليمان بن يسار، أن رجلاً يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وقد أَعَدَّ له عراجين النخل فقال: من أنت؟ فقال: أنا عبدالله صبيغ فقال: وأنا عبدالله عمر. فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين، فضربه حتى دمى رأسه فقال: يا أمير المؤمنين حسبك... قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي.
وأخرج الدارمي عن نافع، إن صبيغاً العراقي جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسلمين حتى قدم مصر، فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب، فلما أتاه أرسل عمر إلى رطائب من جريد، فضربه بها حتى ترك ظهره دبرة، ثم تركه حتى برئ، ثم عاد له، ثم تركه حتى برئ، فدعا به ليعود له فقال صبيغ: إن كنت تريد قتلي فاقتلني جميلاً، وإن كنت تريد أن تداويني فقد ـ والله ـ برأت. فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين.
وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن أنس. أن عمر بن الخطاب جلد صبيغاً الكوفي في مسألة عن حرف من القرآن حتى اطردت الدماء في ظهره.
وأخرج ابن الأنباري في المصاحف ونصر المقدسي في الحجة وابن عساكر عن السائب بن يزيد، أن رجلاً قال لعمر: إني مررت برجل يسأل عن تفسير مشكل القرآن. فقال عمر: اللهم أمكني منه. فدخل الرجل يوماً على عمر فسأله، فقام عمر، فحسر عن ذراعيه، وجعل يجلده ثم قال: ألبسوه تباناً واحملوه على قتب، وابلغوا به حيه، ثم ليقم خطيب فليقل أن صبيغاً طلب العلم فاخطأه، فلم يزل وضيعاً في قومه بعد أن كان سيداً فيهم.
وأخرج نصر المقدسي في الحجة وابن عساكر عن أبي عثمان النهدي، إن عمر كتب إلى أهل البصرة، أن لا يجالسوا صبيغاً، قال: فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا.
وأخرج ابن عساكر عن محمد بن سيرين قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالس صبيغاً، وأن يحرم عطاءه ورزقه.
وأخرج نصر في الحجة وابن عساكر عن زرعة قال: رأيت صبيغ بن عسل بالبصرة كأنه بعير أجرب، يجيء إلى الحلقة ويجلس وهم لا يعرفونه، فتناديهم الحلقة الأخرى: عزمة أمير المؤمنين عمر فيقومون ويدعونه.
وأخرج نصر في الحجة عن أبي إسحق، أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري. أما بعد... فإن الأصبغ تكلف ما يخفى وضيع ما ولي، فإذا جاءك كتابي هذا فلا تبايعوه، وإن مرض فلا تعودوه، وإن مات فلا تشهدوه.
وأخرج الهروي في ذم الكلام عن الإِمام الشافعي رضي الله عنه قال: حكمي في أهل الكلام حكم عمر في صبيغ، أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإِبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، وينادى عليهم؛ هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على علم الكلام.
وأخرج الدارمي عن عمر بن الخطاب قال: إنه سيأتيكم ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله.
وأخرج نصر المقدسي في الحجة عن ابن عمرو
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القرآن. هذا ينزع بآية، وهذا ينزع بآية. فكأنما فقىء في وجهه حب الرمان فقال:ألهذا خلقتم، أو لهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، انظروا ما أمرتم به فاتبعوه، وما نهيتم عنه فانتهوا"
وأخرج أبو داود والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجدال في القرآن كفر"
وأخرج نصر المقدسي في الحجة عن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن وراء حجرته قوم يتجادلون في القرآن. فخرج محمرة وجنتاه كأنما تقطران دماً فقال: يا قوم لا تجادلوا بالقرآن، فإنما ضَلَّ من كان قبلكم بجدالهم، إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً ولكن نزل ليصدق بعضه بعضاً، فما كان من محكمه فاعملوا به، وما كان من متشابهه فآمنوا به"
وأخرج نصر في الحجة عن أبي هريرة قال: كنا عند عمر بن الخطاب إذ جاءه رجل يسأله عن القرآن أمخلوق هو أو غير مخلوق؟ فقام عمر فأخذ بمجامع ثوبه حتى قاده إلى علي بن أبي طالب فقال: يا أبا الحسن أما تسمع ما يقول هذا؟ قال: وما يقول؟! قال: جاءني يسألني عن القرآن أمخلوق هو أو غير مخلوق. فقال علي: هذه كلمة وسيكون لها ثمرة، لو وَليتُ من الأمر ما وَلِيتَ ضربت عُنقَه.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله {فأما الذين في قلوبهم زيغ...} الآية قال: طلب القوم التأويل فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة, واتبعوا ما تشابه منه فهلكوا بين ذلك.
وأخرج ابن الأنباري في كتاب الأضداد عن مجاهد قال: الراسخون في العلم يعلمون تأويله، ويقولون آمنا به.

العذب النمير للشنقيطي

Tafseer Not Available

الكشاف للزمخشري

{محكمات} أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه {متشابهات} مشتبهات محتملات {هُنَّ أُمُّ الكتاب} أي أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وتردّ إليها، ومثال ذلك {لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار} [الأنعام: 103]، {إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]، {لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء} [الأعراف: 27]. {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء: 16].فإن قلت: فهلا كان القرآن كله محكماً؟ قلت: لو كان كله محكماً لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمّل من النظر والاستدلال، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به، ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولما في تقادح العلماء وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه وردّه إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله، ولأنّ المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله ولا اختلاف، إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد، ففكر وراجع نفسه وغيره ففتح الله عليه وتبين مطابقة المتشابه المحكم، ازداد طمأنينة إلى معتقده وقوّة في إيقانه {الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} هم أهل البدع {فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ} فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق {ابتغاء الفتنة} طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم {وابتغاء تَأْوِيلِهِ} وطلب أن يأوّلوه التأويل الذي يشتهونه {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والرسخون فِي العلم} أي لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله وعباده الذين رسخوا في العلم، أي ثبتوا فيه وتمكنوا وعضوا فيه بضرس قاطع. ومنهم من يقف على قوله (إلا الله)، ويبتدئ (والراسخون في العلم يقولون) ويفسرون المتشابه بما استأثر الله بعلمه، وبمعرفة الحكمة فيه من آياته، كعدد الزبانية ونحوه: والأوّل هو الوجه. ويقولون: كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هؤلاء العالمون بالتأويل {يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ} أي بالمتشابه {كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا} أي كل واحد منه ومن المحكم من عنده، أو بالكتاب كل من متشابهه ومحكمه من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه ولا يختلف كتابه {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الالباب} مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمّل ويجوز أن يكون {يَقُولُونَ} حالا من الراسخين.وقرأ عبد الله: {إن تأويله إلا عند الله}.وقرأ أبيّ: {ويقول الراسخون}.

المحرر الوجيز لابن عطية

[سورة آل عمران: آية 7].

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (7).

(الكتاب‏)‏ في هذه الآية القرآن بإجماع من المتأولين، والمحكمات، المفصلات المبينات الثابتات الأحكام، والمتشابهات هي التي فيها نظر وتحتاج إلى تأويل ويظهر فيها ببادئ النظر إما تعارض مع أخرى أو مع العقل، إلى غير من أنواع التشابه، فهذا الشبه الذي من أجله توصف بــ ‏(متشابهات‏)‏، إنما هو بينها وبين المعاني الفاسدة التي يظنها أهل الزيغ ومن لم يمعن النظر، وهذا نحو الحديث الصحيح، عن النبي عليه السلام، الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور متشابهات أي يكون الشيء حراماً في نفسه فيشبه عند من لم يمعن النظر شيئاً حلالاً وكذلك الآية يكون لها في نفسها معنى صحيح فتشبه عند من لم يمعن النظر أو عند الزائغ معنى آخر فاسداً فربما أراد الاعتراض به على كتاب الله، هذا عندي معنى الإحكام والتشابه في هذه الآية، ألا اترى أن نصارى نجران قالوا للنبي عليه السلام، أليس في كتابك أن عيسى كلمة وروح منه‏ ؟‏ قال نعم، قالوا‏:‏ فحسبنا إذاً‏.‏

قال الفقيه الإمام أبو محمد‏:‏ فهذا التشابه، واختلفت عبارة المفسرين في تعيين المحكم والمتشابه المراد بهذه الآية، فقال ابن عباس المحكمات هي قوله تعالى‏:‏ (‏قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم‏)‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ إلى ثلاثة آيات، وقوله في بني إسرائيل (‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه)‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]،‏ وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات، وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ المحكمات ناسخة وحلاله وحرامه وما يؤمن به ويعمل، والمتشابه منسوخة ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به، وقال ابن مسعود وغيره‏:‏ المحكمات الناسخات، والمتشابهات المنسوخات‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ وهذا عندي على جهة التمثيل أي يوجد الإحكام في هذا والتشابه في هذا، لا أنه وقف على هذا النوع من الآيات، وقال بهذا القول قتادة والربيع والضحاك، وقال مجاهد وعكرمة‏:‏ المحكمات ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك فهو متشابه يصدق بعضه بعضاً، وذلك مثل قوله‏:‏ (‏وما يضل به إلا الفاسقين‏)‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]،‏ وقوله‏:‏ ‏(‏كذلك يجعل الله الرجس على الذني لا يؤمنون‏)‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏‏.‏

قال الفقيه أبو محمد‏:‏ وهذه الأقوال وما ضارعها يضعفها أن أهل الزيغ لا تعلق لهم بنوع مما ذكر دون سواه، وقال محمد بن جعفر بن الزبير‏:‏ المحكمات هي التي فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه، والمشتابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد‏.‏

قال الفقيه الإمام أبو محمد‏:‏ وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية، وقال ابن زيد‏:‏ المحكم ما أحكم فيه قصص الأنبياء والأمم وبين لمحمد وأمته، والمتشابه هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور بعضها باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وبعضه بعكس ذلك نحو قوله‏:‏ (حية تسعى‏)‏ ‏[‏طه‏:‏ 20‏]‏، و(‏ثعبان مبين‏)‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 107‏]‏، ونحو‏:‏ (اسلك يدك)، و (أدخل يدك)، وقالت جماعة من العلماء منهم جابر بن عبد الله بن رئاب وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري، وغيرهما‏:‏ المحكمات من آي القرآن ما عرف العلماء تأويله وفهمو معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه قال بعضهم‏:‏ وذلك مثل وقت قيام الساعة وخروج يأجوج ومأجوج والدجال ونزول عيسى ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور‏.‏

قال القاضي رحمه الله‏:‏ أما الغيوب التي تأتي فهي من المحكمات، لأن ما يعلم البشر منها محدود وما لا يعلمونه وهو تحديد الوقت محدود أيضاً، وأما أوائل السور فمن المتشابه لأنها معرضة للتأويلات ولذلك اتبعته اليهود وأرادوا أن يفهموا منه مدة أمة محمد عليه السلام، وفي بعض هذه العبارات التي ذكرنا للعلماء اعتراضات، وذلك أن التشابه الذي في هذه الآية مقيد بأنه مما لأهل الزيغ به تعلق، وفي بعض عبارات المفسرين تشابه لا يقتضي لأهل الزيغ تعلقاً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏أم الكتاب)‏ فمعناه الإعلام بأنها معظم الكتاب وعمدة ما فيه إذ المحكم في آيات الله كثير قد فصل ولم يفرط في شيء منه، قال يحيى بن يعمر‏:‏ هذا كما يقال لمكة-أم القرى- ولمرو أو خراسان، وكما يقال أم الرأس لمجتمع الشؤون إذ هو أخطر مكان، قال المهدوي والنقاش‏:‏ كل آية محكمة في كتاب الله يقال لها ‏(أم الكتاب‏)‏، وهذا مردود بل جميع المحكم هو ‏(‏أم الكتاب‏)‏، وقال النقاش‏:‏ وذلك كما تقول‏:‏ كلكم عليَّ أسد ضار‏.‏

قال الفقيه أبو محمد‏:‏ وهذا المثال غير محكم، وقال ابن زيد‏:‏ ‏(أم الكتاب‏)‏ معناه جماع الكتاب، وحكى الطبري عن أبي فاختة أنه قال‏:‏ ‏(هن أم الكتاب‏) يراد به فواتح السور إذ منها يستخرج القرآن (‏الم ذلك الكتاب‏)‏ منه استخرجت سورة البقرة (الم الله لا إله إلا هو‏)‏ منه استخرجت سورة آل عمران، وهذا قول متداع للسقوط مضطرب لم ينظر قائله أول الآية وآخرها ومقصدها وإنما معنى الآية الإنحاء على أهل الزيغ والأشارة بذلك أولاً إلى نصارى نجران وإلى اليهود الذين كانوا معاصرين لمحمد عليه السلام فإنهم كانوا يعترضون معاني القرآن، ثم تعم بعد ذلك كل زائغ، فذكر الله تعالى أنه نزل الكتاب على محمد إفضالاً منه ونعمة، وأن محكمه وبينه الذي لا اعتراض فيه هو معظمه والغالب عليه، وأن متشابهه الذي يحتمل التأويل ويحتاج إلى التفهم هو أقله‏.‏ ثم إن أهل الزيغ يتركون المحكم الذي فيه غنيتهم ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة وأن يفسدوا ذات البين ويردوا الناس إلى زيغهم، فهكذا تتوجه المذمة عليهم.

و‏ (‏أخر‏)‏ جمع أخرى لا ينصرف لأنه صفة، وعدل عن الألف واللام في أنه يثنى ويجمع، وصفات التفضيل كلها إذا عريت عن الألف واللام لم تثن ولم تجمع كأفضل وما جرى مجراه، ولا يفاضل بهذه الصفات بين شيئين إلا وهي منكرة، ومتى دخلت عليه الألف واللام زال معنى التفضيل بين أمرين، وليس عدل ‏(‏أخر‏)‏ عن الألف واللام مؤثراً في التعريف كما هو عدل - سحر - بل أخر نكرة، وأما سحر فعدل بأنه زالت الألف واللام وبقي معرفة في قوله، جئت يوم الجمعة سحر، وخلط المهدوي في هذه المسألة وأفسد كلام سيبويه فتأمله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ (‏فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ‏)‏.

قوله تعالى‏:‏ ‏(‏الذين في قلوبهم زيغ)‏ يعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل صاحب بدعة، والزيغ الميل، ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار، والإشارة بالآية في ذلك الوقت كانت إلى نصارى نجران لتعرضهم للقرآن في أمر عيسى عليه السلام، قاله الربيع، وإلى اليهود، ثم تنسحب على كل ذي بدعة أو كفر، وبالميل عن الهدى فسر الزيغ محمد بن جعفر بن الزبير وابن مسعود وجماعة من الصحابة ومجاهد وغيرهم، و‏(ما تشابه منه‏)‏ هو الموصوف آنفاً - بمتشابهات - وقال قتادة في تفسر قوله تعالى ‏(وأما الذين في قلوبهم زيغ‏):‏ إن لم يكونوا الحرورية وأنواع الخوارج، فلا أدري من هم ‏؟‏ وقالت عائشة‏:‏ إذا رأيتم الذين يجادلون في القرآن فهم الذي عنى الله فاحذروهم، وقال الطبري‏:‏ الأشبه أن تكون الآية في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدته ومدة أمته بسبب حروف أوائل السور، وهؤلاء هم اليهود.

و ‏(‏ابتغاء) نصب على المفعول من أجله، ومعناه طلب الفتنة.

وقال الربيع، ‏(‏الفتنة‏) هنا الشرك، وقال مجاهد‏:‏ ‏(‏الفتنة‏)‏ الشبهات واللبس على المؤمنين، ثم قال‏:‏ ‏(وابتغاء تأويله‏)‏ والتأويل هو مرد الكلام ومرجعه والشيء الذي يقف عليه من المعاني، وهو من آل يؤول، إذا رجع، فالمعنى وطلب تأويله على منازعهم الفاسدة‏.‏

هذا فيما له تأويل حسن وإن كان مما لا يتأول بل يوقف فيه كالكلام في معنى الروح ونحوه، فنفس طلب تأويله هو اتباع ما تشابه‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ابتغوا معرفة مدة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، ثم قال‏:‏ ‏(وما يعلم تأويله إلا الله‏)‏ فهذا على الكمال والتوفية فيما لا يتأول ولا سبيل لأحد إليه كأمر الروح وتعرف وقت قيام الساعة وسائر الأحداث التي أنذر بها الشرع، وفيما يمكن أن يتأوله العلماء ويصح التطرق إليه، فمعنى الآية‏:‏ وما يعلم تأويله على الكمال إلا الله‏.‏

واختلف العلماء في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏والراسخون في العلم‏)‏ فرأت فرقة، أن رفع ‏(والراسخون‏) هو بالعطف على اسم الله عز وجل وأنهم داخلون في علم المتشابه في كتاب الله وأنهم مع علمهم به، ‏(‏يقولون آمنا به‏) الآية، قال بهذا القول ابن عباس، وقال‏:‏ أنا ممن يعلم تأويله، وقال مجاهد‏:‏ والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به، وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير وغيرهم، و‏(‏يقولون‏)‏ على هذا التأويل نصب على الحال، وقالت طائفة أخرى‏:‏ ‏(‏والراسخون‏)‏ رفع بالابتداء وهو مقطوع من الكلام الأول وخبره ‏(يقولون‏)‏، والمنفرد بعلم المتشابه هو الله وحده بحسب اللفظ في الآية وفعل الراسخين قولهم ‏(‏آمنا به‏) قالته عائشة وابن عباس أيضاً، وقال عروة بن الزبير‏:‏ إن الراسخين لا يعلمون تأويله ولكنهم يقولون، ‏(‏آمنا به‏)‏، وقال أبو نهيك الأسدي‏:‏ إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم ‏(‏آمنا به كل من عند ربنا)‏ وقال مثل هذا عمر بن عبد العزيز، وحكى نحوه الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس‏.‏

قال القاضي رحمه الله‏:‏ وهذه المسألة إذا تؤملت قرب الخلاف فيها من الاتفاق، وذلك أن الله تعالى قسم آي الكتاب قسمين‏:‏- محكماً ومتشابهاً - فالمحكم هو المتضح المعنى لكل من يفهم كلام العرب لا يحتاج فيه إلى نظر ولا يتعلق به شيء يلبس ويستوي في علمه الراسخ وغيره والمتشابه يتنوع، فمنه ما لا يعلم البتة، كأمر الروح، وآماد المغيبات التي قد أعلم الله بوقوعها إلى سائر ذلك، ومنه ما يحمل وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب، فيتأول تأويله المستقيم، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق به من تأويل غير مستقيم كقوله في عيسى ‏(وروح منه)‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏ إلى غير ذلك، ولا يسمى أحد راسخاً إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيراً بحسب ما قدر له، وإلا فمن لا يعلم سوى المحكم فليس يسمى راسخاً، وقوله تعالى‏:‏ ‏(وما يعلم تأويله)‏ الضمير عائد على جميع متشابه القرآن، وهو نوعان كما ذكرنا، فقوله ‏(الا الله‏) مقتض ببديهة العقل أنه يعلمه على الكمال والاستيفاء، يعلم نوعيه جميعاً، فإن جعلنا قوله‏:‏ ‏(‏والراسخون‏)‏ عطفاً على اسم الله تعالى، فالمعنى إدخالهم في علم التأويل لا على الكمال، بل علمهم إنما هو في النوع الثاني من المتشابه، وبديهة العقل تقضي بهذا، والكلام مستقيم على فصاحة العرب كما تقول‏:‏ ما قام لنصرتي إلا فلان وفلان، وأحدهما قد نصرك بأن حارب معك، والآخر إنما أعانك بكلام فقط، إلى كثير من المثل، فالمعنى ‏(‏وما يعلم‏) تأويل المتشابه إلا الله (‏والراسخون) كل بقدره، وما يصلح له، ‏(والراسخون‏)‏ بحال قول في جميعه (‏آمنا به‏)‏، وإذا تحصل لهم في الذي لا يعلم ولا يتصور عليه تمييزه من غيره فذلك قدر من العلم بتأويله، وإن جعلنا قوله‏:‏ ‏(والراسخون‏)‏، رفعاً بالابتداء مقطوعاً مما قبله، فتسميتهم راسخين يقتضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم، إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع، وما الرسوخ إلا المعرفة بتصاريف الكلام وموارد الأحكام، ومواقع المواعظ، وذلك كله بقريحة معدة، فالمعنى ‏(‏وما يعلم تأويله‏)‏ على الاستيفاء إلى الله، والقوم الذي يعلمون منه ما يمكن أن يعلم يقولون في جميعه ‏(‏آمنا به كل من عند ربنا‏)‏ وهذا القدر هو الذي تعاطى ابن عباس رضي الله عنه، وهو ترجمان القرآن، ولا يتأول عليه أنه علم وقت الساعة وأمر الروح وما شاكله‏.‏

فإعراب ‏(‏الراسخون)‏ يحتمل الوجهين، ولذلك قال ابن عباس بهما، والمعنى فيهما يتقارب بهذا النظر الذي سطرناه، فأما من يقول‏:‏ إن المتشابه إنما هو ما لا سبيل لأحد إلى علمه فيستقيم على قوله إخراج الراسخين من علم تأويله، لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح، بل الصحيح في ذلك قول من قال‏:‏ المحكم ما لا يحتمل إلا تأويلاً واحداً والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً، وهذا هو متبع أهل الزيغ، وعلى ذلك يترتب النظر الذي ذكرته، ومن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه فإنما أرادوا هذا النوع وخافوا أن يظن أحد أن الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال، وكذلك ذهب الزجاج إلى أن الإشارة بما تشابه منه إنما هي إلى وقت البعث الذي أنكره، وفسر باقي الآية على ذلك، فهذا أيضاً تخصيص لا دليل عليه، وأما من يقول، إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح، ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون التأويل وأطنب في ذلك، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس‏:‏ «إلا الله ويقول‏:‏ الراسخون في العلم آمنا به»، وقرأ ابن مسعود «وابتغاء تأويله»، إن تأويله إلا عند الله، - ‏(والراسخون في العلم‏)‏ يقولون ‏(‏آمنا به‏) ‏- والرسوخ في الثبوت في الشيء، وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل أو الشجر في الأرض وسئل النبي عليه السلام عن «الراسخين في العلم»، فقال‏:‏ هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام.

وقوله‏:‏ ‏(‏كل من عند ربنا‏)‏ فيه ضمير عائد على كتاب الله، محكمه ومتشابهه، والتقدير، كله من عند ربنا، وحذف الضمير لدلالة لفظ كل عليه، إذ هي لفظة تقتضي الإضافة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ (‏وما يذكر إلا أولو الألباب‏)‏ أي ما يقول هذا ويؤمن به ويقف حيث وقف ويدع اتباع المتشابه إلاذو لب، وهو العقل، و(‏أولو‏)‏‏:‏ جمع ذو‏.‏

المنتخب لعلماء الأزهر

وهو الذى أنزل عليك القرآن ، وكان من حكمته أن جعل منه آيات محكمات محددة المعنى بيِّنة المقاصد ، هى الأصل وإليها المرجع ، وأخر متشابهات يدق معناها على أذهان كثير من الناس ، وتشبته على غير الراسخين فى العلم ، وقد نزلت هذه المتشابهات لتبعث العلماء على العلم والنظر ودقة الفكر فى الاجتهاد ، وفى البحث فى الدين ، وشأن الزائغين عن الحق أن يتتبعوا ما تشابه من القرآن رغبة فى إثارة الفتنة ، ويؤوِّلوها حسب أهوائهم . وهذه الآيات لا يعلم تأويلها الحق إلا الله والذين تثبتوا فى العلم وتمكنوا منه ، وأولئك المتمكنون منه يقولون : إنا نوقن بأن ذلك من عند الله ، لا نفرق فى الإيمان بالقرآن بين محكمه ومتشابهه ، وما يعقل ذلك إلا أصحاب العقول السليمة التى لا تخضع للهوى والشهوة .

الوجيز للواحدي

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ محكماتٌ} وهنَّ الثَّلاث الآيات في آخر سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ} إلى آخر الآيات الثَّلاث {هنَّ أمُّ الكتاب} هنَّ أمُّ كلِّ كتاب أنزله الله تعالى على كلِّ نبيٍّ فيهنَّ كلُّ ما أحلَّ وحرَّم ومعناه: أنهنَّ أصل الكتاب الذي يُعمل عليه {وأخر} أَيْ: آياتٌ أُخر {متشابهات} يريد: التي تشابهت على اليهود وهي حروف التَّهجِّي في أوائل السُّور وذلك أنَّهم أوَّلوها على حساب الجُمَّل وطلبوا أن يستخرجوا منها مدَّة بقاء هذه الأُمَّة فاختلط عليهم واشتبه {فأمَّا الذين في قلوبهم زيغٌ} وهم اليهود الذين طلبوا علمَ أجل هذه الأمَّة من الحروف المقطَّعة {فيتبعون ما تشابه منه} من الكتاب يعني: حروف التَّهجِّي {ابتغاء الفتنة} طلب اللَّبس ليضلُّوا به جُهَّالهم {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} طلب أجل أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم {وما يعلم تأويله إلاَّ الله} يريد: ما يعلم انقضاء ملك أمَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلاَّ الله لأنَّ انقضاء ملكهم مع قيامِ السَّاعة ولا يعلم ذلك أحد إلاَّ الله ثمَّ ابتدأ فقال: {والراسخون في العلم} أَي: الثَّابتون فيه يعني: علماء مؤمني أهل الكتاب {يقولون آمنا به} أَيْ: بالمتشابه {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربنا} المحكم والمتشابه وما علمناه وما لم نعلمه {وما يذكر إلا أولو الألباب} ما يتعَّظ بالقرآن إلاَّ ذوو العقول

تفسير ابن أبي حاتم



قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عليك الكتاب
3165 - حدثنا أبو زرعة، ثنا بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ يَعْنِي: الْقُرْآنَ.

3166 - حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِصِفَةِ مَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ وَعَدْلِهِ وَافْتِرَادِهِ بِالْخَلْقِ دُونَ سواه منهم، عصمة للعباد ودمغ لِلْخُصُومِ وَالْبَاطِلِ، وَحَجَّةَ الرَّبِّ.
قولهُ تَعَالَى: مِنْهُ آيَاتٍ مُحْكَمَاتٍ
3167 - حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٍ مُحْكَمَاتٍ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ فَالْمُحْكَمَاتُ نَاسِخُهُ وَحَلالُهُ وَحَرَامُهُ وَحُدُودُهُ وَفَرَائِضُهُ، وَمَا يُؤْمَنُ بِهِ وَيُعْمَلُ بِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ قتادة وَالضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ.
وَالسُّدِّيِّ قَالُوا: الْمُحْكَمُ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ.

3168 - حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا أَبُو غَسَّانَ، ثنا قَيْسٌ يَعْنِي: ابْنَ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فُلانٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ قَالَ: الثَّلاثُ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الأَنْعَامِ مُحْكَمَاتٌ، قُلْ تَعَالَوْا: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وَالآيَاتُ بَعْدَهَا.

3169 - حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا ابْنُ نُفَيْلٍ، ثنا هُشَيْمٌ، أنا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ مَنْ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ قَالَ: مِنْ هَاهُنَا قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إِلَى ثَلاثِ آيَاتٍ وَمِنْ هَاهُنَا وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إلا إياه إلى ثالث آيَاتٍ بَعْدَهَا- وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوُ ذَلِكَ.

3170 - حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا عَمْرُو بْنُ رَافِعٍ أَبُو الْحَجَرِ: ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ عَامِرٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ قَالَ: هِيَ الْآمِرَةُ وَالزَّاجِرَةُ.

3171 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نحيى، ثنا أَبُو غَسَّانَ، ثنا سَلَمَةُ قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ فَهُنَّ حُجَّةُ الرَّبِّ وَعِصْمَةُ الْعِبَادِ، وَدَمْغُ الْخُصُومِ وَالْبَاطِلِ لَيْسَ لَهُنَّ تَصْرِيفٌ وَلا تَحْرِيفٌ عَمَّا وُضِعْنَ عَلَيْهِ .
قولهُ تعالى: هن أم الكتاب
[الوجه الأول]

3172 - حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سُوَيْدٍ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَعْمَرَ وَأَبَا فَاخِتَةَ تَرَاجَعَا هَذِهِ الآيَةَ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ فَقَالَ أَبُو فَاخِتَةَ: فَوَاتِحُ السُّوَرِ، وَقَالَ يَحْيَى الْفَرَائِضُ وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْحَلالُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي:
3173 - حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، ثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ يَقُولُ: أَصْلُ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُنَّ أُمَّ الْكِتَابِ لأَنَّهُنَّ مَكْتُوبَاتٌ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ:
قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُزَاحِمٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ: فِي هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا قَالَ: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ لأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دَيْنٍ إِلا يَرْضَى بهن.

قولهُ تعالى: وأخر متشابهات
[الوجه الأول]

3174 - حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَالْمُتَشَابِهَاتُ: مَنْسُوخُهُ وَمُقَدَّمُهُ، وَمُؤَخَّرُهُ، وَأَمْثَالُهُ وَأَقْسَامُهُ وَمَا يُؤْمَنُ بِهِ وَلا يُعْمَلُ بِهِ.
وَمَا يُؤْمَنُ بِهِ وَلا يُعْمَلُ
-
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: بَعْضُهُ يُصَدِّقُ بَعْضًا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ: هُوَ الْمَنْسُوخُ الَّذِي يُؤْمَنُ بِهِ وَلا يُعْمَلُ بِهِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي:
3175 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْهَرَوِيُّ، ثنا أَبُو دَاوُدَ، ثنا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ قال: بَعْضُهُ يُصَدِّقُ بَعْضًا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ:
3176 - قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَ مُحَمَّدُ بْنُ مُزَاحِمٍ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ مُقَاتِلِ: قَوْلُهُ: وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ يَعْنِي فِيمَا بَلَغَنَا: الم وَالمص وَالمر وَالر، فَهَؤُلاءِ الأَرْبَعُ الْمُتَشَابِهَاتُ.

وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ:
3177 - حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ لَمْ يَفْصِلْ فِيهِنَّ الْقَوْلَ كَفَصْلِهِ فِي الْمُحْكَمَاتِ، تَتَشَابَهُ فِي عُقُولِ الرِّجَالِ وَيَتَخَالَجُهَا التَّأْوِيلُ، فَابْتَلَى اللَّهُ فِيهَا الْعِبَادَ كَابْتِلائِهِمْ فِي الْحَلالِ وَالْحَرَامِ.

3178 - حَدَّثَنَا محمد بن نحيى، أَنْبَأَ أَبُو غَسَّانَ، ثنا سَلَمَةُ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ مُتَشَابِهَاتٌ فِي الصِّدْقِ لَهُنَّ تَصْرِيفٌ وَتَحْرِيفٌ وَتَأْوِيلٌ، ابْتَلَى اللَّهُ فِيهِنَّ الْعِبَادَ كَمَا ابْتَلاهُمْ فِي الْحَلالِ وَالْحَرَامِ، أَلا يُصْرَفْنَ إِلَى الْبَاطِلِ وَلا يُحَرَّفْنَ عَنِ الْحَقِّ.

قَوْلُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زيغ
[الوجه الأول]

3179 - حَدَّثَنَا أَبُو بَدْرٍ عَبَّادُ بْنُ الْوَلِيدِ الْغُبَرِيُّ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْهُنَائِيُّ، حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الْخَيَّاطُ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا غَالِبٍ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو غَالِبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُمُ الْخَوَارِجُ.

3180 - أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدٍ الْبَيْرُوتِيُّ قِرَاءَةً، أَخْبَرَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَوْذَبٍ قَالَ: كُنْتُ فِي مَسْجِدِ دمشق إذ قدمت رؤس من رؤس الأَزَارِقَةِ مِمَّا كَانَ بَعَثَ بِهِ الْمُهَلَّبُ فَنُصِبَت عِنْدَ دَرَجِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إليها فدنوت مِنْهَا، فَجَاءَ أَبُو أُمَامَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى ثُمَّ دَنَا مِنَ الرُّءُوسِ فَقَالَ: كِلابُ جَهَنَّمَ، ثَلاثًا، شَرُّ قَتْلَى قُتِلُوا تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ، ثَلاثًا، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْقَوْمِ فَإِذَا هُوَ بِي، فَقَالَ: أَمَا تَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زيغ فيتبعون ما تشابه منه قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا تَقُولُ فِي هَؤُلاءِ الْقَوْمِ أشيء قلته برأيك؟ أم شيء
سمعته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: إِنِّي إِذًا لَجَرِيءٌ، لَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلا اثْنَتَيْنِ وَلا ثَلاثٍ حَتَّى ذَكَرَ سَبْعًا .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي:
3181 - حَدَّثَنَا أَبِي ثنا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يَعْنِي أَهْلَ الشَّكِّ
-
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ قَالا: شَكٌّ.

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ:
3182 - قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُزَاحِمٍ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يَعْنِي: حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ، وَأَصْحَابَهُ مِنَ الْيَهُودِ.

وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ:
3183 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نحيى، أنبأ أَبُو غَسَّانَ، أنا سَلَمَةُ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أَيْ: مَيْلٌ عَنِ الْهُدَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ
3184 - حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، ثنا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قلوبهم زيغ فيتبعون مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَقَال َرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمُ .

3185 - حَدَّثَنَا أَبِي ثنا أَبُو صَالِحٍ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ قَالَ: فَيَحْمِلُونَ الْمُحْكَمَ عَلَى الْمُتَشَابِهِ. وَالْمُتَشَابِهَ عَلَى الْمُحْكَمِ وَيَلْبِسُونَ، فَلَبَّسَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.

3186 - حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، ثنا أسباط، عن السدي:
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الْمَنْسُوخَ وَالنَّاسِخَ وَيَقُولُونَ: مَا بَالُ هَذِهِ الآيَةِ عُمِلَ بِهَا كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ جَاءَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَتُرِكَتْ هَذِهِ الأُولَى وَعُمِلَ بِهَذِهِ الآخِرَةِ، فَهَلا كَانَ الْعَمَلُ بِهَذِهِ الآيَةِ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ الأُولَى الَّتِي قَدْ نُسِخَتْ؟، وَمَا بَالُهُ بعد الْعَذَابَ مَنْ عَمِلَ عَمَلا يُعَذِّبُهُ بِالنَّارِ؟، وَفِي مَكَانِ آخَرَ مَنْ عَمِلَهُ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجِبْ لَهُ النَّارَ، فَأَرَادَ مَا فِي الْقُرْآنَ مِمَّا وَعَدَ اللَّهُ، وَمَا فِيهِ مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ إِرَادَةَ الْفِتْنَةِ.

3187 - حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ: فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعْنِي: النَّصَارَى قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ عِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحٌ مِنْهُ؟
قَالَ: بَلَى. قَالُوا: فَحَسْبُنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ.

قولهُ تَعَالَى: مَا تشابه منه
3188 - حدثنا محمد بن نحيى، أَنْبَأَ أَبُو غَسَّانَ، ثنا سَلَمَةُ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَوْلُهُ: فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ أَيْ: مَا تَحَرَّفَ مِنْهُ وَتَصَرَّفَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ
3189 - حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، ثنا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ: قَوْلُهُ:
ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ: إِرَادَةَ الْفِتْنَةِ.

قولهُ تَعَالَى: الفتنة
[الوجه الأول]

3190 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ حَمْزَةَ، ثنا شَبَابَةُ، ثنا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ. عَنْ مُجَاهِدٍ
قَوْلُهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ الشُّبُهَاتِ مِمَّا أُهْلِكُوا بِهِ .

الْوَجْهُ الثَّانِي:
3191 - حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، ثنا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ:
ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَهُوَ الشِّرْكُ- وَرُوِيَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ نَحْوُ ذَلِكَ.
الوجه الثالث:
3192 - حدثنا محمد بن نحيى، أَنْبَأَ أَبُو غَسَّانَ ثنا سَلَمَةُ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَوْلُهُ: ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ أَيِ: اللبس.

قولهُ تعالى: وابتغاء تأويله
[الوجه الأول]

3193 - حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ثنا عَمْرُو بْنُ طَلْحَةَ الْقَنَّادُ، ثنا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ قَالَ: وَأَرَادُوا أَنْ يَعْلَمُوا تَأْوِيلَ الْقُرْآنِ وَهُوَ عَوَاقِبُهُ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي:
3194 - قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَ مُحَمَّدُ بْنُ مُزَاحِمٍ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ مُقَاتِلٍ: قَوْلُهُ: ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ قَالَ وَابْتِغَاءَ مَا يَكُونُ وَكَمْ يَكُونُ.

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ:
3195 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، ثنا مُوسَى بْنُ مُحْكَمٍ، ثنا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، ثنا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ قَوْلِهِ: وابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ فَقَالَ: تَأْوِيلُهُ:
الْقَضَاءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ:
3196 - حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَوْلُهُ: ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ مَا تَأَوَّلُوا وَزَيَّنُوا مِنَ الضلالة ليجيئ لَهُمُ الَّذِينَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْبِدْعَةَ، لِيَكُونَ لَهُمْ بِهِ حَجَّةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ لِلتَّصْرِيفِ وَالتَّحْرِيفِ الَّذِي ابْتُلُوا بِهِ، كَمَيْلِ الأَهْوَاءِ وَزَيغِ الْقُلُوبِ، وَالتَّنْكِيبِ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي أَحْدَثُوا مِنَ الْبِدْعَةِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا الله
[الوجه الأول]

3197 - حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي قَوْلِهِ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ قَالَ: تَأْوِيلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَعْلَمُهُ إِلا اللَّهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي:
3198 - ذُكِرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ قَالَ: تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ:
3199 - ذُكِرَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ الْعِبَارَةُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: يَعْنِي عِبَارَةَ الرُّؤْيَا.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ:
3200 - حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ اللَّهُ:
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَتَأْوِيلُهُ: عَوَاقِبُهُ مَتَى يجيئ النَّاسِخُ فَيَنْسَخُ الْمَنْسُوخَ.

وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ:
3201 - قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَ مُحَمَّدُ بْنُ مُزَاحِمٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ عَنْ مُقَاتِلِ ابن حَيَّانَ يَقُولُ اللَّهُ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ كَمْ يَمْلِكُونَ إِلا اللَّهُ.

وَالْوَجْهُ السَّادِسُ:
3202 - حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَوْلُهُ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ أَيْ: مَا يَعْلَمُ مَا حَرَّفُوا وَتَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ الَّذِي يَعْلَمُ سَرَائِرَ الْعِبَادِ وَأَعْمَالَهُمْ.

الْوَجْهُ السَّابِعُ:
3203 - حَدَّثَنَا أَبِي ثنا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ مَرْزُوقٍ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ قَالَ: لَنَا ثَوَابُهُ.

الْوَجْهُ الثَّامِنُ:
3204 - أَخْبَرَنِي أَبُو يَزِيدَ الْقَرَاطِيسِيُّ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، ثنا أَصْبَغُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ قَوْلُ اللَّهِ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ قال تَحْقِيقَهُ.
قولهُ تعالى: والراسخون في العلم
[الوجه الأول]

3205 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ الْحِمْصِيُّ، ثنا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، ثنا فَيَّاضُ الرَّقِّيُّ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبَا أُمَامَةَ وَأَنَسًا وَأَبَا الدَّرْدَاءِ. قَالَ: ثنا أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، فَقَالَ: مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ، وَاسْتَقَامَ قَلْبُهُ، وَمَنْ عَفَّ بَطْنَهُ وَفَرْجَهُ فَذَلِكَ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي:
3206 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الأَشَجُّ، ثنا أَبُو تُمَيْلَةَ، أنبأ أَبُو مُنِيبٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ وَأَبِي نَهِيكٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ في العلم قَالَ:
إِنَّكُمْ تَصِلُونَ هَذِهِ الآيَةَ وَهِيَ مَقْطُوعَةٌ ثُمَّ يَقْرَأُ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا به كل من عند رَبِّنَا فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ إِلَى قَوْلِهِ الَّذِينَ قَالُوا وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ.

3207 - أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى قِرَاءَةً ثنا ابْنُ وَهْبٍ، وَأَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، ثنا هِشَامٌ يَعْنِي ابْنَ عُرْوَةَ وَكَانَ أَبِي يَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ قَالَ: إِنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا.

3208 - حَدَّثَنَا أَبِي ثنا يَسَرَةُ بْنُ صَفْوَانَ، ثنا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَرَأَتْ عَائِشَةُ هَؤُلاءِ الآيَاتِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَى قَوْلِهِ: آمَنَّا بِهِ قَالَتْ: كَانَ مِنْ رُسُوخِهِمْ فِي الْعِلْمِ أَنْ آمَنُوا بِمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَلا يَعْلَمُونَهُ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ:
3209 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَشْعَثِ، ثنا حَمُ بْنُ نُوحٍ، ثنا أَبُو مُعَاذٍ، ثنا أَبُو مُصْلِحٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
يَقُولُ: الرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، لَوْ لَمْ يَعْلَمُوا تَأْوِيلَهُ لَمْ يَعْلَمُوا نَاسِخَهُ مِنْ مَنْسُوخِهِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا حَلالَهُ مِنْ حَرَامِهِ، وَلا مُحْكَمَهُ مِنْ مُتَشَابِهِهِ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: بِوَصْفِ الرَّاسِخِينَ:
3210 - قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَنْبَأَ مُحَمَّدُ بْنُ مُزَاحِمٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَوْلُهُ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ وَأَصْحَابَهُ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ.

3211 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، ثنا الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: لَقِيتُ زَيْدًا فَوَجَدْتُهُ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ.

3212 - حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ.

وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ:
3213 - حَدَّثَنَا أَبِي ثنا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَوْلُهُ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ قَالَ: لَمْ تَكُنْ مَعْرِفَتُهُمْ إِيَّاهُ أَنْ يَفْقَهُوهُ عَلَى الشَّكِّ، وَلَكِنَّهُمْ خَلَصَتِ الأَعْمَالُ مِنْهُمْ، وَنَفَذَ عِلْمُهُمْ أَنْ عَرَفُوا اللَّهَ بِعَدْلِهِ، لَمْ يَكُنْ لِيَخْتَلِفَ شَيْءٌ مِمَّا جَاءَ مِنْهُ فَرَدُّوا الْمُتَشَابِهَ عَلَى الْمُحْكَمِ فَقَالُوا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُونَ آمَنَّا به
[الوجه الأول]

3214 - حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، ثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ يَعْنِي: مَا نُسِخَ وَمَا لَمْ يُنْسَخْ- قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَالسُّدِّيِّ نَحْوُ ذَلِكَ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي:
3215 - أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ الطُّوسِيُّ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، ثنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرُّوذِيُّ، ثنا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ قَالَ: آمَنُوا بِمُتَشَابِهِهِ وَعَمِلُوا بِمُحْكَمِهِ، فَأَحَلُّوا حَلالَهُ وَحَرَّمُوا حَرَامَهُ.

3216 - حَدَّثَنَا أَبِي ثنا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ مَرْزُوقٍ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ
جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ نَعْمَلُ بِمُحْكَمِهِ وَنُؤْمِنُ بِمُتَشَابِهِهِ: وَلا نَعْمَلُ بِهِ يَعْنِي: بِمُتَشَابِهِهِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا
3217 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنِي عَمِّي الْحُسَيْنُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا نُؤْمِنُ بِالْمُحْكَمِ وَنَدِينُ بِهِ، وَنُؤْمِنُ بِالْمُتَشَابِهِ. وَلا نَدِينُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كُلُّهُ وما يذكر إلا أولوا الْأَلْبَابِ.

3218 - حَدَّثَنَا أَبِي ثنا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا قَالَ: فَرَدُّوا الْمُتَشَابِهَ عَلَى الْمُحْكَمِ، وَقَالُوا: كُلٌّ من عند ربنا فيكف يَكُونُ فِيهِ اخْتِلافٌ، وَإِنَّمَا جَاءَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بعضا.

قولهُ تعالى: وما يذكر إلا أولوا الألباب
3219 - حدثنا محمد بن نحيى، ثنا أَبُو غَسَّانَ، ثنا سَلَمَةُ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ ابن إِسْحَاقَ قَالَ: ثُمَّ رَدُّوا، يَعْنِي: الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ عَلَى مَا عَرَفُوا مِنْ تَأْوِيلِ الْمُحْكَمَةِ الَّتِي لَا تَأْوِيلَ لأَحَدٍ فِيهَا إِلا تَأْوِيلا وَاحِدا، فَاشتقَ بِقَوْلِهِمُ الْكِتَابُ وَصَدَّقَ بَعْضُهُ بَعْضًا فَنَفَذَتْ بِهِ الحجة، وظهر به القدر، وزاح الْبَاطِلُ، وَدُمِغَ بِهِ الْكُفْرُ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وما يذكر في مثل إلا أولوا الأَلْبَابِ.

3220 - قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ (بْنِ مُوسَى) ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُزَاحِمٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَوْلُهُ: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أولوا الأَلْبَابِ إِلا كُلُّ ذِي لُبٍّ.

تفسير ابن العثيمين

Tafseer Not Available

تفسير ابن عرفة

قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ (7)}
الزمخشري: أي أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه. ابن عرفة: يريد النسخ، ابن عطية: وقال ابن عباس: المحكم ناسخه وحلاله وحرامه، وفرائضه، وما يؤمر به ويعمل به، والمتشابه منسوخة، ومقدمة، ومؤخرة.
ابن عرفة: كقوله تعالى: (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى)؛ [17/ 81 و] ولأنه مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى، وقد حكى ابن عرفة الخلاف في المتشابه ما هو، قال: حكى الأصوليون خلافا هل يرد في القرآن ما لَا يفهم أم لَا؟ وقال بعض شراح الأصول: أما بالنسبة إلى الكلام القديم الأزلي فلا خلاف في امتناع ذلك فيه، وإنما الخلاف في الألفاظ المعبر بها عنه، بما قاله ابن عرفة: هذا تقسيم بمعنى مستوفى أم لَا؟ قيل له: مستوفى إلا على قول ابن مسعود: أن المحكم النَّاسخ والمتشابه المنسوخ، فبقى قسم ثالث وهو ما ليس بناسخ ولا منسوخ، وذلك أكثر القرآن.
ابن عرفة: بل نقول: إنه تقسيم غير مستوفى مطلقا، والأقسام ثلاثة: منها ما نص في معناه ولا يصح صرفه عنه بوجه، ومنها الظاهر والمحتمل، فالمحكم هو النص الذي لَا احتمال فيه، والمتشابه هي الألفاظ المحتملة التي تحتاج في ردها إلى الصواب لدليل عقلي وسمعي، وبقاء ما هو ظاهر في معناه.
قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ).
دليل على العقل في القلب، قال الطيبي في كتابه المسمى بالبنيان في علم البيان: إن هذا من باب الجمع والتقسيم فقوله تعالى: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)، جمع، ثم عقبه بقوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ)، وبقوله تعالى: (وَالرَّاسِخُونَ) فهذا تقسيم وتفريق كأنه يقول، وأما الراسخون في العلم.
ابن عرفة: وأهل السنة يتبعون المتشابه له لفظ ظاهر، فأهل السنة يتبعونه قصد الصرفة إلى معناه من الصواب والمبتدعة يتبعون ظاهر لفظه، فإن قلت: عمر بن عبد العزيز، وأنظاره من المتقشفين الصلحاء، إنما اتبعوه ابتغاء للطاعة والثواب، فهل يكون هذا كلام الصيرورة، أي اتبعوه ليهتدوا فضلوا، قلت: أحكام القرآن على قسمين تارة يراد بها نفس اللفظ، وتارة يراد مدلوله فمراد ابتغائه سبب الفتنة، أو مدلول الفتنة فهو إنما اتبعوه ابتغاء أمر كان سببا للفتنة؛ لأنهم قصدوا الفتنة.
قوله تعالى: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ).
ابن عرفة: كان بعضهم إنما ذكر الخلاف في الراسخين في العلم هل يعلم تأويله أم لَا؟ القول هذا يتبعني على الخلاف هل بين العلم القديم والحادث اشتراك جاء القول بعدم العطف.
قوله تعالى: (آمَنَّا بِهِ).
أي يقولون في أنفسهم؛ لأن من آمن بقلبه داخل في هذا.
قوله تعالى: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا).
لفظ الرب هنا مناسب أي ورود المحكم فيه والمتشابه رحمة من الله بنا فنظر في الأدلة، وننظر بعقولنا فنخرجه من ظاهره الحقيقي إلى مجازه دفعا للحكم الباطل فيحصل له الأجر والمثوبة بذلك عند الله عز وجل.

تفسير ابن كثير

يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه وحكم مُحْكَمَهُ على متشابهه عنده فقد اهتدى ومن عكس انعكس ولهذا قال تعالى "هن أم الكتاب" أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه "وأخر متشابهات" أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه فروي عن السلف عبارات كثيرة فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما:المحكمات ناسخة وحلاله وحرامه وأحكامه ما يؤمر به ويعمل به وعن ابن عباس أيضا أنه قال:المحكمات قوله تعالى "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا" والآيات بعدها وقوله تعالى "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه" إلى ثلاث آيات بعدها ورواه ابن أبي حاتم وحكاه عن سعيد بن جبير به قال:حدثنا أبي حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا في هذه الآية "هن أم الكتاب وأخر متشابهات" فقال أبو فاختة:فواتح السور. وقال يحيى بن يعمر:الفرائض والأمر والنهي والحلال والحرام. وقال ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير:"هن أم الكتاب" لأنهن مكتوبات في جميع الكتب وقال مقاتل بن حيان:لأنه ليس من أهل دين إلا يرضى بهن وقيل في المتشابهات: المنسوخة والمقدم والمؤخر والأمثال فيه والأقسام وما يؤمن به ولا يعمل به رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وقيل هي الحروف المقطعة في أوائل السور قاله مقاتل بن حيان وعن مجاهد المتشابهات يصدق بعضهـا بعضا وهذا إنما هو في تفسير قوله " كتابا متشابها مثاني" هناك ذكروا أن المتشابه هو الكلام الذي يكون في سياق واحد والمثاني هو الكلام في شيئين متقابلين كصفة الجنة وصفة النار وذكر حال الأبرار وحال الفجار ونحو ذلك. وأما هاهنا فالمتشابه هو الذي يقابل المحكم وأحسن ما قيل فيه هو الذي قدمنا وهو الذي نص عليه محمد بن إسحق بن يسار رحمه الله حيث قال "منه آيات محكمات" فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم الباطل ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه. قال:والمتشابهات في الصدق ليس لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ويحرفن عن الحق. ولهذا قال الله تعالى "فأما الذين في قلوبهم زيغ" أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل "فيتبعون ما تشابه منه" أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دافع لهم وحجة عليهم ولهذا قال الله تعالى "ابتغاء الفتنة" أي الإضلال لأتباعهم إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن وهو حجة عليهم لا لهم كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وتركوا الاحتجاج بقوله "إن هو إلا عبد أنعمنا عليه" وبقوله "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله وعبد ورسول من رسل الله. وقوله تعالى "وابتغاء تأويله" أي تحريفه على ما يريدون وقال مقاتل بن حيان والسدي يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن وقد قال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل حدثنا يعقوب عن عبدالله بن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت:قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات" إلى قوله "أولوا الألباب" فقال "إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم" هكذا وقع هذا الحديث في مسند الإمام أحمد من رواية ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها ليس بينهما أحد وهكذا رواه ابن ماجه من طريق إسماعيل بن علية وعبدالوهاب الثقفي كلاهما عن أيوب به ورواه محمد بن يحيى العبدي في مسنده عن عبدالوهاب الثقفي به وكذا رواه عبدالرزاق عن معمر عن أيوب وكذا رواه غير واحد عن أيوب وقد رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أيوب به ورواه أبو بكر بن المنذر في تفسيره من طريقين عن أبي النعمان محمد بن الفضل السدوسي ولقبه عارم حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة به وتابع أيوب أبو عامر الخراز وغيره عن ابن أبي مليكة فرواه الترمذي عن بندار عن أبي داود الطيالسي عن أبي عامر الخراز فذكره ورواه سعيد بن منصور في سننه عن حماد بن يحيى عن عبدالله بن أبي مليكة عن عائشة ورواه ابن جرير من حديث روح بن القاسم ونافع بن عمر الجمحي كلاهما عن ابن أبي مليكة عن عائشة وقال نافع في روايته عن ابن أبي مليكة حدثتني عائشة فذكره وقد روى هذا الحديث البخاري عند تفسير هذه الآية ومسلم في كتاب القدر من صحيحه وأبو داود في السنة من سننه ثلاثتهم عن العقنبي عن يزيد بن إبراهيم التستري عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت:تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات" إلى قوله "وما يذكر إلا أولو الألباب" قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم" لفظ البخاري وكذا رواه الترمذي أيضا عن بندار عن أبي داود الطيالسي عن يزيد بن إبراهيم به وقال حسن صحيح وذكر أن يزيد بن إبراهيم التستري تفرد بذكر القاسم في هذا الإسناد وقد رواه غير واحد عن ابن أبي مليكة عن عائشة ولم يذكر القاسم كذا قال وقد رواه ابن أبي حاتم فقال:حدثنا أبي حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري وحماد بن سلمة عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم" وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهيل حدثنا الوليد بن مسلم عن حماد بن سلمة عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشـة رضي الله عنها قالت:نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية "فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة" فقال رسول الله صلى عليه وسلم "قد حذركم الله فإذا رأيتموهم فاحذروهم" ورواه ابن مردويه من طريق أخرى عن القاسم عن عائشة به وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو كامل حدثنا حماد عن أبي غالب قال:سمعت أبا أمامة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه" قال "هم الخوارج" وفي قوله تعالى "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" قال:"هم الخوارج" وقد رواه ابن مردويه من غير وجه عن أبي غالب عن أبي أمامة فذكره وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفا من كلام الصحابي ومعناه صحيح فإن أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة ففاجأوه بهذه المقالة فقال قائلهم:وهو ذو الخويصرة بقر الله خاصرته اعدل فإنك لم تعدل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني" فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب وفي رواية خالد بن الوليد في قتله فقال "دعه فإنه يخرج من ضئضئ هذا أي من جنسه قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وقراءته مع قراءتهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم" ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتلهم بالنهروان ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونحل كثيرة منتشرة ثم انبعثت القدرية ثم المعتزلة ثم الجهمية وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في قوله "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كـلها في النار إلا واحدة" قالوا وما هم يا رسول الله؟ قال "من كان على ما أنا عليه وأصحابي" أخرجه الحاكـم في مستدركه بهذه الزيادة. وقال الحافظ أبو يعلى:حدثنا أبو موسى حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا المعتمر عن أبيه عن قتادة عن الحسن بن جندب بن عبدالله أنه بلغه عن حذيفة أو سمعه منه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر "إن في أمتي قوما يقرؤن القرآن ينثرونه نثر الدقل يتأولونه على غير تأويله" لم يخرجوه. وقوله تعالى "وما يعلم تأويله إلا الله" اختلف القراء في الوقف ههنا فقيل على الجلالة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال:التفسير على أربعة أنحاء فتفسير لا يعذر أحد في فهمه وتفسير تعرفه العرب من لغاتها وتفسير يعلمه الراسخون في العلم وتفسير لا يعلمه إلا الله ويروى هذا القول عن عائشة وعروة وأبي الشعثاء وأبي نهيك وغيرهم. وقال الحافظ أبو القاسم في المعجم الكبير:حدثنا هاشم بن مرثد حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به" الآية وإن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يبالون عنه" غريب جدا. وقال ابن مردويه:حدثنا محمد بن إبراهيم حدثنا أحمد بن عمرو حدثنا هشام بن عمار حدثنا ابن أبي حاتم عن أبيه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه فآمنوا به ". وقال عبدالرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال:كان ابن عباس يقرأ:وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون آمنا به. وكذا رواه ابن جرير عن عمر بن عبدالعزيز ومالك بن أنس أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله. وحكى ابن جرير أن في قراءة عبدالله بن مسعود إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به وكذا عن أبي بن كعب واختار ابن جرير هذا القول. ومنهم من يقف على قوله والراسخون في العلم وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول وقالوا الخطاب بما لا يفهم بعيد وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال:أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به وكذا قال الربيع بن أنس. وقال محمد بن إسحق عن محمد بن جعفر بن الزبير:وما يعلم تأويله الذي أراد ما أراد إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ثم ردوا تأويل المتشابهات على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد فاتسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضا فنفذت الحجة وظهر به العذر وزاح به الباطل ودفع به الكفر وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" ومن العلماء من فصل وهذا المقام قال:التأويل يطلق ويراد به في القرآن معنيان أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه ومنه قوله تعالى "وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل" وقوله "هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله" أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عز وجل ويكون قوله "والراسخون في العلم" مبتدأ و"يقولون آمنا به" خبره وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله "نبئنا بتأويله" أي بتفسيره فإن أريد به هذا المعنى فالوقف على "والراسخون في العلم" لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه وعلى هذا فيكون قوله "يقولون آمنا به" حال منهم وساغ هذا وأن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه كقوله "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم - إلى قوله - "يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا" الآية وقوله تعالى "وجاء ربك والملك صفا صفا" أي وجاء الملائكة صفوفا صفوفا. وقوله إخبارا عنهم إنهم يقولون آمنا به أي المتشابه كل من عند ربنا أي الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد كقوله "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" ولهذا قال تعالى "وما يذكر إلا أولوا الألباب" أي إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعانى على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عوف الحمصي حدثنا نعيم بن حماد حدثنا فياض الرقي حدثنا عبيدالله بن يزيد وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنسا وأبا أمامة وأبا الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم فقال "من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه ومن عف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين في العلم". وقال الإمام أحمد حدثنا معمر عن الزهري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما يتدارؤن فقال "إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما أنزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضا فلا تكذبوا بعضه ببعض فما علمتم منه فقولوا به. وما جهلتم فكلوه إلى عالمه" وتقدم رواية ابن مردويه لهذا الحديث من طريق هشام بن عمار عن أبي حازم عن عمرو بن شعيب به وقد قال أبو يعلى الموصلي في مسنده:حدثنا زهير بن حرب حدثنا أنس بن عياض عن أبي حازم عن أبي سلمة قال:لا أعلمه إلا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "نزل القرآن على سبعة أحرف والمراء في القرآن كفر- قالها ثلاثا - ما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه جل جلاله" وهذا إسناد صحيح ولكن فيه علة بسبب قول الراوي لا أعلمه إلا عن أبي هريرة. وقال ابن المنذر في تفسيره:حدثنا محمد بن عبدالله بن عبدالحكم:حدثنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد قال:يقال الراسخون في العلم المتواضعون لله المتذللون لله في مرضاته لا يتعاظمون على من فوقهم ولا يحقرون من دونهم. ثم قال تعالى عنهم مخبرا أنهم دعوا ربهم قائلين "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا".

تفسير الجلالين

7 - (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) واضحات الدلالة (هن أم الكتاب) أصله المعتمد عليه في الأحكام (وأخر متشابهات) لا تفهم معانيها كأوائل السور وجعله كله محكما في قوله {أحكمت آياته} بمعنى أيه ليس فيه عيب ، ومتشابها في قوله {كتابا متشابها} بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن والصدق (فأما الذين في قلوبهم زيغ) ميل عن الحق (فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء) طلب (الفتنة) لجهالهم بوقوعهم في الشبهات واللبس (وابتغاء تأويله) تفسيره (وما يعلم تأويله) تفسيره (إلا الله) وحده (والراسخون) الثابتون المتمكنون (في العلم) مبتدأ خبره (يقولون آمنا به) أي بالمتشابه أنه من عند الله ولا نعلم معناه (كل) من المحكم والمتشابه (من عند ربنا وما يذَّكر) بإدغام التاء في الأصل في الذال أي يتعظ (إلا أولوا الألباب) أصحاب العقول ويقولون أيضا إذا رأوا من يتبعه:

تفسير السعدي

[الآية رقم 7 ]
القرآن العظيم كله محكم كما قال تعالى { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } فهو مشتمل على غاية الإتقان والإحكام والعدل والإحسان { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } وكله متشابه في الحسن والبلاغة وتصديق بعضه لبعضه ومطابقته لفظا ومعنى، وأما الإحكام والتشابه المذكور في هذه الآية فإن القرآن كما ذكره الله { منه آيات محكمات } أي: واضحات الدلالة، ليس فيها شبهة ولا إشكال { هن أم الكتاب } أي: أصله الذي يرجع إليه كل متشابه، وهي معظمه وأكثره، { و } منه آيات { أخر متشابهات } أي: يلتبس معناها على كثير من الأذهان: لكون دلالتها مجملة، أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها، فالحاصل أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد، وهي الأكثر التي يرجع إليها، ومنه آيات تشكل على بعض الناس، فالواجب في هذا أن يرد المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي، فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضا ولا يحصل فيه مناقضة ولا معارضة، ولكن الناس انقسموا إلى فرقتين { فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي: ميل عن الاستقامة بأن فسدت مقاصدهم، وصار قصدهم الغي والضلال وانحرفت قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد { فيتبعون ما تشابه منه } أي: يتركون المحكم الواضح ويذهبون إلى المتشابه، ويعكسون الأمر فيحملون المحكم على المتشابه { ابتغاء الفتنة } لمن يدعونهم لقولهم، فإن المتشابه تحصل به الفتنة بسبب الاشتباه الواقع فيه، وإلا فالمحكم الصريح ليس محلا للفتنة، لوضوح الحق فيه لمن قصده اتباعه، وقوله { وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله } للمفسرين في الوقوف على { الله } من قوله { وما يعلم تأويله إلا الله } قولان، جمهورهم يقفون عندها، وبعضهم يعطف عليها { والراسخون في العلم } وذلك كله محتمل، فإن التأويل إن أريد به علم حقيقة الشيء وكنهه كان الصواب الوقوف على { إلا الله } لأن المتشابه الذي استأثر الله بعلم كنهه وحقيقته، نحو حقائق صفات الله وكيفيتها، وحقائق أوصاف ما يكون في اليوم الآخر ونحو ذلك، فهذه لا يعلمها إلا الله، ولا يجوز التعرض للوقوف عليها، لأنه تعرض لما لا يمكن معرفته، كما سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله { الرحمن على العرش [استوى ] } فقال السائل: كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فهكذا يقال في سائر الصفات لمن سأل عن كيفيتها أن يقال كما قال الإمام مالك، تلك الصفة معلومة، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة، وقد أخبرنا الله بها ولم يخبرنا بكيفيتها، فيجب علينا الوقوف على ما حد لنا، فأهل الزيغ يتبعون هذه الأمور المشتبهات تعرضا لما لا يعني، وتكلفا لما لا سبيل لهم إلى علمه، لأنه لا يعلمها إلا الله، وأما الراسخون في العلم فيؤمنون بها ويكلون المعنى إلى الله فيسلمون ويسلمون، وإن أريد بالتأويل التفسير والكشف والإيضاح، كان الصواب عطف { الراسخون } على { الله } فيكون الله قد أخبر أن تفسير المتشابه ورده إلى المحكم وإزالة ما فيه من الشبهة لا يعلمها إلا هو تعالى والراسخون في العلم يعلمون أيضا، فيؤمنون بها ويردونها للمحكم ويقولون { كل } من المحكم والمتشابه { من عند ربنا } وما كان من عنده فليس فيه تعارض ولا تناقض بل هو متفق يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض وفيه تنبيه على الأصل الكبير، وهو أنهم إذا علموا أن جميعه من عند الله، وأشكل عليهم مجمل المتشابه، علموا يقينا أنه مردود إلى المحكم، وإن لم يفهموا وجه ذلك. ولما رغب تعالى في التسليم والإيمان بأحكامه وزجر عن اتباع المتشابه قال { وما يذكر } أي: يتعظ بمواعظ الله ويقبل نصحه وتعليمه إلا { أولوا الألباب } أي: أهل العقول الرزينة لب العالم وخلاصة بني آدم يصل التذكير إلى عقولهم، فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه، وأما من عداهم فهم القشور الذي لا حاصل له ولا نتيجة تحته، لا ينفعهم الزجر والتذكير لخلوهم من العقول النافعة.

تفسير الشعراوي

إذن فبعدما صورنا في الأرحام كيف يشاء على مُقتضى حكمته لن يترك الصور بدون منهج للقيم، بل صنع منهج القيم بأن أنزل القرآن وفيه منهج القيم، ولابد أن نأخذ الشيء بجوار الحكمة منه، وإذا أخذنا الشيء بجوار الحكمة منه يوجد كل أمر مستقيماً كله جميل وكله خير. فيقول سبحانه: {هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7].
ماذا يعني الحق بقول: {آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7]؟ إن الشيء المحكم هو الذي لا يتسرب إليه خلل ولا فساد في الفهم؛ لأنه محكم، وهذه الآيات المحكمة هي النصوص التي لا يختلف فيها الناس، فعندما يقول:
{ وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا .. } [المائدة: 38].
هذه آية تتضمن حُكما واضحاً. وهو سبحانه يقول:
{ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا .. } [النور: 2].
هذه أيضاً أمور واضحة، هذا هو المُحكَم من الآيات، فالمُحكَم هو ما لا تختلف فيه الأفهام؛ لأن النص فيه واضح وصريح لا يحتمل سواه، و"المُتشَابِه" هو الذي نتعب في فهم المراد منه، وما دمنا سنتعب في فهم المراد منه فلماذا أنزله؟
ويوضح لنا سبحانه - كما قلت لك - خذ الشيء مع حكمته كي تعرف لماذا نزل؟ فالمُحْكم جاء للأحكام المطلوبة من الخلق، أي افعل كذا، ولا تفعل كذا، وما دامت أفعالاً مطلوبة من الخلق فالذي فعلها يُثاب عليها، والذي لم يفعلها يُعاقب، إذن فسيترتب عليها ثواب وعقاب، فيأتي بها صورة واضحة، وإلا لقال واحد: "أنا لم أفهم"، إن الأحكام تقول لك: "افعل كذا ولا تفعل كذا" فهي حين تقول: "افعل"؛ أنت صالح ألا تفعل، فلو كنت مخلوقاً على أنك تفعل فقط؛ لا يقول لك: افعل، لكن لأنك صالح أن تفعل وألا تفعل فهو يقول لك: "افعل".
وساعة يقول لك: "لا تفعل"، فأنت صالح أن تفعل، فلا يقال: "افعل ولا تفعل" إلاّ لأنه خلق فيك صلاحية أن تفعل أو لا تفعل، ونلحظ أنه حين يقول لي: افعل كذا ولا تفعل كذا يريد أن أقف أمام شهوة نفسي في الفعل والترك، ولذلك يقول الحق في الصلاة:
{ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ } [البقرة: 45].
فعندما يقول لي: "افعل ولا تفعل" معناها: أن فيه أشياء تكون ثقيلة أن أفعلها، وأنّ شيئاً ثقيلاً عليَّ أن أتركه، فمثلاً البصر خلقه الله صالحاً لأن يرى كل ما في حيَّزه. على حسب قانون الضوء، والحق يقول له:
{ قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ .. } [يونس: 101].
ولكن عند المرأة التي لا يحل لك النظر إليها يقول الحق: اغضض.
{ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } [النور: 30-31].
ومعنى "يغضوا" و "يغضضن" أنه سبحانه حدد حركة العين، ومثال آخر؛ اليد تتحرك فيأمرك - سبحانه - ألاّ تحركها إلا في مأمور به، فلا تضرب بها أحداً، ولا تشعل بها ناراً تحرق وتفسد بل أشعل بها النار لتطبخ مثلاً.
إذن، فهو سبحانه يأتي في "افعل ولا تفعل" ويحدد شهوات النفس في الفعل أو الترك، فإن كانت شهوة النفس بأنها تنام، يقول الأمر التعبدي: قم وصل، وإن كانت شهوة النفس بأنها تغضب يقول الأمر الإيماني: لا تغضب.
إذن فالحكم إنما جاء بافعل ولا تفعل لتحديد حركة الإنسان، فقد يريد أن يفعل فعلاً ضاراً؛ فيقول له: لا تفعل، وقد يريد ألاّ يفعل فعلَ خير يقول له: افعل. إذن فكل حركات الإنسان محكومة بـ "افعل ولا تفعل"، وعقلك وسيلة من وسائل الإدراك، مثل العين والأذن واللسان. إن مهمة العقل أن يدرك، فتكليفه يدعوه إلى أن يفهم أمراً ولا يفهم أمراً آخر، وجعل الله الآيات المحكمات ليريح العقل من مهمة البحث عن حكمة الأمر المحكم؛ لأنها قد تعلو الإدراك البشري. ويريد الحق أن يلزم العبد آداب الطاعة حتى في الشيء الذي لا تُدرك حكمة تشريعه، وأيضاً لتحرك عقلك لترد كل المتشابه إلى المحكم من الآيات. وإذا قرأنا قول الحق:
{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } [الأنعام: 103].
نرى أن ذلك كلام عام. وفي آية أخرى يقول سبحانه:
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة: 22-23].
ويتكلم عن الكفار فيقول:
{ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [المطففين: 15].
إذن فالعقل ينشغل بقوله: "لا تدركه الأبصار"، وهذا يحدث في الدنيا، أما في الآخرة فسيكون الإنسان قد تم إعداده إعداداً آخر ليرى الله، نحن الآن في هذه الدنيا بالطريقة التي أعدنا بها الله لنحيا في هذا العالم لا نستطيع أن نرى الله، ومسألة إعداد شيء ليمارس مهمة ليس مؤهلاً ولا مهيأ لها الآن، أمر موجود في دنيانا، فنحن نعرف أن إنساناً أعمى يتم إجراء جراحة له أو يتم صناعة نظارة طبية له فيرى. ومن لا يسمع أو ثقيل السمع نصنع له سماعة فيسمع بها.
فإذا كان البشر قد استطاعوا أن يُعِدُّوا بمقدوراتهم في الكون المادي أشياء لتؤهلهم إلى استعادة حاسة ما، فما بالنا بالخالق الأكرم الإله المُربّي، ألا يستطيع أن يعيد خلقنا في الآخرة بطريقة تتيح لنا أن نرى ذاته ووجهه؟! إنه القادر على كل شيء.
إذن فالأمر هنا متشابه، إن الله يُدرَك - بضم الياء وفتح الراء - أو لا يُدْرَك، فما الذي تغير من الأحكام بالنسبة لك؟ لا شيء. إذن فهذه الآيات المتشابهات لم تأتِ من أجل الأحكام، إنما هي قد جاءت من أجل الإيمان فقط، ولذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم ينهي كل خلاف للعلماء حول هذه المسألة بقوله وهو الرسول الخاتم:
"إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه فآمنوا به"
إن المُتشَابه من الآيات قد جاء للإيمان به، والمُحْكَم من الآيات إنما جاء للعمل به، والمؤمن عليه دائماً أن يرد المُتشَابِه إلى المُحْكَم. مثال ذلك عندما نسمع قول الله عز وجل: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } [الفتح: 10].
إن الإنسان قد يتساءل: "هل لله يد"؟ على الإنسان أن يرد ذلك إلى نطاق
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ .. } [الشورى: 11]. وعندما يسمع المؤمن قول الحق: { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } [طه: 5].
فهل لله جسم يستقر به على عرش؟ هنا نقول: هذا هو المُتشَابِه الذي يجب على المؤمن الإيمان به، ذلك أن وجودك أيها الإنسان ليس كوجود الله، ويدك ليست كيد الله وأن استواءك أيضاً ليس كاستواء الله. وما دام وجوده سبحانه ليس كوجودك وحياته ليست كحياتك فلماذا تريد أن تكون يده كيدك؟
هو كما قال عن نفسه:
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11]. ولماذا أدخلنا الله إلى تلك المجالات؟ لأن الله يريد أن يُلفت خلقه إلى أشياء قد لا تستقيم في العقول؛ فمَنْ يتسع ظنه إلى أن يؤول ويردها إلى المُحْكَم بأن الله ليس كمثله شيء. فله ذلك، ومن يتسع ظنه ويقول: أنا آمنت بأن لله يداً ولكن في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] فله ذلك أيضاً وهذا أسلم.
والحق يقول: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ} [آل عمران: 7] ومعنى "أُمّ" أي الأصل الذي يجب أن ينتهي إليه تأويل المُتشَابه إن أوّلت فيه، أو تُرجعه إلى المُحكم فتقول: إن لله يداً، ولكن ليست كأيدي البشر. إنما تدخل في نطاق:
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ .. } [الشورى: 11].
ولماذا قال الحق: {هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ} [آل عمران: 7]؟ ولم يقل: هن أمهات الكتاب؟ لك أن تعرف أيها المؤمن أنه ليس كل واحدة منهن أُمّاً، ولكن مجموعها هو الأم، ولتوضيح ذلك فلنسمع قول الحق:
{ وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } [المؤمنون: 50].
لم يقل الحق: إنهما آيتان؛ لأن عيسى عليه السلام لم يوجد كآية إلا بميلاده من أمه دون أب أي بضميمة أمه، وأم عيسى لم تكن آية إلا بميلاد عيسى أي بضميمة عيسى. إذن فهما معاً يكونان الآية، وكذلك {هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] فالمقصود بها ليس كل محكم أُمّا للكتاب، إنما المحكمات كلها هي الأم، والأصل الذي يَرُدُّ إليه المؤمنُ أيَّ متشابهٍ. ومهمة المحكم أن نعمل به، ومهمة المتشابه أن نؤمن به؛ بدليل أنك إن تصورته على أي وجه لا يؤثر في عملك. فقوله الحق:
{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } [الأنعام: 103] لا يترتب عليه أي حكم، وهنا يكفي الإيمان فقط.
لكن ماذا من أمر الذين قال عنهم الله: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]؟. ولنا أن نعرف أن "الزيغ" هو الميْل، فزاغ يعني مال، وهي مأخوذة من تزايغ الأسنان، أي اختلاف منابتها، فسِنَّةٌ تظهر داخلة، وأخرى خارجة، وعندما لا تستقيم الأسنان في طريقة نموها يصنعون لها الآن عمليات تجميل وتقويم ليجعلوها صفاً واحداً.
إن الذين في قلوبهم زيغ أي ميل، يتبعون ما تشابه من الآيات ابتغاء الفتنة. كأن الزيغ أمر طارئ على القلوب، وليس الأصل أن يكون في القلوب زيغ، فالفطرة السليمة لا زيغ فيها، لكن الأهواء هي التي تجعل القلوب تزيغ، ويكون الإنسان عارفاً لحكم الله الصحيح في أمر ما، لكن هوى الإنسان يغلب فيميل الإنسان عن حكم الله. والميل صنعة القلب، فالإنسان قد يخضع منطقه وفكره ليخدم ميل قلبه، ولذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به"
لماذا؟ لأن آفة الرأي الهوى، وحتى المنحرفون يعرفون القصد السليم، لكن الواحد منهم ينحرف لما يهوى، ودليل معرفة المنحرف للقصد السليم أنه بعد أن يأخذ شرّته في الانحراف يتوب ويعلن توبته، وهذا أمر معروف في كثير من الأحيان؛ لأن الميل تَكَلَّفٌ تبريري، أما القصد السليم فأمر فطري لا يُرهِق، ومثال ذلك: عندما ينظر الإنسان إلى حلاله، فإنه لا يجد انفعال مَلكة يناقض انفعال ملكة أخرى، ولكن عندما ينظر إلى واحدة ليست زوجته، فإن ملكاته تتعارك، ويتساءل: هل ستقبل منه النظرة أم لا؟ إن ملكاته تتضارب، أما النظر إلى الحلال فالملكات لا تتعب فيه. لذلك فالإيمان هو اطمئنان ملكات، فكل ملكات الإنسان تتآزر في تكامل، فلا تسرق ملكة من وراء أخرى.
مثال آخر: عندما يذهب واحد لإحضار شيء من منزله، فإنه لا يحس بتضارب ملكاته، أما إذا ذهب إنسان آخر لسرقة هذا الشيء فإن ملكاته تتضارب، وكذلك جوارحه؛ لأنها خالفت منطق الحق والاستقامة والواقع.
{فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] إذن فاتباعهم للمتشابه منه ليؤوّلوه تأويلاً يخالف الواقع ليخدموا الزيغ الذي في قلوبهم.
فالميل موجود عند قلوبهم أولاً، ثم بدأ الفكر يخضع للميل، والعبارة تخضع للفكر، وهكذا نرى أن الأصل في الميل قد جاء منهم .. ولننظر إلى أداء القرآن الكريم حين يقول:
{ فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ .. } [الصف: 5].
كأنه يقول: ما دمتم تريدون الميل فسأميلكم أكثر وأساعدكم فيه. والحق سبحانه لا يبدأ إنساناً بأمر يناقض تكليفه، لكن الإنسان قد يميله هواه إلى الزيغ، فيتخلى الله عنه: ويدفعه إلى هاوية الزيغ. وآية أخرى يقول فيها الحق:
{ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } [التوبة: 127].
إنهم الذين بدأوا؛ انصرفوا عن الله فصرف الله قلوبهم بعيداً عن الإيمان. وكذلك الذين يتبعون المتشابه يبتغون به الفتنة أي يطلبون الفتنة، ويريدون بذلك فتنة عقول الذين لا يفهمون، وما داموا يريدون فتنة عقول مَنْ لا يفهمون فهم ضد المنهج، وما داموا ضد المنهج فهم ليسوا مؤمنين إذن، وما داموا غير مؤمنين فلن يهديهم الله إلى الخير، لأن الإيمان يطلب من الإنسان أن يتجه فقط إلى الإيمان بالرب الإله الحكيم، ثم تأتي المعونة بعد ذلك من الله. لكن عندما لا يكون مؤمناً فكيف يطلب المعونة من الله، إنه سبحانه يقول:
(أنا أغنى الشركاء عن الشرك).
إنهم يبتغون الفتنة بالمتشابه، ويبتغون تأويله، ومعنى التأويل هو الرجوع، لأننا نقول: "آل الشيء إلى كذا" أي رجع الشيء إلى كذا، فكأن شيئاً يرجع إلى شيء، فمن لهم عقل لا زيغ فيه يحاولون جاهدين أن يؤولوا المُتشَابه ويردوه إلى المُحكم، أو يؤمنوا به كما هو.
يقول الحق بعد ذلك: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ} [آل عمران: 7] إن الله لو أراد للمتشابه أن يكون مُحْكَما، لجاء به من المُحكَم، إذن فإرادة الله أن تكون هناك آيات المتشابه ومهمتها أن تحرك العقول، وذلك حتى لا تأتي الأمور بمنتهى الرتابة التي يجمد بها عقل الإنسان عن التفكير والإبداع، والله يريد للعقل أن يتحرك وأن يفكر ويستنبط. وعندما يتحرك العقل في الاستنباط تتكون عند الإنسان الرياضة على الابتكار، والرياضة على البحث، وليجرب كل واحد منا أن يستنبط المتشابه إلى المحكم ولسوف يمتلك بالرياضة ناصية الابتكار والبحث، والحاجة هي التي تفتق الحيلة.
إن الحق يريد أن يعطي الإنسان دربة حتى لا يأخذ المسائل برتابة بليدة ويتناولها تناول الخامل ويأخذها من الطريق الأسهل، بل عليه أن يستقبلها باستقبالٍ واع وبفكر وتدبر.
{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } [محمد: 24].
كل ذلك حتى يأخذ العقل القدر الكافي من النشاط ليستقبل العقل العقائد بما يريده الله، ويستقبل الأحكام بما يريده الله، فيريد منك في العقائد أن تؤمن، وفي الأحكام أن تفعل {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ} [آل عمران: 7]. والذين في قلوبهم زيغ يحاولون التأويل وتحكمهم أهواؤهم، فلا يصلون إلى الحقيقة. والتأويل الحقيقي لا يعلمه إلا الله.
قد رأينا من يريد أن يعيب على واحد بعض تصرفاته فقال له: يا أخي أتَدّعي أنك أحطت بكل علم الله؟ فقال له: لا. قال له: أنا من الذي لا تعلم. وكأنه يرجوه أن ينصرف عنه.
والعلماء لهم وقفات عند قوله الحق: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ} [آل عمران: 7]: بعضهم يقف عندها ويعتبر ما جاء من بعد ذلك وهو قوله الحق: {وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ} [آل عمران: 7] كلاماً مستأنفاً، إنهم يقولون: إن الله وحده الذي يعلم تأويل المتشابه، والمعنى: {وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ} [آل عمران: 7] أي الثابتون في العلم، الذين لا تغويهم الأهواء، إنهم: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] وهو ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، إن الراسخين في العلم يقولون: إن المحكم من الآيات سيعلمون به، والمتشابه يؤمنون به، وكل من المتشابه والمحكم من عند الله.
أمّا مَن عطف وقرأ القول الحكيم ووقف عند قوله: {وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ} [آل عمران: 7] نقول له: إن الراسخين في العلم علموا تأويل المتشابه، وكان نتيجة علمهم قولهم: "آمنا به".
إن الأمرين متساويان، سواء وقفت عند حد علم الله للتأويل أو لم تقف. فالمعنى ينتهي إلى شيء واحد. وحيثية الحكم الإيماني للراسخين في العلم هي قوله الحق على لسانهم: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] فالمحكم من عند ربنا، والمتشابه من عند ربنا، وله حكمة في ذلك؛ لأنه ساعة أن يأمر الأعلى الأدنى بأمر ويبين له علته فيفهم الأدنى ويعمل، وبعد ذلك يلقى الأعلى أمراً آخر ولا يبين علته، فواحد ينفذ الأمر وإن لم يعرف العلة، وواحد آخر يقول: لا، عليك أن توضح لي العلة. فهل الذي آمن آمن بالأمر أم بالعلة؟
إن الحق يريد أن نؤمن به وهو الآمر، ولو أن كل شيء صار مفهوماً لما صارت هناك قيمة للإيمان. إنما عظمة الإيمان في تنفيذ بعض الأحكام وحكمتُها غائبة عنك؛ لأنك إن قمت بكل شيء وأنت تفهم حكمته فأنت مؤمن بالحكمة، ولست مؤمناً بمن أصدر الأمر.
وعندما نأتي إلى لحم الخنزير الذي حرمه الله من أربعة عشر قرناً، ويظهر في العصر الحديث أن في أكل لحم الخنزير مضار، ويمتنع الناس عن أكله لأن فيه مضار، فهل امتناع هؤلاء أمر يثابون عليه؟ طبعاً لا، لكن الثواب يكون لمن امتنع عن أكل لحم الخنزير لأن الله قد حرمه؛ ولأن الأمر قد صدر من الله، حتى دون أن يَعَرِّفنا الحكمة، إن المؤمن بالله يقول: إن الله قد خلقني ولا يمكن - وهو الخالق - أن يخدعني وأنا العبد الخاضع لمشيئته.
إن العبد الممتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر امتثالاً لأمر الله، هو الذي ينال الثواب، أما الذي يمتنع خوفاً من اهتراء الكبد أو الإصابة بالمرض فلا ثواب له. وهناك فرق بين الذهاب إلى الحكم بالعلة. وبين الذهاب إلى الحكم بالطاعة للأمر بالحكم.
إذن فالمتشابه من الآيات نزل للإيمان به، والراسخون في العلم يقابلهم من تلويهم الأهواء، والأهواء تلوي إلى مرادات النفس وإلى ابتغاءات غير الحق. وما دامت ابتغاءات غير الحق، فغير الحق هو الباطل، فكل واحد من أهل الباطل يحاول أن يأتي بشيء يتفق مع هواه. ولذلك جاء التشريع من الله ليعصم الناس من الأهواء؛ لأن هوى إنسانٍ ما قد يناقض هوى إنسان آخر، والباقون من الناس قد يكون لهم هوى يناقض بقية الأهواء. والحق سبحانه يقول:
{ وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } [المؤمنون: 71].
إذن فلا بد أن نتبع في حركتنا ما لا هوى له إلا الحق، والدين إنما جاء ليعصمنا من الأهواء؛ فالأهواء هي التي تميلنا، والذي يدل على أن الأهواء هي التي تميل إلى غير الحق أن صاحب الهوى يهوى حكماً في شيء، ثم تأتي ظروف أخرى تجعله يهوى حكماً مقابلاً، إنه يلوي المسألة على حسب هواه، وإلا فما الذي ألجأ دنيا الناس إلى أن يخرجوا من قانون السماء الأول الذي حكم الأرض منذ آدم عليه السلام؟
لقد خرجوا من قانون السماء حينما قام قوم بأمر الدين فأخذوا لهم من هذا سلطة زمنية، وأصبحوا يُخضعون المسائل إلى أهوائهم. ونحن إذا نظرنا إلى تاريخ القانون في العالم لوجدنا أن أصل الحكم في القضايا إنما هو لرجال الدين والكهنة والقائمين على أمر المعابد. كان الحكم كله لهم، لأن هؤلاء كانوا هم المتكلمين بمنهج الله.
ولماذا لم يستمر هذا الأمر، وجاءت القوانين الرومانية والإنجليزية والفرنسية وغيرها؟ لأنهم جربوا على القائمين بأمر الدين أنهم خرجوا عن نطاق التوجيه السماوي إلى خدمة أهوائهم، فلاحظ الناس أن هؤلاء الكهنة يحكمون في قضية بحكم ما يختلف عن حكم آخر في قضية متشابهة. إنهم القضاة أنفسهم والقضايا متشابهة متماثلة، لكن حكم الهوى يختلف من قضية إلى أخرى، بل وقد يتناقض مع الحكم الأول، فقال الناس عن هؤلاء الكهنة:
لقد خرجوا عن منطق الدين واتبعوا أهواءهم، ليثبتوا لهم سلطة زمنية، فنحن لم نعد نأمنهم على ذلك. وخرج التقنين والحكم من يد الكهنة ورجال الدين إلى غيرهم من رجال التقنين. لقد كان أمر القضاء بين الكهنة ورجال الدين؛ لأن الناس افترضت فيهم أنهم يأخذون الأحكام من منهج الله، فلما تبين للناس أن الكهنة ورجال الدين لا يأخذون الحكم من منهج الله، ولكن من الهوى البشرى، عند ذلك أخذ الناس زمام التقنين لأنفسهم بما يضمن لهم عدالة ما حتى ولو كانت قاصرة.
وبمناسبة كلمة الهوى نجد أن هناك ثلاثة ألفاظ:
أولا: الهواء هو ما بين السماء والأرض، ويراد به الريح ويحرك الأشياء ويميلها وجمعه: الأهوية وهذا أمر حسيّ.
ثانيا: الهوَى: وهو ميل النفس، وجمعه: الأهواء، وهو مأخوذ من هَوِىَ يَهْوَى بمعنى مال.
ثالثا: الهَوىّ: بفتح الهاء وضمها وتشديد الياء وهو السقوط مأخوذ من هَوَى يَهْوي: بمعنى سقط. وهذا يدل على أن الذي يتبع هواه لابد أن يسقط، والاشتقاقات اللغوية تعطي هذه المعنى. إنها متلاقية. إذن الراسخون في العلم يقفون ثابتين عند منهج الله. وأما الذين يتبعون أهواءهم فهم يميلون على حسب ميل الريح. فإن الريح مالت، مالوا حيث تميل.
ويقول الراسخون في العلم في نهاية علمهم: آمنا {وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]. وهنا تلتقي المسألة، فنحن نعرف أن المحكم نزل للعمل به، والمشابه نزل للإيمان به لحكمة يريدها الله سبحانه وتعالى، وهي أن نأخذ الأمر من الآمر لا لحكمة الأمر. وعندما نأخذ الأوامر من الحق فلا نسأل عن علتها؛ لأننا نأخذها من خالق محب حكيم عادل. والإنسان إن لم ينفذ الأمر القادم من الله إلا إذا علم علته وحكمته فإننا نقول لهذا الإنسان: أنت لا تؤمن بالله ولكنك تؤمن بالعلة والحكمة، والمؤمن الحق هو من يؤمن بالأمر وإن لم يفهم.
والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كل من عند الله، المحكم من عند ربنا والمتشابه من عند ربنا.
ويضيف سبحانه: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] و "أولوا الألباب" أي أصحاب العقول المحفوظة من الهوى، لأن آفة الرأي الهوى، والهوى يتمايل به. {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] و"اللب" هو: العقل، يخبرنا الله أن العقل يحكم لُبّ الأشياء لا ظواهر الأشياء وعوارضها، فهناك أحكام تأتي للأمر الظاهر، وأحكام للُبّ. الحق يأمر بقطع يد السارق. وبعد ذلك يأتي من يمثل دور حامي الإنسانية والرحمة ويقول: "هذه وحشية وقسوة"!
هذا ظاهر الفهم، إنما لُبّ الفهم أني أردت أن تُقطع يد السارق حتى أمنعه أن يسرق؛ لأن كل واحد يخاف على ذاته، فيمنعه ذلك أن يسرق. وقد قلنا من قبل إن حادثة سيارة قد ينتج عنها مشوهون قدر مَنْ قطعت أيديهم بسبب السرقة في تاريخ الإسلام كله، فلا تفتعل وتدعي أنك رحيم ولا تنظر إلى العقاب حين ينزل بالمذنب، ولكن انظر إلى الجريمة حين تقع منه، فإن الله يريد أن يحمي حركة الحياة للناس بحيث إذا عملت وكددت واجتهدت وعرقت يضمن الله لك حصيلة هذا العمل، فلا يأتي متسلط يتسلط عليك ليأخذ دمه من عرقك أنت.
إذن فهو يحمي حركة الحياة وتحرك كل واحد وهو آمن، هذا "لُبّ" الفهم، ولذلك يقولتعالى:
{ وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَاةٌ .. } [البقرة: 179]، إياكم أن تقولوا: إن هذا القصاص اعتداء على حياة فرد. لا، لأن "لكم في القصاص حياة" إنْ مَن علم إنه إن قَتل فسيقتل، سيمتنع عن القتل، إذن فقد حمينا نفسه وحمينا الناس منه، وهكذا يكون في القصاص حياة، وذلك هو لُبّ الفهم في الأشياء؛ فالله سبحانه وتعالى يلفتنا وينبهنا ألاّ نأخذ الأمور بظواهرها، بل نأخذها بلُبِّها، وندع القشور التي يحتكم إليها أناس يريدون أن ينفلتوا من حكم الله. و{وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ} [آل عمران: 7] حينما فَصلوا في أمر المتشابه دعوا الله بالقول الذي أنزله - سبحانه -:
{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً ...}.

تفسير الطبري

القول في تأويل قوله :  هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ 

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: " هو الذي أنـزل عليك الكتاب "، إن الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، هو الذي أنـزل عليك الكتاب = يعني ب " الكتاب "، القرآن.

* * *

وقد أتينا على البيان فيما مضى عن السبب الذي من أجله سمى القرآن " كتابًا " بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (59)

* * *

وأما قوله: " منه آيات محكمات " فإنه يعني: من الكتاب آيات. يعني ب " الآيات " آيات القرآن.

وأما " المحكمات "، فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جُعلن أدلة عليه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعِبر، وما أشبه ذلك.

* * *

ثم وصف جل ثناؤه: هؤلاء " الآيات المحكمات "، بأنهن: " هُنّ أمّ الكتاب " (60) . يعني بذلك: أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم.

* * *

وإنما سماهن " أمّ الكتاب "، لأنهن معظم الكتاب، وموضع مَفزَع أهله عند الحاجة إليه، وكذلك تفعل العرب، تسمي الجامعَ معظم الشيء " أمًّا " له. فتسمى راية القوم التي تجمعهم في العساكر: " أمّهم "، والمدبر معظم أمر القرية والبلدة: " أمها ".

وقد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (61)

* * *

ووحَّد " أمّ الكتاب "، ولم يجمع فيقول: هن أمَّهات الكتاب، وقد قال: " هُنّ" = لأنه أراد جميع الآيات المحكمات " أم الكتاب "، لا أن كل آية منهن " أم الكتاب ". ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهن " أم الكتاب "، < 6-171 > لكان لا شك قد قيل: " هن أمهات الكتاب ". ونظير قول الله عز وجل: " هن أمّ الكتاب " على التأويل الذي قلنا في توحيد " الأم " وهي خبر لـ" هُنّ"، قوله تعالى ذكره:  وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً  [سورة المؤمنون: 50] ولم يقل: آيتين، لأن معناه: وجعلنا جميعهما آية. إذ كان المعنى واحدًا فيما جُعلا فيه للخلق عبرة. (62) ولو كان مرادًا الخبرُ عن كل واحد منهما على انفراده، (63) بأنه جعل للخلق عبرة، لقيل: وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين، لأنه قد كان في كل واحد منهما لهم عبرة. وذلك أن مريم ولدت من غير رجل، ونطق ابنها فتكلم في المهد صبيًّا، فكان في كل واحد منهما للناس آية.

* * *

وقد قال بعض نحويي البصرة: إنما قيل: " هن أم الكتاب "، ولم يَقل: " هن أمهات الكتاب " على وجه الحكاية، كما يقول الرجل: " ما لي أنصار "، فتقول: " أنا أنصارك " = أو: " ما لي نظير "، فتقول: " نحن نظيرك ". (64) قال: وهو شبيهُ: " دَعنى من تَمرْتَان "، وأنشد لرجل من فقعس: (65)

تَعَــرَّضَتْ لِــي بِمَكَــانِ حَــلِّ
  
 تَعــرُّض المُهْــرَةِ فِــي الطِّـوَلِّ
 
تَعَرُّضًا لَمْ تَألُ عَنْ قَتْلا لِي (66)
 


" حَلِّ" أي: يحلّ به. (67) = على الحكاية، لأنه كان منصوبًا قبل ذلك، كما يقول: " نوديَ: الصلاةَ الصلاةَ"، يحكي قول القائل: " الصلاةَ الصلاةَ".

وقال: قال بعضهم: إنما هي: " أنْ قتلا لي"، ولكنه جعله " عينًا "، (68) لأن " أن " في لغته تجعل موضعها " عن "، والنصبُ على الأمر، كأنك قلت: " ضربًا لزيد ".

* * *

قال أبو جعفر: وهذا قول لا معنى له. لأن كل هذه الشواهد التي استشهدَها، (69) لا شك أنهن حكايات حاكيهنّ، (70) بما حكى عن قول غيره وألفاظه التي نطق بهن = وأن معلومًا أن الله جل ثناؤه لم يحك عن أحد قوله: " أمّ الكتاب "، فيجوز أن يقال: أخرج ذلك مُخرَج الحكاية عمن قال ذلك كذلك. (71)

* * *

وأما قوله: " وأخَرُ" فإنها جمع " أخْرَى ". (72)

* * *

ثم اختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها لم يصرف " أخَر ".

فقال بعضهم: لم يصرف " أخر " من أجل أنها نعتٌ، واحدتها " أخرى "، كما لم تصرف " جُمَع " و " كُتَع "، لأنهن نعوتٌ.

* * *

وقال آخرون: إنما لم تصرف " الأخر "، لزيادة الياء التي في واحدتها، وأنّ جمعها مبنيّ على واحدها في ترك الصرف. قالوا: وإنما ترك صرف " أخرى "، كما ترك صرف " حمراء " و " بيضاء "، في النكرة والمعرفة، لزيادة المدة فيها والهمزة بالواو. (73) ثم افترق جمع " حمراء " و " أخرى "، فبنى جمع " أخرى " على واحدته فقيل: " فُعَلٌ" و " أخر "، (74) فترك صرفها كما ترك صرف " أخرى " = وبنى جمع " حمراء " و " بيضاء " على خلاف واحدته فصرف، فقيل: " حمر " و " بيض "، فلاختلاف حالتهما في الجمع، اختلفَ إعرابهما عندهم في الصرف. ولاتفاق حالتيهما في الواحدة، اتفقت حالتاهما فيها.

* * *

وأما قوله: " متشابهات "، فإن معناه: متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعنى، كما قال جل ثناؤه:  وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا  [سورة البقرة: 25]، يعني في المنظر، مختلفًا في المطعم (75) وكما قال مخبرًا عمن أخبر عنه من بني إسرائيل أنه قال:  إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا  [سورة البقرة: 70]، يعنون بذلك: تشابه علينا في الصفة، وإن اختلفت أنواعه. (76)

* * *

فتأويل الكلام إذًا: إن الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، هو الذي أنـزل عليك يا محمد القرآن، منه آيات محكمات بالبيان، هن أصل الكتاب الذي عليه عمادُك وعماد أمتك في الدّين، وإليه مفزعُك ومفزعهم فيما افترضت عليك وعليهم من شرائع الإسلام = وآيات أخر، هنّ متشابهاتٌ في التلاوة، مختلفات في المعاني.

* * *

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: " منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخَر متشابهات "، وما المحكم من آي الكتاب، وما المتشابه منه؟

فقال بعضهم: " المحكمات " من آي القرآن، المعمول بهن، وهنّ الناسخات أو المثبتاتُ الأحكامَ =" والمتشابهات " من آية، المتروك العملُ بهنّ، المنسوخاتُ.

ذكر من قال ذلك:

6573 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا العوّام، عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله: " منه آيات محكمات "، قال: هي الثلاث الآيات من ههنا:  قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ  [سورة الأنعام: 151، 152]، إلى ثلاث آيات، (77) والتي في" بني إسرائيل ":  وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ  [سورة الإسراء: 23-39 ]، إلى آخر الآيات. (78)

6574 - حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن على بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: " هو الذي أنـزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب "، المحكمات: ناسخه، وحلالُه، وحرَامه، وحدوده وفرائضُه، وما يؤمن به ويعمل به = قال: " وأخر متشابهات "، والمتشابهات: منسوخه، ومقدّمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به ولا يُعمل به.

6575 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: " هو الذي أنـزل عليك الكتاب " إلى " وأخر متشابهات "، فالمحكمات التي هي أمّ الكتاب: الناسخ الذي يُدان به ويعمل به. والمتشابهات، هن المنسوخات التي لا يُدان بهنّ.

6576 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس = وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " هو الذي أنـزلَ عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " إلى قوله: " كل من عندنا ربنا "، أما " الآيات المحكمات ": فهن الناسخات التي يعمَل بهن = وأما " المتشابهات " فهن المنسوخات.

6577 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " هو الذي أنـزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب "، و " المحكمات ": الناسخ الذي يعمل به، ما أحلّ الله فيه حلاله وحرّم فيه حرامه = وأما " المتشابهات ": فالمنسوخ الذي لا يُعمل به ويُؤمن به.

6578 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "آيات محكمات "، قال: المحكم ما يعمل به.

6579 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن < 6-176 > أبيه، عن الربيع: " هو الذي أنـزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات "، قال: " المحكمات "، الناسخ الذي يعمل به = و " المتشابهات ": المنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به.

6580 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: "آيات محكمات هن أم الكتاب "، قال: الناسخات =" وأخر متشابهات "، قال: ما نُسخ وتُرك يُتلى.

6581 - حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم قال: المحكم، ما لم ينسخ = وما تشابه منه: ما نسخ.

6582 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: "آيات محكمات هن أم الكتاب "، قال: الناسخ =" وأخر متشابهات "، قال: المنسوخ.

6583 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يحدث قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: " منه آيات محكمات "، يعني الناسخ الذي يعمل به =" وأخر متشابهات "، يعنى المنسوح، يؤمن به ولا يعمل به.

6584- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سلمة، عن الضحاك: " منه آيات محكمات "، قال: ما لم ينسخ =" وأخر متشابهات "، قال: ما قد نسخ.

* * *

وقال آخرون: " المحكمات " من آي الكتاب: ما أحكم الله فيه بيانَ حلاله وحرامه =" والمتشابه " منها: ما أشبه بعضُه بعضًا في المعاني، وإن اختلفت ألفاظه.

ذكر من قال ذلك:

6585 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: " منه آيات محكمات "، ما فيه من الحلال والحرام، وما سوى ذلك فهو " متشابه "، يصدّق بعضُه بعضًا = وهو مثل قوله:  وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ  [سورة البقرة: 26]، ومثل قوله:  كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ  [سورة الأنعام: 125]، ومثل قوله:  وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ  [سورة محمد: 17].

6586 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

* * *

وقال آخرون: " المحكمات " من آي الكتاب: ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد =" والمتشابه " منها: ما احتمل من التأويل أوجهًا.

ذكر من قال ذلك:

6587 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير: " هو الذي أنـزل عليك الكتاب منه آيات محكمات "، فيهن حجة الربّ، وعصمةُ العباد، ودفع الخصُوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه = (79) " وأخَرُ متشابهات "، في الصدق، (80) لهن تصريف وتحريف وتأويل، (81) ابتلى الله فيهن العبادَ، كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يُصرفن إلى الباطل ولا يحرّفن عن الحق. (82)

* * *

وقال آخرون: معنى " المحكم ": ما أحكم الله فيه من آي القرآن، وقَصَص الأمم ورُسلهم الذين أرسلوا إليهم، ففصّله ببيان ذلك لمحمد وأمته =" والمتشابه "، هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور، بقَصّه باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وبقصّه باختلاف الألفاظ واتفاق المعانى. (83)

ذكر من قال ذلك:

6588 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد وقرأ:  الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ  [سورة هود: 1]، قال: وذكر حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربع وعشرين آية منها: (84) وحديثَ نوح في أربع وعشرين آية منها. ثم قال:  تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ  [سورة هود: 49]، ثم ذكر  وَإِلَى عَادٍ  ، فقرأ حتى بلغ  وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ  (85) ثم مضى. ثم ذكر صالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا وفرغ من ذلك. وهذا تبيين ذلك، تبيين  أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ  = (86) قال: والمتشابهُ ذكر موسى في أمكنة كثيرة، وهو متشابه، وهو كله معنى واحد. ومتشابه:  فَاسْلُكْ فِيهَا   احْمِلْ فِيهَا  ،  اسْلُكْ يَدَكَ   وَأَدْخِلْ يَدَكَ  ،  حَيَّةٌ تَسْعَى   ثُعْبَانٌ مُبِينٌ  = (87) قال: ثم ذكر هودًا في عشر آيات منها، (88) وصالحًا في ثماني آيات منها، وإبراهيم في ثماني آيات أخرى، ولوطًا في ثماني آيات منها، وشعيبًا في ثلاث عشرة آية، وموسى في أربع آيات، كلّ هذا يقضي بين الأنبياء وبين قومهم في هذه السورة، فانتهى ذلك إلى مئة آية من سورة هود، ثم قال:  ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ  [سورة هود: 100]. وقال في المتشابه من القرآن: من يرد الله به البلاء والضلالة يقول: ما شأن هذا لا يكون هكذا؟ وما شأن هذا لا يكون هكذا؟

* * *

وقال آخرون: بل " المحكم " من آي القرآن: ما عرف العلماءُ تأويله، وفهموا معناه وتفسيره = و " المتشابه ": ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، وذلك نحو الخبر عن وقت مَخْرج عيسى ابن مريم، ووقت طُلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناءِ الدنيا، وما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يعلمه أحدٌ. وقالوا: إنما سمى الله من آي الكتاب " المتشابه "، الحروف المقطّعة التي في أوائل بعض سور القرآن، من نحو  الم  و  المص  ، و  المر  ، و  الر  ، وما أشبه ذلك، لأنهن متشابهات في الألفاظ، وموافقات حروف حساب الجمَّل. وكان قومٌ من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طَمِعوا أن يدركوا من قِبَلها معرفة مدّة الإسلام وأهله، ويعلموا نهايةَ أُكْلِ < 6-180 > محمد وأمته، (89) فأكذب الله أحدوثتهم بذلك، وأعلمهم أنّ ما ابتغوا علمه من ذلك من قِبَل هذه الحروف المتشابهة لا يدركونه ولا من قبل غيرها، وأن ذلك لا يعلمه إلا الله.

* * *

قال أبو جعفر: وهذا قولٌ ذُكر عن جابر بن عبد الله بن رئاب: (90) أن هذه الآية نـزلت فيه، (91) وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه وعن غيره ممن قال نحو مقالته، في تأويل ذلك في تفسير قوله:  الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ  (92) [سورة البقرة: 1-2]

* * *

قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أشبه بتأويل الآية. وذلك أن جميع ما أنـزل الله عز وجل من آي القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنما أنـزله عليه بيانًا له ولأمته وهدًى للعالمين، وغيرُ جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجةُ، ثم لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيل. فإذْ كان ذلك كذلك، فكل ما فيه بخلقه إليه الحاجة، (93) وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى= [وإن اضطرته الحاجة إليه في معان كثيرة] (94) = وذلكَ < 6-181 > كقول الله عز وجل:  يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا  [سورة الأنعام: 158]، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه عبادَه أنها إذا جاءت لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ذلك، هي طُلوع الشمس من مغربها. (95) فالذي كانت بالعباد إليه الحاجة من علم ذلك، هو العلم منهم بوقت نَفع التوبة بصفته، بغير تحديده بعدد السنين والشهور والأيام. (96) فقد بين الله ذلك لهم بدلالة الكتاب، وأوضحه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مفسَّرًا. والذي لا حاجة بهم إلى علمه منه، (97) هو العلم بمقدار المدة التي بين وقت نـزول هذه الآية ووقت حدوث تلك الآية، فإن ذلك مما لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا. وذلك هو العلم الذي استأثر الله جل ثناؤه به دون خلقه، فحجبه عنهم. وذلك وما أشبهه، هو المعنى الذي طلبت اليهودُ معرفته في مدّة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من قبل قوله:  الم  و  المص  و  الر  و  المر  ونحو ذلك من الحروف المقطّعة المتشابهات، التي أخبر الله جل ثناؤه أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله.

فإذْ كان المتشابه هو ما وصفنا، فكل ما عداه فمحكم. لأنه لن يخلو من أن يكون محكمًا بأنه بمعنى واحد لا تأويل له غير تأويل واحد، وقد استغنى بسماعه عن بيان يُبينه = (98) أو يكون محكمًا، وإن كان ذا وُجوه وتأويلات وتصرف في < 6-182 > معان كثيرة. فالدلالة على المعنى المراد منه، إما من بيان الله تعالى ذكره عنه، أو بيان رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته. ولن يذهبَ علم ذلك عن علماء الأمة لما قد بيَّنَّا.

* * *

القول في تأويل قوله :  هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ 

قال أبو جعفر: قد أتينا على البيان عن تأويل ذلك بالدلالة الشاهدة على صحة ما قلناه فيه. (99) ونحن ذاكرو اختلاف أهل التأويل فيه، وذلك أنهم اختلفوا في تأويله.

فقال بعضهم: معنى قوله: " هن أم الكتاب "، هنّ اللائي فيهن الفرائض والحدود والأحكام، نحو قولنا الذي قلنا فيه. (100)

ذكر من قال ذلك:

6589- حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر أنه قال في هذه الآية: " محكمات هنّ أم الكتاب ". قال يحيى: هن اللاتي فيهنّ الفرائضُ والحدودُ وعمادُ الدين = وضرب لذلك مثلا فقال: " أمّ القرى " مكة،" وأم خراسان "، مَرْو،" وأمّ المسافرين "، الذي يجعلون إليه أمرَهم، ويُعنى بهم في سفرهم، قال: فذاك أمهم. (101)

6590 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " هن أم الكتاب "، قال: هن جماع الكتاب.

* * *

وقال آخرون: بل يعني بذلك: (102) فواتح السور التي منها يستخرج القرآن.

ذكر من قال ذلك:

6591 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن أبي فاختة أنه قال في هذه الآية: " منه آيات محكمات هن أم الكتاب "، قال: " أم الكتاب " فواتح السور، منها يستخرج القرآن -  الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ  ، منها استخرجت " البقرة "، و  الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ  منها استخرجت "آل عمران ". (103)

* * *

القول في تأويل قوله :  فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ 

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق وانحرافٌ عنه.

* * *

يقال منه: " زاغ فلان عن الحق، فهو يَزيغ عنه زَيْغًا وزيَغانًا وزيْغُوغَة وزُيوغًا "، و " أزاغه الله " - إذا أماله -" فهو يُزيغه "، ومنه قوله جل ثناؤه:  رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا  لا تملها عن الحق =  بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا  [سورة آل عمران: 8].

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:-

ذكر من قال ذلك:

6592 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: " فأما الذين في قلوبهم زيغٌ"، أي: ميل عن الهدى. (104)

6593 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: " في قلوبهم زيغ "، قال: شك.

6594 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

6595 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: " فأما الذين في قلوبهم زيغ "، قال: من أهل الشك.

6596 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس = وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " فأما الذين في قلوبهم زيغ "، أما الزيغ فالشك.
 
6597 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: قال: " زيغ " شك = قال ابن جريج: " الذين في قلوبهم زيغ "، المنافقون.

* * *

القول في تأويل قوله :  فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ 

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: " فيتبعون ما تشابه " ، ما تشابهت ألفاظه وتصرَّفت معانيه بوجوه التأويلات، ليحققوا = بادّعائهم الأباطيلَ من التأويلات في ذلك = ما هم عليه من الضلالة والزّيغ عن محجة الحقّ، تلبيسًا منهم بذلك على من ضعفت معرفته بوجوه تأويل ذلك وتصاريف معانيه، كما:-

6598 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: " فيتبعون ما تشابه منه "، فيحملون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم، ويلبِّسون، فلبَّس الله عليهم.

6599 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: " فيتبعون ما تشابه منه "، أي: ما تحرّف منه وتصرف، (105) ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا، ليكون لهم حجة على ما قالوا وشُبْهةً. (106)

6600 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: " فيبعون ما تشابه منه "، قال: الباب الذي ضلُّوا منه وهلكوا فيه ابتغاءَ تأويله.

* * *

وقال آخرون في ذلك بما:

6601 - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط عن السدي في قوله: " فيتبعون ما تشابه منه "، يتبعون المنسوخَ والناسخَ فيقولون: ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا مجان هذه الآية، (107) فتركت الأولى وعُمل بهذه الأخرى؟ هلا كان العمل بهذه الآية قبل أن تجيء الأولى التي نُسخت؟ وما باله يعد العذابَ مَنْ عمل عملا يعذبه [في] النار، (108) وفي مكان آخر: مَنْ عمله فإنه لم يُوجب النار؟

* * *

واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية.

فقال بعضهم: عُني به الوفدُ من نصارى نجران الذين قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاجُّوه بما حاجُّوه به، وخاصموه بأن قالوا: ألست تزعم أنّ عيسى روح الله وكلمته؟ وتأولوا في ذلك ما يقولون فيه من الكفر.

ذكر من قال ذلك:

6602 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: عَمدوا - يعني الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى نجران - فخاصموا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قالوا: ألست تزعم أنه كلمةُ الله ورُوحٌ منه؟ قال: بلى‍! قالوا: فحسبُنا! فأنـزل الله عز وجل: " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة "، ثم < 6-187 > إن الله جل ثناؤه: أنـزل  إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ  [ سورة آل عمران: 59]، الآية.

* * *

وقال آخرون: بل أنـزلت هذه الآية في أبي ياسر بن أخطب، وأخيه حُييّ بن أخطب، والنفر الذين ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قَدْر مُدة أُكْلِه وأكْل أمته، (109) وأرادوا علم ذلك من قِبَل قوله:  الم  و  المص  ، و  المر  و  الر  ، فقال الله جل ثناؤه فيهم:  فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ  - يعني هؤلاء اليهود الذين قُلوبهم مائلة عن الهدى والحق =" فيتبعون ما تَشابه منه " يعني: معاني هذه الحروف المقطّعة المحتملة التصريف في الوجوه المختلفة التأويلات =  ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ  . 

وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى قبل، في أول السورة التي تذكر فيها " البقرة ". (110)

* * *

وقال آخرون: بل عنى الله عز وجل بذلك كل مبتدع في دينه بدعة مخالفةً لما ابتعث به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، بتأويل يتأوله من بعض آي القرآن المحتملة التأويلات، وإن كان الله قد أحكم بيانَ ذلك، إما في كتابه، وإما على لسان رسوله.

ذكر من قال ذلك:

6603 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " فأما الذين في قُلوبهم زَيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاءَ الفتنة "، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية:  فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ  قال: إن لم يكونوا الحرُوريّة والسبائية، (111) فلا أدري من هم! ولعمري لقد كان في أهل بدر < 6-188 > والحديبية الذين شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرّضوان من المهاجرين والأنصار خبرٌ لمن استخبر، وعبرةٌ لمن استعبر، لمن كان يَعْقِل أو يُبصر. (112) إن الخوارج خرجوا وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ كثيرٌ بالمدينة والشأم والعراق، وأزواجه يومئذ أحياء. والله إنْ خَرَج منهم ذكرٌ ولا أنثى حروريًّا قط، ولا رضوا الذي هم عليه، ولا مالأوهم فيه، بل كانوا يحدّثون بعيب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم ونعتِه الذي نعتهم به، وكانوا يبغضونهم بقلوبهم، ويعادونهم بألسنتهم، وتشتدّ والله عليهم أيديهم إذا لقوهم. ولعمري لو كان أمر الخوارج هُدًى لاجتمع، ولكنه كان ضلالا فتفرّق. وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافًا كثيرًا. فقد ألاصوا هذا الأمر منذ زمان طويل. (113) فهل أفلحوا فيه يومًا أو أنجحوا؟ يا سبحان الله؟ كيف لا يعتبر آخر هؤلاء القوم بأوّلهم؟ لو كانوا على هدى، قد أظهره الله وأفلجه ونصره، (114) ولكنهم كانوا على باطل أكذبه الله وأدحضه. فهم كما رأيتهم، كلما خَرج لهم قَرْنٌ أدحض الله حجتهم، وأكذب أحدوثتهم، وأهرَاق دماءهم. إن كتموا كان قَرْحًا في قلوبهم، (115) وغمًّا عليهم. وإن أظهروه أهرَاق الله دماءهم. ذاكم والله دينَ سَوْء فاجتنبوه. والله < 6-189 > إنّ اليهودية لبدعة، وإن النصرانية لبدْعة، (116) وإن الحرورية لبدعة، وإن السبائية لبدعة، ما نـزل بهن كتابٌ ولا سنَّهنّ نبيّ.

6604 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله "، طلب القوم التأويل، فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة، فاتبعوا ما تشابه منه، فهلكوا من ذلك. لعمري لقد كان في أصحاب بدر والحديبية الذي شهدوا بيعة الرضوان = وذكر نحو حديث عبد الرزاق، عن معمر، عنه.

6605 - حدثني محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:  هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ  إلى قوله:  وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ  ، فقال: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، فاحذرُوهم. (117)

6606-حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة أنها قالت: قرأ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية:  هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ  إلى  وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ  ، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه - أو قال: يتجادلون فيه - فهم الذين عنى الله، فاحذرهم = قال مطر، عن أيوب أنه قال: فلا تجالسوهم، فهم الذين عنىَ الله فاحذروهم. (118)

6607 - حدثنا ابن بشار قال حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو معناه. (119)

6608- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. (120)

6609 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا الحارث، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية:  هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ  الآية كلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، والذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، أولئك الذين قال الله، فلا تجالسوهم. (121)

6610 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن أبي مليكة قال: سمعت القاسم بن محمد يحدث، عن عائشة قالت: تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية:  هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ  ، ثم قرأ إلى آخر الآيات، فقال: " إذا رأيتم الذين يتبعون ما " تشابه منه، فأولئك الذين سمَّى الله، فاحذروهم. (122)

6611 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: نـزع رسول الله < 6-193 > صلى الله عليه وسلم: " يتبعُون ما تَشابه منه "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد حذركم الله، فإذا رأيتموهم فاعرفوهم. (123)

6612 - حدثنا علي قال، حدثنا الوليد، عن نافع بن عمر، عن [ابن أبي مليكة، حدثتني] عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتموهم فاحذروهم، ثم نـزع: " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه "، ولا يعملون بمحكمه. (124)


6613- حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، أخبرنا عمي قال، أخبرني شبيب بن سعيد، عن روح بن القاسم، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن هذه الآية: " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاءَ الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم "، فقال: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، فاحذروهم. (125)

6614- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا خالد بن نـزار، عن نافع، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة في هذه الآية،  هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ  ، الآية،" يتبعها "، يتلوها، ثم يقول: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فاحذروهم، فهم الذين عنى الله. (126)

6615- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية:  هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ  إلى آخر الآية، قال: هم الذين سَمّاهم الله، فإذا أريتموهم فاحذروهم. (127)

* * *

قال أبو جعفر: والذي يدل عليه ظاهر هذه الآية، أنها نـزلت في الذين جادَلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بمتشابه ما أنـزل إليه من كتاب الله، إمّا < 6-196 > في أمر عيسى، وأما في مدة أكله وأكل أمته. (128)

وهو بأن تكون في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمتشابهه في مدّته ومدّة أُمّته، أشبُه، لأن قوله: " وما يعلَمُ تأويلَه إلا الله "، دالٌّ على أن ذلك إخبار عن المدة التي أرادوا علمها من قِبَل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله. فأما أمرُ عيسى وأسبابه، فقد أعلم الله ذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته، وبيّنه لهم. فمعلومٌ أنه لم يعن به إلا ما كان خفيًّا عن الآجال. (129)

* * *

القول في تأويل قوله :  ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ 

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. (130)

فقال بعضهم: معنى ذلك: ابتغاء الشرك.

ذكر من قال ذلك:

6616 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال: حدثنا أسباط، عن السدي: " ابتغاء الفتنة "، قال: إرادة الشرك.

6617- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (ابتغاء الفتنة) يعني الشرك.

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك: ابتغاءَ الشّبهات.

ذكر من قال ذلك:

6618 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " ابتغاء الفتنة "، قال: الشبهات، بها أهْلِكوا.

6619 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: " ابتغاء الفتنة "، الشبهات، قال: هلكوا به.

6620 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: " ابتغاء الفتنة "، قال: الشبهات. قال: والشبهات ما أهلكوا به.

6621 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: " ابتغاء الفتنة "، أي اللَّبْس. (131)

* * *

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: " إرادةُ الشبهات واللبس ".

* * *

فمعنى الكلام إذًا: فأما الذين في قلوبهم هيلٌ عن الحق وحَيْفٌ عنه، فيتبعون من آي الكتاب ما تَشابهت ألفاظه، واحتمل صَرْف صارفه في وجوه التأويلات (132) - باحتماله المعاني المختلفة - إرادةَ اللبس على نفسه وعلى غيره، احتجاجًا به على باطله الذي مالَ إليه قلبه، دون الحق الذي أبانه الله فأوضحه بالمحكمات من آي كتابه.

* * *

قال أبو جعفر: وهذه الآية وإن كانت نـزلت فيمن ذكرنا أنها نـزلت فيه من أهل الشرك، فإنه معنىّ بها كل مبتدع في دين الله بدعةً فمال قلبه إليها، تأويلا منه لبعض مُتشابه آي القرآن، ثم حاجّ به وجادل به أهل الحق، وعدل عن الواضح من أدلة آيه المحكمات، إرادةً منه بذلك اللبس على أهل الحق من المؤمنين، وطلبًا لعلم تأويل ما تشابه عليه من ذلك، كائنًا من كان، وأيّ أصناف المبتدعة كان (133) من أهل النصرانية كان أو اليهودية أو المجوسية، أو كان سَبئيًا، (134) أو حروريًّا، أو قدريًّا، أو جهميًّا، كالذي قال صلى الله عليه وسلم: " فإذا رأيتم الذين يجادلون به، فهم الذين عنى الله، فاحذروهم "، وكما:-

6622 - حدثني يونس قال، أخبرنا سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس -وذُكر عنده الخوارجُ وما يُلْقَوْنَ عند القرآن، (135) فقال: يؤمنون بمحكمه، ويهلكون عند متشابهه! وقرأ ابن عباس: " وما يعلم تأويله إلا الله "، الآية.

* * *

قال أبو جعفر: وإنما قلنا القول الذي ذكرنا أنه أولى التأويلين بقوله: " ابتغاء الفتنة "، لأن الذين نـزلت فيهم هذه الآية كانوا أهلَ شرك، وإنما أرادوا بطلب تأويل ما طلبوا تأويله، اللبسَ على المسلمين، والاحتجاجَ به عليهم، ليصدّوهم < 6-199 > عما هم عليه من الحق، فلا معنى لأن يقال: " فعلوا ذلك إرادةَ الشرك "، وهم قد كانوا مشركين.

* * *

القول في تأويل قوله :  وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ 

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى " التأويل "، الذي عَنى الله جل ثناؤه بقوله: " وابتغاء تأويله ".

فقال بعضهم: معنى ذلك: الأجل الذي أرادت اليهود أن تعرفه من انقضاء مُدّة أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر أمته، من قبل الحروف المقطعة من حساب الجُمَّل،" ألم "، و " ألمص "، و " ألر "، و " ألمر "، وما أشبه ذلك من الآجال.

ذكر من قال ذلك:

6623 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس أما قوله: " وما يعلم تأويله إلا الله "، يعني تأويله يوم القيامة =" إلا الله ".

* * *

وقال آخرون: بل معنى ذلك: " عواقبُ القرآن ". وقالوا: " إنما أرادوا أن يعلموا متى يجيء ناسخ الأحكام التي كان الله جل ثناؤه شَرَعها لأهل الإسلام قبل مجيئه، فنسخَ ما قد كان شَرَعه قبل ذلك ".

ذكر من قال ذلك:

6624 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " وابتغاء تأويله "، أرادوا أن يعلموا تأويلَ القرآن - وهو عواقبه - قال < 6-200 > الله: " وما يعلم تأويله إلا الله "، وتأويله، عواقبه= متى يأتي الناسخ منه فينسخ المنسوخ؟

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك: " وابتغاء تأويل ما تَشابه من آي القرآن، يتأوّلونه - إذ كان ذا وجوه وتصاريفَ في التأويلات - على ما في قلوبهم من الزَّيغ، وما ركبوه من الضلالة ".

ذكر من قال ذلك:

6625 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: " وابتغاء تأويله "، وذلك على ما ركبوا من الضلالة في قولهم = (136) " خلقنا "، و " قضينا ".

* * *

قال أبو جعفر: والقول الذي قاله ابن عباس: من أنّ: " ابتغاء التأويل " الذي طلبه القوم من المتشابه، هو معرفة انقضاء المدة ووقت قيام الساعة = والذي ذكرنا عن السدي: من أنهم طلبوا وأرادوا معرفة وَقتٍ هو جَاءٍ قبل مجيئه = (137) أولى بالصواب، وإن كان السدّي قد أغفل معنى ذلك من وجهٍ صَرَفه إلى حَصره على أن معناه: أن القوم طلبوا معرفة وقت مجيء الناسخ لما قد أحكِم قبل ذلك.

وإنما قلنا: إن طلب القوم معرفة الوقت الذي هو جاءٍ قبل مجيئه المحجوب علمه عنهم وعن غيرهم، بمتشابه آي القرآن - (138) أولى بتأويل قوله: " وابتغاء تأويله "، < 6-201 > لما قد دللنا عليه قبلُ من إخبار الله جل ثناؤه أن ذلك التأويل لا يعلمه إلا الله. ولا شكّ أن معنى قوله: " قضينا "" فعلنا "، قد علم تأويله كثيرٌ من جهلة أهل الشرك، فضلا عن أهل الإيمان وأهل الرسوخ في العلم منهم.

* * *

القول في تأويل قوله :  وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا 

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وما يعلم وقتَ قيام الساعة، وانقضاء مدة أكل محمد وأمته، (139) وما هو كائن، إلا الله، دونَ منْ سواه من البشر الذين أمَّلوا إدراك علم ذلك من قبل الحساب والتنجيم والكهانة. وأما الراسخون في العلم فيقولون: "آمنا به، كل من عند ربنا " - لا يعلمون ذلك، ولكن فَضْل عِلمهم في ذلك على غيرهم، العلمُ بأن الله هو العالم بذلك دونَ منْ سواه من خلقه.

* * *

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، وهل " الراسخون " معطوف على اسم " الله "، بمعنى إيجاب العلم لهم بتأويل المتشابه، أمْ هم مستأنَفٌ ذكرهم، (140) بمعنى الخبر عنهم أنهم يقولون: آمنا بالمتشابه وصدّقنا أنّ علم ذلك لا يعلمه إلا الله؟

فقال بعضهم: معنى ذلك: وما يعلم تأويل ذلك إلا الله وحده منفردًا بعلمه. وأما الراسخون في العلم، فإنهم ابتُدئ الخبر عنهم بأنهم يقولون: آمنا بالمتشابه والمحكم، وأنّ جَميع ذلك من عند الله.

ذكر من قال ذلك:

6626 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا خالد بن نـزار، عن نافع، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قوله: " والراسخون في العلم يقولون آمنا به "، قالت: كان من رسوخهم في العلم أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه، ولم يعلموا تأويله. (141)

6627 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: كان ابن عباس يقول: ( وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون [في العلم] آمنا به ) (142)

6628 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن أبي الزناد قال، قال هشام بن عروة: كان أبي يقول في هذه الآية،" وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم "، أنّ الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله، ولكنهم يقولون: "آمنا به كل من عند ربنا ".

6629 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي نهيك الأسدي قوله: " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم "، فيقول: إنكم تَصلون هذه الآية، وإنها مقطوعة: " وما يعلم تأويله إلا الله = والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا "، فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا.
 
6630 - حدثنا المثنى قال، حدثنا ابن دكين قال، حدثنا عمرو بن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: " والراسخون في العلم "، انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا،"آمنا به كلٌّ من عند ربنا ".

6631 - حدثني يونس قال، أخبرنا أشهب، عن مالك في قوله: " وما يعلم تأويله إلا اللهّ"، قال: ثم ابتدأ فقال: " والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا "، وليس يعلمون تأويله.

* * *

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، وهم مع علمهم بذلك ورسوخهم في العلم يقولون: "آمنا به كلّ من عند ربنا ".

ذكر من قال ذلك:

6632 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله.

6633 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " والراسخون في العلم " يعلمون تأويله، ويقولون: "آمنا به ".

6634- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " والراسخون في العلم يعلمون تأويله، ويقولون: "آمنا به ".
 
6635 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: " والراسخون في العلم " يعلمون تأويله ويقولون: "آمنا به ".

6636 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: " وما يعلم تأويله " الذي أراد، ما أراد، (143) " إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا "، فكيف يختلف، وهو قولٌ واحدٌ < 6-204 > من ربّ واحد؟ (144) ثم ردّوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، فاتَّسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضًا، فنفذَت به الحجة، وظهر به العذر، وزاحَ به الباطل، (145) ودُمغ به الكفر. (146)

* * *

قال أبو جعفر: فمن قال القول الأول في ذلك، وقال: إن الراسخين لا يعلمون تأويل ذلك، وإنما أخبر الله عنهم بإيمانهم وتصديقهم بأنه من عند الله، فإنه يرفع " الراسخين في العلم " بالابتداء في قول البصريون، ويجعل خبره: " يقولون آمنا به ". وأما في قول بعض الكوفيين، فبالعائد من ذكرهم في" يقولون ". وفي قول بعضهم: بجملة الخبر عنهم، وهي: " يقولون ".

* * *

ومن قال القول الثاني، وزعم أنّ الراسخين يعلمون تأويله، عطف بـ" الراسخين " على اسم " الله "، فرفعهم بالعطف عليه.

* * *

قال أبو جعفر: والصواب عندنا في ذلك أنهم مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم وهو: " يقولون "، لما قد بينا قبل من أنهم لا يعلمون تأويل المتشابه الذي ذكره الله عز وجل في هذه الآية، وهو فيما بلغني مع ذلك في قراءة أبيّ: ( وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) كما ذكرناه عن ابن عباس أنه كان يقرأه. (147) وفي قراءة عبد الله: ( إِنْ تَأْوِيلُهُ إِلا عِنْدَ اللَّهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ) .

* * *

قال أبو جعفر: وأما معنى " التأويل " في كلام العرب، فإنه التفسير والمرجع والمصير. وقد أنشد بعضُ الرواة بيتَ الأعشى:

عَــلَى أَنَّهَــا كَـانَتْ تَـأَوُّلُ حُبِّهَـا
  
 تَــأَوُّلَ رِبْعِــيِّ السِّـقَابِ فَأَصْحَبَـا (148)
 


وأصلهُ من: "آل الشيء إلى كذا " - إذا صار إليه ورجع " يَؤُول أوْلا " و " أوَّلته أنا " صيرته إليه. وقد قيل إنّ قوله:  وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا  [سورة النساء: 59] أي جزاءً. وذلك أن " الجزاء " هو الذي آل إليه أمر القوم وصار إليه.

ويعني بقوله: " تأوّلُ حُبها ": تفسير حبها ومرجعه. (149) وإنما يريد بذلك أنّ حبها كان صغيرًا في قلبه، فآلَ من الصّغر إلى العظم، فلم يزل ينبت حتى أصحَب، فصار قديمًا، كالسَّقب الصغير الذي لم يزل يَشبّ حتى أصحَبَ فصار كبيرًا مثل أمه. (150) وقد يُنشد هذا البيت:

عَــلَى أَنَّهَــا كَـانَتْ تَـوَابعُ حُبِّهَـا
  
 تَــوَالِىَ رِبْعِــيِّ السِّـقَابِ فَأَصْحَبَـا (151)
 


* * *

القول في تأويل قوله :  وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ 

قال أبو جعفر: يعني ب " الراسخين في العلم "، العلماء الذين قد أتقنوا علمهم ووَعَوْه فحفظوه حفظًا، لا يدخلهم في معرفتهم وعلمهم بما علموه شَكّ ولا لبس.

* * *

وأصل ذلك من: " رسوخ الشيء في الشيء "، وهو ثبوته وولوجه فيه. يقال منه: " رسخ الإيمان في قلب فلان، فهو يَرْسَخُ رَسْخًا ورُسُوخًا ". (152)

* * *

وقد روى في نعتهم خبرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما:-

6637 - حدثنا موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا محمد بن عبد الله قال، حدثنا فياض بن محمد الرقي قال، حدثنا عبد الله بن يزيد بن آدم، عن أبي الدرداء وأبي أمامة قالا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن الراسخ في العلم؟ قال: " من بَرَّت يمينهُ، وصَدقَ لسانه، واستقام به قلبه، وعفّ بطنه، فذلك الراسخُ في العلم. (153)

* * *

6638 - حدثني المثنى وأحمد بن الحسن الترمذي قال، حدثنا نعيم بن حماد قال، حدثنا فياض الرقي قال، حدثنا عبد الله بن يزيد الأودي = قال: وكان أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم = قال، حدثنا أنس بن مالك وأبو أمامة وأبو الدرداء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الراسخين في العلم فقال: من برَّت يمينه، وصدق لسانه، واستقام به قلبه، وعفّ بطنه وفرجه، فذلك الراسخ في العلم. (154)

* * *

وقد قال جماعة من أهل التأويل: إنما سمى الله عز وجل هؤلاء القوم " الراسخين < 6-208 > في العلم "، بقولهم: "آمنا به كل من عند ربنا ".

ذكر من قال ذلك:

6639 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: " والراسخون في العلم يقولون آمنا به، (155) قال: " الراسخون " الذين يقولون: "آمنا به كل من عند ربنا ".

6640 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " والراسخون في العلم "، هم المؤمنون، فإنهم يقولون: "آمنَّا به "،

تفسير العز ابن عبد السلام

.

‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏مًّحْكَمَاتٌ‏}‏ المحكم‏:‏ الناسخ، والمتشابه‏:‏ المنسوخ، أو المحكم‏:‏ ما أحكم بيان حلاله وحرامه فلم يشتبه، والمتشابه‏:‏ ما اشتبهت معانيه، أو المحكم‏:‏ ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً والمتشابه‏:‏ ما احتمل أوجهاً، أو المحكم‏:‏ ما لم يتكرر لفظه، والمتشابه ما تكرر لفظه، أو المحكم‏:‏ ما فهمه العلماء، المتشابه ما لا طريق لهم إلى فهمه، كقيام الساعة، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وطلوع الشمس من مغربها، وجعله محكماً ومتشابهاً استدعاء للنظر من غير اتكال على الخبر‏.‏ ‏{‏أُمُّ الْكِتَابِ‏}‏ آيات الفرائض والحدود، أو فواتح السور التي يستخرج منها القرآن‏.‏ ‏{‏زَيْغٌ‏}‏ ميل عن الحق، أو شك‏.‏ ‏{‏مَا تَشَابَهَ مِنْهُ‏}‏ الأجل الذي أرادت اليهود ‏[‏أن‏]‏ تعرفه من حساب الجُمَّل، أو معرفة عواقب القرآن في العلم بورود النسخ قبل وقته، أو نزلت في وفد نجران حاجوا الرسول صلى الله عليه وسلم في المسيح عليه الصلاة والسلام فقالوا للرسول‏:‏ أليس هو كلمة الله تعالى وروحه، فقال‏:‏ «بلى» فقالوا‏:‏ حسبنا‏.‏ ‏{‏الْفِتْنَةٍ‏}‏ الشرك، أو اللبس، أو الشبهة التي حاج بها وفد نجران‏.‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ‏}‏ تأويل جميع المتشابه، لأن في الناس من يعلم تأويل بعضه، أو يوم القيامة لما فيه من الوعد والوعيد‏.‏ ‏{‏الرَّاسِخُونَ‏}‏ الثابتون العاملون‏.‏

تفسير القرطبي

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ خرج مسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب " قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم ) . وعن أبي غالب قال : كنت أمشي مع أبي أمامة وهو على حمار له , حتى إذا انتهى إلى درج مسجد دمشق فإذا رءوس منصوبة ; فقال : ما هذه الرءوس ؟ قيل : هذه رءوس خوارج يجاء بهم من العراق فقال أبو أمامة : ( كلاب النار كلاب النار كلاب النار شر قتلى تحت ظل السماء , طوبى لمن قتلهم وقتلوه - يقولها ثلاثا - ثم بكى ) فقلت : ما يبكيك يا أبا أمامة ؟ قال : رحمة لهم , ( إنهم كانوا من أهل الإسلام فخرجوا منه ; ثم قرأ " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات . .. " إلى آخر الآيات . ثم قرأ " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات . .. " [ آل عمران : 105 ] . فقلت : يا أبا أمامة , هم هؤلاء ؟ قال نعم . قلت : أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : إني إذا لجريء إني إذا لجريء بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع ولا خمس ولا ست ولا سبع , ووضع أصبعيه في أذنيه , قال : وإلا فصمتا - قالها ثلاثا - ) ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة واحدة في الجنة وسائرهم في النار ولتزيدن عليهم هذه الأمة واحدة واحدة في الجنة وسائرهم في النار ) . اختلف العلماء في المحكمات والمتشابهات على أقوال عديدة ; فقال جابر بن عبد الله , وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري وغيرهما : ( المحكمات من آي القرآن ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله تعالى بعلمه دون خلقه , قال بعضهم : وذلك مثل وقت قيام الساعة , وخروج يأجوج ومأجوج والدجال وعيسى , ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور ) قلت : هذا أحسن ما قيل في المتشابه . وقد قدمنا في أوائل سورة البقرة عن الربيع بن خثيم ( إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء . .. ) الحديث . وقال أبو عثمان : المحكم فاتحة الكتاب التي لا تجزئ الصلاة إلا بها . وقال محمد بن الفضل : سورة الإخلاص , لأنه ليس فيها إلا التوحيد فقط . وقد قيل : القرآن كله محكم : لقول تعالى : " كتاب أحكمت آياته " [ هود : 1 ] . وقيل : كله متشابه ; لقوله : " كتابا متشابها " [ الزمر : 23 ] . قلت : وليس هذا من معنى الآية في شيء ; فإن قوله تعالى : " كتاب أحكمت آياته " أي في النظم والرصف وأنه حق من عند الله . ومعنى " كتابا متشابها " , أي يشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا . وليس المراد بقوله : " آيات محكمات وأخر متشابهات " هذا المعنى ; وإنما المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه , من قوله : " إن البقر تشابه علينا " [ البقرة : 70 ] أي التبس علينا , أي يحتمل أنواعا كثيرة من البقر . والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا , وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجها واحدا . وقيل : إن المتشابه ما يحتمل وجوها , ثم إذا ردت الوجوه إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما . فالمحكم أبدا أصل ترد إليه الفروع ; والمتشابه هو الفرع . وقال ابن عباس : المحكمات هو قوله في سورة الأنعام " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " [ الأنعام : 151 ] إلى ثلاث آيات , وقوله في بني إسرائيل : " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " [ الإسراء : 23 ] قال ابن عطية : وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات . وقال ابن عباس أيضا : ( المحكمات ناسخه وحرامه وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به , والمتشابهات المنسوخات ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به ) وقال ابن مسعود وغيره : ( المحكمات الناسخات , والمتشابهات المنسوخات ) وقال قتادة والربيع والضحاك . وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المحكمات هي التي فيها حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل , ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه . والمتشابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل , ابتلى الله فيهن العباد ; وقاله مجاهد وابن إسحاق . قال ابن عطية : وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية . قال النحاس : أحسن ما قيل في المحكمات , والمتشابهات أن المحكمات ما كان قائما بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره ; نحو " لم يكن له كفوا أحد " [ الإخلاص : 4 ] " وإني لغفار لمن تاب " [ طه : 82 ] . والمتشابهات نحو " إن الله يغفر الذنوب جميعا " [ الزمر : 53 ] يرجع فيه إلى قوله جل وعلا : " وإني لغفار لمن تاب " [ طه : 82 ] وإلى قول عز وجل : " إن الله لا يغفر أن يشرك به " [ النساء : 48 , 116 ] . قلت : ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية , وهو الجاري على وضع اللسان ; وذلك أن المحكم اسم مفعول من أحكم , والإحكام الإتقان ; ولا شك في أن ما كان واضح المعنى , لا إشكال فيه ولا تردد , إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها ; ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال . والله أعلم . وقال ابن خويز منداد : للمتشابه وجوه , والذي يتعلق به الحكم ما اختلف فيه العلماء أي الآيتين نسخت الأخرى ; كقول علي وابن عباس في الحامل المتوفى عنها زوجها ( تعتد أقصى الأجلين ) فكان عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم يقولون ( وضع الحمل ) ويقولون : ( سورة النساء القصرى نسخت أربعة أشهر وعشرا ) وكان علي وابن عباس يقولان لم تنسخ . وكاختلافهم في الوصية للوارث هل نسخت أم لم تنسخ . وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن تقدم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه ; كقوله تعالى : " وأحل لكم ما وراء ذلكم " [ النساء : 24 ] يقتضي الجمع بين الأقارب من ملك اليمين , وقوله تعالى : " وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف " [ النساء : 23 ] يمنع ذلك . ومنه أيضا تعارض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وتعارض الأقيسة , فذلك المتشابه . وليس من المتشابه أن تقرأ الآية بقراءتين ويكون الاسم محتملا أو مجملا يحتاج إلى تفسير لأن الواجب منه قدر ما يتناول الاسم أو جميعه . والقراءتان كالآيتين يجب العمل بموجبهما جميعا ; كما قرئ : " وامسحوا برءوسكم وأرجلكم " [ المائدة : 6 ] بالفتح والكسر , على ما يأتي بيانه " في المائدة " إن شاء الله تعالى . روى البخاري عن سعيد بن جبير قال : قال رجل لابن عباس : إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي . قال : ما هو ؟ قال : " فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " [ المؤمنون : 101 ] وقال : " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " [ الصافات : 27 ] وقال : " ولا يكتمون الله حديثا " [ النساء : 42 ] وقال : " والله ربنا ما كنا مشركين " [ الأنعام : 23 ] فقد كتموا في هذه الآية . وفي النازعات " أم السماء بناها " إلى قوله " دحاها " [ النازعات : 26 27 - 28 - 29 - 30 ] فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض , ثم قال : " أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين . .. إلى : طائعين " [ فصلت : 9 , 10 , 11 ] فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء . وقال : " وكان الله غفورا رحيما " [ النساء : 100 ] " وكان الله عزيزا حكيما " [ النساء : 158 ] . " وكان الله سميعا بصيرا " [ النساء : 134 ] فكأنه كان ثم مضى . فقال ابن عباس : ( " فلا أنساب بينهم " في النفخة الأولى , ثم ينفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله , فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون ; ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون . وأما قوله : " ما كنا مشركين " ولا يكتمون الله حديثا " فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم , وقال المشركون : تعالوا نقول : لم نكن مشركين ; فختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم ; فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا , وعنده يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين . وخلق الله الأرض في يومين , ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات في يومين , ثم دحا الأرض أي بسطها فأخرج منها الماء والمرعى , وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين ; فذلك قوله : " والأرض بعد ذلك دحاها " . فخلقت الأرض وما فيها في أربعة أيام , وخلقت السماء في يومين . وقوله : " وكان الله غفورا رحيما " يعني نفسه ذلك , أي لم يزل ولا يزال كذلك ; فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد . ويحك فلا يختلف عليك القرآن ; فإن كلا من عند الله ) " وأخر متشابهات " لم تصرف " أخر " لأنها عدلت عن الألف واللام ; لأن أصلها أن تكون صفة بالألف واللام كالكبر والصغر ; فلما عدلت عن مجرى الألف واللام منعت الصرف . أبو عبيد : لم يصرفوها لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة . وأنكر ذلك المبرد وقال : يجب على هذا ألا ينصرف غضاب وعطاش . الكسائي : لم تنصرف لأنها صفة . وأنكره المبرد أيضا وقال : إن لبدا وحطما صفتان وهما منصرفان . سيبويه : لا يجوز أن تكون أخر معدولة عن الألف واللام ; لأنها لو كانت معدولة عن الألف واللام لكان معرفة , ألا ترى أن سحر معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة عن السحر , وأمس في قول من قال : ذهب أمس معدولا عن الأمس ; فلو كان أخر معدولا أيضا عن الألف واللام لكان معرفة , وقد وصفه الله تعالى بالنكرة . فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ الذين رفع بالابتداء , والخبر " فيتبعون ما تشابه منه " . والزيغ الميل ; ومنه زاغت الشمس , وزاغت الأبصار . ويقال : زاغ يزيغ زيغا إذا ترك القصد ; ومنه قوله تعالى : " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " [ الصف : 5 ] . وهذه الآية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة , وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران . وقال قتادة في تفسير قوله تعالى : " فأما الذين في قلوبهم زيغ " : إن لم يكونوا الحرورية وأنواع الخوارج فلا أدري من هم . قلت : قد مر هذا التفسير عن أبي أمامة مرفوعا , وحسبك . فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ قال شيخنا أبو العباس رحمة الله عليه : متبعو المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه طلبا للتشكيك في القرآن وإضلال العوام , كما فعلته الزنادقة والقرامطة الطاعنون في القرآن ; أو طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه , كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسم وصورة مصورة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع , تعالى الله عن ذلك ; أو يتبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وإيضاح معانيها , أو كما فعل صبيغ حين أكثر على عمر فيه السؤال . فهذه أربعة أقسام : [ الأول ] لا شك في كفرهم , وإن حكم الله فيهم القتل من غير استتابة . [ الثاني ] الصحيح القول بتكفيرهم , إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور , ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد . [ الثالث ] اختلفوا في جواز ذلك بناء على الخلاف في جواز تأويلها . وقد عرف أن مذهب السلف ترك التعرض لتأويلها مع قطعهم باستحالة ظواهرها , فيقولون أمروها كما جاءت . وذهب بعضهم إلى إبداء تأويلاتها وحملها على ما يصح حمله في اللسان عليها من غير قطع بتعيين مجمل منها . [ الرابع ] الحكم فيه الأدب البليغ , كما فعله عمر بصبيغ . وقال أبو بكر الأنباري : وقد كان الأئمة من السلف يعاقبون من يسأل عن تفسير الحروف المشكلات في القرآن , لأن السائل إن كان يبغي بسؤاله تخليد البدعة وإثارة الفتنة فهو حقيق بالنكير وأعظم التعزير , وإن لم يكن ذلك مقصده فقد استحق العتب بما اجترم من الذنب , إذ أوجد للمنافقين الملحدين في ذلك الوقت سبيلا إلى أن يقصدوا ضعفة المسلمين بالتشكيك والتضليل في تحريف القرآن عن مناهج التنزيل وحقائق التأويل . فمن ذلك ما حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي أنبأنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار أن صبيغ بن عسل قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء ; فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعد له عراجين من عراجين النخل . فلما حضر قال له عمر : من أنت ؟ قال : أنا عبد الله صبيغ . فقال عمر رضي الله عنه : وأنا عبد الله عمر ; ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه , ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه , فقال : حسبك يا أمير المؤمنين فقد والله ذهب ما كنت أجد في رأسي . وقد اختلفت الروايات في أدبه , وسيأتي ذكرها في " الذاريات " . ثم إن الله تعالى ألهمه التوبة وقذفها في قلبه فتاب وحسنت توبته . ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ طلب الشبهات واللبس على المؤمنين حتى يفسدوا ذات بينهم , ويردوا الناس إلى زيغهم . وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ قال أبو إسحاق الزجاج : معنى " ابتغاء تأويله " أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم , فأعلم الله جل وعز أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله . قال : والدليل على ذلك قوله تعالى : " هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله " أي يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب " يقول الذين نسوه من قبل " أي تركوه - " قد جاءت رسل ربنا بالحق " [ الأعراف : 43 ] أي قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل قال : فالوقف على قوله تعالى : " وما يعلم تأويله إلا الله " أي لا يعلم أحد متى البعث إلا الله . وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ يقال : إن جماعة من اليهود منهم حيي بن أخطب دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : بلغنا أنه نزل عليك " الم " فإن كنت صادقا في مقالتك فإن ملك أمتك يكون إحدى وسبعين سنة ; لأن الألف في حساب الجمل واحد , واللام ثلاثون , والميم أربعون , فنزل " وما يعلم تأويله إلا الله " . والتأويل يكون بمعنى التفسير , كقولك : تأويل هذه الكلمة على كذا . ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه . واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يؤول إليه , أي صار . وأولته تأويلا أي صيرته . وقد حده بعض الفقهاء فقالوا : هو إبداء احتمال في اللفظ مقصود بدليل خارج عنه . فالتفسير بيان اللفظ ; كقوله " لا ريب فيه " [ البقرة : 2 ] أي لا شك . وأصله من الفسر وهو البيان ; يقال : فسرت الشيء ( مخففا ) أفسره ( بالكسر ) فسرا . والتأويل بيان المعنى ; كقوله لا شك فيه عند المؤمنين أو لأنه حق في نفسه فلا يقبل ذاته الشك وإنما الشك وصف الشاك . وكقول ابن عباس في الجد أبا لأنه تأول قول الله عز وجل : " يا بني آدم " . وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ اختلف العلماء في " والراسخون في العلم " هل هو ابتداء كلام مقطوع مما قبله , أو هو معطوف على ما قبله فتكون الواو للجمع . فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع مما قبله , وأن الكلام تم عند قوله " إلا الله " هذا قول ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وغيرهم , وهو مذهب الكسائي والأخفش والفراء وأبي عبيد وغيرهم . قال أبو نهيك الأسدي : إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة . وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم " آمنا به كل من عند ربنا " . وقال مثل هذا عمر بن عبد العزيز , وحكى الطبري نحوه عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس . و " يقولون " على هذا خبر " الراسخون " . قال الخطابي : وقد جعل الله تعالى آيات كتابه الذي أمرنا بالإيمان به والتصديق بما فيه قسمين : محكما ومتشابها ; فقال عز من قائل : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات . .. إلى قوله : " كل من عند ربنا " فاعلم أن المتشابه من الكتاب قد استأثر الله بعلمه , فلا يعلم تأويله أحد غيره , ثم أثنى الله عز وجل على الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به . ولولا صحة الإيمان منهم لم يستحقوا الثناء عليه . ومذهب أكثر العلماء أن الوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى : " وما يعلم تأويله إلا الله " وأن ما بعده استئناف كلام آخر , وهو قوله " والراسخون في العلم يقولون آمنا به " . وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وعائشة . وإنما روي عن مجاهد أنه نسق " الراسخون " على ما قبله وزعم أنهم يعلمونه . واحتج له بعض أهل اللغة فقال : معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا ; وزعم أن موضع " يقولون " نصب على الحال . وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه ; لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معا , ولا تذكر حالا إلا مع ظهور الفعل ; فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حال ; ولو جاز ذلك لجاز أن يقال : عبد الله راكبا , بمعنى أقبل عبد الله راكبا ; وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله : عبد الله يتكلم يصلح بين الناس ; فكان " يصلح " حالا ; كقول الشاعر - أنشدنيه أبو عمر قال أنشدنا أبو العباس ثعلب - : أرسلت فيها قطما لكالكا يقصر يمشي ويطول باركا أي يقصر ماشيا ; فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده , وأيضا فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئا عن الخلق ويثبته لنفسه ثم يكون له في ذلك شريك . ألا ترى قوله عز وجل : " قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله " [ النمل : 65 ] وقوله : " لا يجليها لوقتها إلا هو " [ الأعراف : 187 ] وقوله : " كل شيء هالك إلا وجهه " [ القصص : 88 ] , فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه بعلمه لا يشركه فيه غيره . وكذلك قوله تبارك وتعالى : " وما يعلم تأويله إلا الله " . ولو كانت الواو في قوله : " والراسخون " للنسق لم يكن لقوله : " كل من عند ربنا " فائدة . والله أعلم . قلت : ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره فقد روي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل , وأنهم داخلون في علم المتشابه , وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به ; وقال الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم . و " يقولون " على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخين ; كما قال : الريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامه وهذا البيت يحتمل المعنيين ; فيجوز أن يكون " والبرق " مبتدأ , والخبر " يلمع " على التأويل الأول , فيكون مقطوعا مما قبله . ويجوز أن يكون معطوفا على الريح , و " يلمع " في موضع الحال على التأويل الثاني أي لامعا . واحتج قائلو هذه المقالة أيضا بأن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم ; فكيف يمدحهم وهم جهال وقد قال ابن عباس : ( أنا ممن يعلم تأويله ) وقرأ مجاهد هذه الآية وقال : أنا ممن يعلم تأويله ; حكاه عنه إمام الحرمين أبو المعالي . قلت : وقد رد بعض العلماء هذا القول إلى القول الأول فقال : وتقدير تمام الكلام " عند الله " أن معناه وما يعلم تأويله إلا الله يعني تأويل المتشابهات , والراسخون في العلم يعلمون بعضه قائلين آمنا به كل من عند ربنا بما نصب من الدلائل في المحكم ومكن من رده إليه . فإذا علموا تأويل بعضه ولم يعلموا البعض قالوا آمنا بالجميع كل من عند ربنا , وما لم يحط به علمنا من الخفايا مما في شرعه الصالح فعلمه عند ربنا فإن قال قائل : قد أشكل على الراسخين بعض تفسيره حتى قال ابن عباس : ( لا أدري ما الأواه ولا ما غسلين ) قيل له : هذا لا يلزم ; لأن ابن عباس قد علم بعد ذلك ففسر ما وقف عليه . وجواب أقطع من هذا وهو أنه سبحانه لم يقل وكل راسخ فيجب هذا فإذا لم يعلمه أحد علمه الآخر . ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون التأويل وأطنب في ذلك ; وفي قوله عليه السلام لابن عباس : ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) ما يبين لك ذلك , أي علمه معاني كتابك . والوقف على هذا يكون عند قوله " والراسخون في العلم " . قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر : وهو الصحيح ; فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب . وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع . لكن المتشابه يتنوع , فمنه ما لا يعلم البتة كأمر الروح والساعة مما استأثر الله بغيبه , وهذا لا يتعاطى علمه أحد لا ابن عباس ولا غيره . فمن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه فإنما أراد هذا النوع , وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب فيتأول ويعلم تأويله المستقيم , ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق من تأويل غير مستقيم ; كقوله في عيسى : " وروح منه " [ النساء : 171 ] إلى غير ذلك فلا يسمى أحد راسخا إلا أن يعلم من هذا النوع كثيرا بحسب ما قدر له . وأما من يقول : إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل ; لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح . والرسوخ : الثبوت في الشيء , وكل ثابت راسخ . وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل والشجر في الأرض ; قال الشاعر : لقد رسخت في الصدر مني مودة لليلى أبت آياتها أن تغيرا ورسخ الإيمان في قلب فلان يرسخ رسوخا . وحكى بعضهم : رسخ الغدير : نضب ماؤه ; حكاه ابن فارس فهو من الأضداد . ورسخ ورضخ ورصن ورسب كله ثبت فيه . وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الراسخين في العلم فقال : ( هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه ) . فإن قيل : كيف كان في القرآن متشابه والله يقول : " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم " [ النحل : 44 ] فكيف لم يجعله كله واضحا ؟ قيل له : الحكمة في ذلك - والله أعلم - أن يظهر فضل العلماء ; لأنه لو كان كله واضحا لم يظهر فضل بعضهم على بعض . وهكذا يفعل من يصنف تصنيفا يجعل بعضه واضحا وبعضه مشكلا , ويترك للجثوة موضعا ; لأن ما هان وجوده قل بهاؤه . والله أعلم . يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا فيه ضمير عائد على كتاب الله تعالى محكمه ومتشابهه ; والتقدير : كله من عند ربنا . وحذف الضمير لدلالة " كل " عليه ; إذ هي لفظة تقتضي الإضافة . وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ أي ما يقول هذا ويؤمن ويقف حيث وقف ويدع اتباع المتشابه إلا ذو لب , وهو العقل . ولب كل شيء خالصه ; فلذلك قيل للعقل لب . و " أولو " جمع ذو .

تفسير الماوردي

قوله عز وجل : { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } يعني القرآن .
{ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } اختلف المفسرون في تأويله على سبعة أقاويل :
أحدها : أن المحكم الناسخ ، والمتشابه المنسوخ ، قاله ابن عباس ، وابن مسعود .
والثاني : أن المحكم ما أحكم الله بيان حلاله وحرامه فلم تشتبه معانيه ، قاله مجاهد .
والثالث : أن المحكم ما لم يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً ، والمتشابه ما احتمل أوجهاً ، قاله الشافعي ومحمد بن جعفر بن الزبير .
والرابع : أن المحكم الذي لم تتكرر ألفاظه ، والمتشابه الذي تكررت ألفاظه ، قاله ابن زيد .
والخامس : أن المحكم الفرائض والوعد والوعيد ، والمتشابه القصص والأمثال .
والسادس : أن المحكم ما عرف العلماء تأويله وفهموا معناه وتفسيره ، والمتشابه ما لم يكن إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه ، كقيام الساعة ، وطلوع الشمس من مغربها ، وخروج عيسى ونحوه ، وهذا قول جابر بن عبد الله .
والسابع : أن المحكم ما قام بنفسه ولم يحتج إلى استدلال .
ويحتمل ثامناً : أن المحكم ما كانت معاني أحكامه معقولة ، والمتشابه ما كانت معاني أحكامه غير معقولة ، كأعداد الصلوات ، واختصاص الصيام بشهر رمضان دون شعبان .
وإنما جعله محكماً ومتشابهاً استدعاء للنظر من غير اتكال على الخبر ، وقد روى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « القرآن على ثلاثة أجزاء : حلال فاتبعه ، وحرام فاجتنبه ، ومتشابه يشكل عليك فَكِلْه إلى عالمه
» . وأما قوله تعالى : { هُنَّ أُمُّ الْكِتَاِب } . ففيه وجهان :
أحدهما : أصل الكتاب .
والثاني : معلوم الكتاب .
وفيه تأويلان :
أحدهما : أنه أراد الآي التي فيها الفرائض والحدود ، قاله يحيى بن يعمر .
والثاني : أنه أراد فواتح السُّوَر التي يستخرج منها القرآن ، وهو قول أبي فاختة .
ويحتمل ثالثاً : أن يريد به أنه معقول المعاني لأنه يتفرع عنه ما شاركه في معناه ، فيصير الأصل لفروعه كالأم لحدوثها عنه ، فلذلك سماه أم الكتاب .
{ فَأََمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } فيه تأويلان :
أحدهما : ميل عن الحق .
والثاني : شك ، قاله مجاهد .
{ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه الأجل الذي أرادت اليهود أن تعرفه من الحروف المقطعة من حساب الجُمّل في انقضاء مدة النبي صلى الله عليه وسلم .
والثاني : أنه معرفة عواقب القرآن في العلم بورود النسخ قبل وقته .
والثالث : أن ذلك نزل في وفد نجران لمَّا حاجّوا النبي صلى الله عليه وسلم في المسيح ، فقالوا : أليس كلمة الله وروحه؟ قال :
« بلى » فقالوا : حسبنا ، فأنزل الله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وابْتَغَآءَ تَأْوِيلِهِ } وهو قول الربيع .
وفي قوله تعالى : { ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } أربعة تأويلات :
أحدها : الشرك ، قاله السدي .
والثاني : اللّبْس ، قاله مجاهد .
الثالث : الشبهات التي حاجّ بها وفد نجران .
والرابع : إفساد ذات البَيْن .
{ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } في التأويل وجهان :
أحدهما : أنه التفسير .
والثاني : أنه العاقبة المنتظرة .
{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : تأويل جميع المتشابه ، لأن فيه ما يعلمه الناس ، وفيه ما لا يعلمه إلا الله ، قاله الحسن .
والثاني : أن تأويله يوم القيامة لما فيه من الوعد والوعيد ، كما قال الله تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَومَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } [ الأعراف : 53 ] يعني يوم القيامة ، قاله ابن عباس .
والثالث : تأويله وقت حلوله ، قاله بعض المتأخرين .
{ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني الثابتين فيه ، العاملين به .
والثاني : يعني المستنبطين للعلم والعاملين ، وفيهم وجهان :
أحدهما : أنهم داخلون في الاستثناء ، وتقديره : أن الذي يعلم تأويله الله والراسخون في العلم جميعاً .
روى ابن أبي نجيح عن ابن عباس أنه قال : أنا ممن يعلم تأويله .
الثاني : أنهم خارجون من الاستثناء ، ويكون معنى الكلام : ما يعلم تأويله إلا الله وحده ، ثم استأنف فقال : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } .
{ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا } يحتمل وجهين :
أحدهما : علم ذلك عند ربنا .
والثاني : ما فصله من المحكم والمتشابه ، فنزل من عند ربنا .

تفسير المراغي

[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) تفسير المفردات
(الم) تقدم أن قلنا في السورة قبلها إن الرأى الذي عليه المعوّل أن الحروف المقطعة التي وقعت في أوائل السور هى حروف للتنبيه كألا، ويا، مما جاء في أوائل الكلام لتنبيه المخاطب إلى ما يلقى بعدها من حديث يستدعى العناية بفهمه، وتقرأ بأسمائها ساكنة كما تقرأ أسماء العدد فيقال (ألف. لام. ميم) كما يقال (واحد. اثنان.
ثلاثة) وتمد اللام والميم، وإذا وصل به لفظ الجلالة جاز في الميم المد والقصر، وفتحها وطرح الهمزة من (الله) للتخفيف والإله: هو المعبود، والحي: ذو الحياة وهى صفة تستتبع الاتصاف بالعلم والإرادة، والقيوم: القائم على كل شىء بكلاءته وحفظه، ونزّل يفيد التدريج والقرآن نزل كذلك في نيف وعشرين سنة بحسب الحوادث كما تقدم، وعبر عن الوحى مرة بالتنزيل، وأخرى بالإنزال للإشارة إلى أن منزلة الموحى أعلى من الموحى إليه، ومعنى كونه بالحق أن كل ما جاء به من العقائد والأحكام والحكم والأخبار فهو حق لا شكّ فيه، ما بين يديه هى الكتب التي أنزلت على الأنبياء السابقين، والتوراة: كلمة عبرية معناها الشريعة، ويريد بها اليهود خمسة أسفار يقولون إن موسى كتبها، وهى: سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر اللاويين، وسفر العدد، وسفر تثنية الاشتراع، ويريد بها النصارى جميع الكتب التي تسمى العهد العتيق، وهى كتب الأنبياء وتاريخ قضاة بنى إسرائيل وملوكهم قبل المسيح، وقد يطلقونه عليها وعلى العهد الجديد معا وهو المعبر عنه بالإنجيل، ويريد بها القرآن ما أنزل على موسى ليبلغه قومه، والإنجيل كلمة يونانية معناها التعليم الجديد أو البشارة، وتطلق عند النصارى على أربعة كتب تسمى بالأناجيل الأربعة وهى كتب مختصرة فى سيرة المسيح عليه السلام وشىء من تاريخه وتعاليمه، وليس لها سند متصل عند أهلها وهم مختلفون في تاريخ كتابتها على أقوال كثيرة، وكتب العهد الجديد تطلق على هذه الكتب الأربعة مع كتاب أعمال الرسل (الحواريين) ورسائل بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب ورؤيا يوحنا، والإنجيل في عرف القرآن هو ما أوحاه الله إلى رسوله عيسى عليه السلام ومنه البشارة بالنبي محمد وأنه هو الذي يتمم الشريعة والأحكام، والفرقان هو العقل الذي يفرق بين الحق والباطل، وكل ما كان عن حضرة القدس يسمى إعطاؤه إنزالا ألا ترى إلى قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ» والانتقام من النقمة وهى السطوة والتسلط، يقال: انتقم منه إذا عاقبه بجنايته، والتصوير جعل الشيء على صورة لم يكن عليها، والصورة هيئة يكون عليها الشيء بالتأليف، والأرحام واحدها رحم وهى مستودع الجنين من المرأة، والمحكم من أحكم الشيء بمعنى وثّقه وأتقنه، والأم في اللغة الأصل الذي يتكون منه الشيء، والمتشابه يطلق تارة على ماله أفراد أو أجزاء يشبه بعضها بعضا، وتارة أخرى على ما يشتبه من الأمور ويلتبس، والزيغ الميل عن الاستواء والاستقامة إلى أحد الجانبين والمراد به هنا ميلهم عن الحق إلى الأهواء الباطلة، والتأويل من الأول وهو الرجوع إلى الأصل ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه، والراسخون في العلم: هم المتفقهون فى الدين، ومن لدنك: أي من عندك، والمراد بالرحمة العناية الإلهية والتوفيق الذي لا يناله العبد بكسبه، وجمع الناس حشرهم للحساب والجزاء، لا ريب فيه: أي إننا موقنون به لا نشك في وقوعه لأنك أخبرت به وقولك الحقّ.

المعنى الجملي
روى ابن جرير وابن إسحق وابن المنذر أن هذه الآيات وما بعدها إلى نحو ثمانين آية نزلت في نصارى نجران إذ وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نحو ستين راكبا، وخاصموه في عيسى بن مريم وقالوا له من أبوه؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربنا حىّ لا يموت، وأن عيسى يأتى عليه الفناء؟ قالوا بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شىء يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟ قالوا بلى، قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا لا، قال: ألستم تعلمون أن ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟ قالوا بلى، قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذّى كما يغذى الصبى، ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا بلى، قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا، فأنزل الله «الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» إلى آخر تلك الآيات.
ووجه الرد عليهم فيها- أنه تعالى بدأ بذكر التوحيد لينفى عقيدة التثليث بادئ ذى بدء، ثم وصفه بما يؤكد ذلك من كونه حيّا قيوما: أي قامت به السموات والأرض وهى قد وجدت قبل عيسى فكيف تقوم به قبل وجوده، ثم ذكر أنه تعالى نزل الكتاب وأنزل التوراة ليبين أنه قد أنزل الوحى وشرع الشرائع قبل وجوده كما أنزل عليه الإنجيل وأنزل على من بعده، فليس هو المنزل للكتب على الأنبياء وإنما هو نبى مثلهم، ثم أعقب ذلك ببيان أنه هو الذي وهب العقل للبشر ليفرقوا به بين الحق والباطل، وعيسى لم يكن واهبا للعقول، ثم قال: إنه لا يخفى عليه شىء ليردّ على استدلالهم على ألوهية عيسى بإخباره عن بعض المغيبات، فإن الإله لا يخفى عليه شىء مطلقا سواء أكان في هذا العالم أم غيره من العوالم السماوية وعيسى لم يكن كذلك، ثم أبان أن الإله هو الذي يصور في الأرحام ليرد على ولادة عيسى من غير أب، إذ الولادة من غير أب ليست دليلا على الألوهية، فالمخلوق عبد كيفما خلق، وإنما الإله هو الخالق الذي يصور في الأرحام كيف يشاء، وعيسى لم يصور أحدا في رحم أمه، ثم صرح بعد هذا بكلمة التوحيد وبوصفه تعالى بالعزة والحكمة.
ثم انتقل بعد ذلك إلى وصف الكتاب وجعله قسمين، محكم العبارة محفوظ من الاحتمال والاشتباه، وهو الأصل الذي دعى الناس إلى تدبر معانيه والعمل به، وإليه يرجع في فهم المتشابه، ومتشابه وهو ما يدل اللفظ فيه على شىء والعقل على خلافه فتشابهت الدلالة ولم يمكن الترجيح كالاستواء على العرش وكون عيسى روح الله وكلمته، ثم بين أن الناس في هذا انقسموا فرقتين: فرقة زائغة يرجعون في تأويله إلى أهوائهم وتقاليدهم لا إلى الأصل المحكم الذي بنى عليه الاعتقاد، وفرقة يقولون آمنا به ونفوّض علمه إلى ربنا، وقد دعوه ألا يضلّهم بعد الهداية، ويرزقهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة.

الإيضاح
(اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قد مر تفسير هذا بإيضاح أول آية الكرسي.
(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) أي إنه أوحى إليك هذا القرآن بالتدريج متصفا بالحق الذي لا شبهة فيه (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي مبينا صدق ما تقدمه من الكتب المنزلة على الأنبياء السالفين، فإنه أثبت الوحى وذكر أنه أرسل رسلا أوحى إليهم، وهذا تصديق جملى لأصل الوحى إليهم، لا تصديق تفصيلى لتلك الكتب التي عند الأمم التي تنمى إلى أولئك الأنبياء بمسائلها جميعا، ألا ترى أن تصديقنا لمحمد صلى الله عليه وسلم في جميع ما أخبر به، لا يلزم منه التصديق بكل ما في كتب الحديث المروية عنه، بل ما ثبت منها صحته فقط.
(وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ) أي وأنزل التوراة على موسى هدى للناس، وقد أخبر الكتاب الكريم أن قومه لم يحفظوها إذ قال: «وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ»
كما أخبر عنهم أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه فيما حفظوه واعتقدوه، والأسفار التي بين أيديهم تؤيد ذلك، ففى سفر التثنية (فعند ما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها- أمر موسى اللاويين حاملى تابوت عهد الرب قائلا: خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم، ليكون هناك شاهدا عليكم، لأنى عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم به، ويصيبكم الشر في آخر الأيام، لأنكم تعملون الشر أمام الرب حتى تغيظوه بأعمال أيديكم- إلى أن قال لهم: وجّهوا قلوبكم إلى جميع الكلمات التي أنا أشهد عليكم بها اليوم، لكى توصوا بها أولادكم ليحرصوا أن يعملوا بجميع كلمات هذه التوراة لأنها ليست أمرا باطلا عليكم بل هى حياتكم، وبهذا الأمر تطيلون الأيام على الأرض التي أنتم عابرون الأردن إليها لتمتلكوها) .
وكذلك خبر موت موسى وكونه لم يقم في بنى إسرائيل نبى مثله بعد.
(فهذان الخبران عن كتابة موسى للتوراة وعن موته معدودان عندهم من التوراة وليسا من الشريعة المنزلة على موسى التي كتبها ووضعها بجانب التابوت، بل كتبا كغيرهما بعده) .
إذا فالتوراة التي عندهم كتب تاريخية مشتملة على كثير من تلك الشريعة المنزلة، والقرآن يثبت ذلك، وأيضا ففقد كتاب الشريعة لأمة لا يجعلها تنسى جميع أحكام هذه الشريعة، فما كتبه عزرا وغيره مشتمل على ما حفظ منها إلى عهده، وعلى غيره من الأخبار، وهذا كاف في الاحتجاج على بنى إسرائيل بإقامة التوراة، والشهادة بأن فيها حكم الله كما جاء في سورة المائدة، وأسفارها كلها كتبت بعد السّبى يرشد إلى ذلك كثرة الألفاظ البابلية التي جاءت فيها، وقد اعترف علماء النصارى بفقد توراة موسى التي هى أصل دينهم، فقد جاء في كتاب خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول الديانة المسيحية ، والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في الوجود إلى الآن ولا نعلم ماذا كان أمرها، والمرجح أنها فقدت مع التابوت لما خرّب بختنصّر الهيكل، وربما كان ذلك سبب حديث كان جاريا بين اليهود على أن الكتب المقدسة فقدت، وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيا جمع النسخ المتفرقة من الكتب المقدسة وأصلح غلطها، وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية، ولكن من أين جمع عزرا تلك الكتب بعد فقدها؟ وعلى أي شىء اعتمد في إصلاح غلطها؟ فإن قالوا إنه بالإلهام فإنا نقول إن هذا مما يحتاج فيه إلى جمع ما في أيدي الناس الذين لاثقة بنقلهم، على أن علماء أوربا قالوا إن أسفار التوراة كتبت بأساليب مختلفة لا يمكن أن تكون كتابة رجل واحد.
وأنزل الله الإنجيل على عيسى، وأنبأ سبحانه بأن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به كاليهود بل هم أولى بذلك، فإن التوراة كتبت زمن نزولها، وكان ألوف الناس يقرءونها ويعملون بما فيها من شرائع وأحكام ثم فقدت، ولكن الكثير من أحكامها كان محفوظا معروفا عندهم، أما كتب النصارى فلم تعرف ولم تشتهر إلا في القرن الرابع للمسيح، لأن أتباعه كانوا مضطهدين بين اليهود والرومان، حتى اعتنق قسطنطين النصرانية فظهرت كتبهم، ومنها تواريخ المسيح المشتملة على بعض كلامه الذي هو إنجيله، وكانت كثيرة فتحكم فيها الرؤساء حتى اتفقوا على أنها أربعة.
وخلاصة ذلك- إن الله أنزل التوراة والإنجيل لهداية من أنزلا عليهم إلى الحق ومن جملة ذلك الإيمان بمحمد صلوات الله عليه واتباعه حين يبعث، فقد اشتملتا على البشارة به والحث على طاعته- ونسخ أحكامها بالكتاب الذي أنزل عليه.
(وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) أي وأنزل العقل الذي يفرق بين الحق والباطل، وجاء في آية أخرى «الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان» والميزان هو العدل.
فالله سبحانه قرن بالكتاب أمرين الفرقان الذي نفرق به الحق في العقائد ونميزه عن الباطل، والميزان وهو ما نعرف به الحقوق في الأحكام ونعدل بين الناس.
وقصارى ذلك- إن ما يقوم عليه البرهان العقلي من عقائد وغيرها فهو حق منزّل من عند الله وما قام به العدل فهو حكم منزّل من عند الله وإن لم ينص عليه في الكتاب فالله هو المنزل والمعطى للعقل والعدل- الفرقان والميزان- كما أنه سبحانه هو المنزّل للكتاب، ولا غنى لأحدهما عن الآخر.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي إن الذين كفروا بآيات الله الناطقة بتوحيده وتنزيهه عما لا يليق بشأنه الجليل، فكذبوا بالقرآن أولا ثم بسائر الكتب تبعا لذلك- لهم عذاب شديد بما يلقى الكفر في عقولهم من الخرافات والأباطيل التي تدنس نفوسهم- وتكون سبب عقابهم في الدار الآخرة التي تغلب فيها الحياة الروحية على الحياة الجسدية المادية.
(وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) أي إن الله بعزته ينفذ سنته، وينتقم ممن خالفها بسلطانه الذي لا يعارض.
(إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) فينزل لعباده من الكتب ما فيه صلاحهم إذا أقاموه، ويعلم سرهم وجهرهم فلا يخفى عليه حال الصادق في إيمانه، ولا حال الكافر، ولا حال من استبطن النفاق وأظهر الإيمان، ولا حال من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان.
وفي التعبير بعدم خفاء شىء عليه- إشارة إلى أن علمه لا يوازن بعلوم المخلوقين بل هو الغاية في الوضوح وعدم الخفاء.
(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) أي هو الذي يجعلكم على صور مختلفة متغايرة وأنتم في الأرحام من النّطف إلى العلق إلى المضغ، ومن ذكورة وأنوثة، ومن حسن وقبح إلى غير ذلك، وكل هذا على أتم ما يكون دقة ونظاما، ومستحيل أن يكون هذا قد جاء من قبيل الاتفاق والمصادفة، بل هو من صنع عليم خبير بالدقائق.
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فهو المنفرد بالإيجاد والتصوير، العزيز الذي لا يغلب على ما قضى به علمه وتعلقت به إرادته، الحكيم المنزّه عن العبث، فهو يوجد الأشياء على مقتضى الحكمة، ومن ثم خلقكم على هذا النمط البديع الذي لا يتصور ما هو أدق منه وأحكم كما قيل «ليس في الإمكان أبدع مما كان» .
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) أي هو الذي أنزل عليك الكتاب منقسما إلى محكم العبارة، بعيد من الاحتمال والاشتباه، ومتشابه وهو ضربان: (1) ما يدل اللفظ فيه على شىء والعقل على خلافه فتشابهت فيه الدلالة ولم يمكن الترجيح كالاستواء على العرش.
(2) ما استأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة.
وقد جاء وصف القرآن بالمحكم في قوله: «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ» وهو إما بمعنى إحكام النظم وإتقانه، وإما بمعنى الحكمة التي اشتملت عليها آياته، ووصفه بالمتشابه في قوله: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً» بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا فى الهداية والسلامة من التناقض والتفاوت والاختلاف كما قال: «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» وقوله: «وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً» أي إن ما جيئوا به من الثمرات في الآخرة يشبه ما رزقوا به من قبل، فاشتبهوا فيه لهذا التشابه.
(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أي فأما الذين يميلون عن الحق ويتبعون أهواءهم الباطلة فينكرون المتشابه وينفّرون الناس منه ويستعينون على ذلك بما في غرائز الناس وطبائعهم من إنكار ما لم يصل إليه علمهم ولا يناله حسهم كالإحياء بعد الموت وجميع شئون العالم الأخروىّ، ويأخذونه على ظاهره بدون نظر إلى الأصل المحكم ليفتنوا الناس بدعوتهم إلى أهوائهم، فيقولون إن الله روح والمسيح روح منه، فهو من جنسه، وجنسه لا يتجزأ فهو هو، ومعنى ابتغاء تأويله- أنهم يرجعونه إلى أهوائهم وتقاليدهم، لا إلى الأصل المحكم الذي بنى عليه الاعتقاد، فيحولون خبر الإحياء بعد الموت وأخبار الحساب والجنة والنار عن معانيها ويصرفونها إلى معان من أحوال الناس في الدنيا ليخرجوا الناس من دينهم، والقرآن ملىء بالرد عليهم من نحو قوله: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» .
(وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) للعلماء في تفسير هذه الآية رأيان: (1) رأى بعض السلف وهو الوقوف على لفظ الجلالة، وجعل قوله: والراسخون فى العلم كلام مستأنف، وعلى هذا فالمتشابه لا يعلم تأويله إلا الله، واستدلوا على ذلك بأمور منها:
(ا) أن الله ذم الذين يتبعون تأويله.
(ب) أن قوله (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) ظاهر في التسليم المحض لله تعالى ومن عرف الشيء وفهمه لا يعبر عنه بما يدل على التسليم المحض.
وهذا رأى كثير من الصحابة رضوان الله عليهم كأبىّ بن كعب وعائشة.
(2) ويرى بعض آخرون الوقف على لفظ (العلم) ويجعل قوله: (يَقُولُونَ آمَنَّا) كلام مستأنف، وعلى هذا فالمتشابه يعلمه الراسخون- وإلى ذلك ذهب ابن عباس وجمهرة من الصحابة، وكان ابن عباس يقول: أنا من الراسخين في العلم، أنا أعلم تأويله.
وردّوا على أدلة الأولين بأن الله تعالى إنما ذم الذين يبتغون التأويل بذهابهم فيه إلى ما يخالف المحكمات يبتغون بذلك الفتنة، والراسخون في العلم ليسوا كذلك فإنهم أهل اليقين الثابت الذي لا اضطراب فيه، فالله يفيض عليهم فهم المتشابه بما ينفق مع فهم المحكم، وبأن قولهم (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) لا ينافى العلم، فإنهم لرسوخهم فى العلم ووقوفهم على حق اليقين لا يضطربون، بل يؤمنون بهذا وذاك لأن كلا منهما من عند الله وليس في هذا من عجب، فإن الجاهل في اضطراب دائم، والراسخ في العلم ثابت العقيدة لا تشتبه عليه المسالك.
ووجود المتشابه الذي يستأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة- ضرورى لأن من مقاصد الدين الإخبار بأحوالها، فيجب الإيمان بما جاء به الرسول من ذلك، وهو من عالم الغيب نؤمن به كما نؤمن بالملائكة والجن، ولا يعلم تأويل ذلك: أي حقيقة ما تئول إليه هذه الألفاظ إلا الله. والراسخون في العلم وغيرهم في مثل هذا سواء، لأن الراسخين يعرفون ما يقع تحت حكم الحس والعقل، ولا يستشرفون بأنظارهم إلى معرفة حقيقة ما يخبر به الرسل من عالم الغيب، إذ هم يعلمون أنه لا مجال لحسهم ولا لعقلهم فيه، إنما سبيله التسليم، فيقولون آمنا به كل من عند ربنا، فالوقف في مثل هذا لازم على لفظ الجلالة (الله) .
أما النوع الأول من المتشابه وهو الألفاظ التي لا يجوز في العقل أخذها على ظاهرها من صفاته تعالى وصفات أنبيائه كقوله «وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ» فمثل هذا يمنع الدليل العقلي والدليل النقلى حمله على ظاهره، ومثل هذا هو الذي يأتى فيه الخلاف في علم الراسخين بتأويله فالذين نفوا عنهم علمهم به جعلوا حكمة تخصيص الراسخين بالتفويض والتسليم- هى تمييزهم بين الأمرين وإعطاء كلّ حكمه كما تقدم، والذين أثبتوا لهم علمه يردون ما تشابه ظاهره من صفات الله وأنبيائه إلى أم الكتاب وهو المحكم، ويأخذون منه ما يمكنهم من فهم المتشابه.
وعلى هذا فتخصيص الراسخين بهذا العلم لبيان أن غيرهم يمتنع عليه الخوض فيه، ولا يجوز لهم التهجم عليه.
وقد يخطر على البال سؤال وهو: لم كان في القرآن متشابه لا يعلمه إلا الله والراسخون فى العلم؟ ولم لم يكن كله محكما يتساوى في فهمه جميع الناس، وهو قد نزل هاديا والمتشابه يحول دون الهداية لوقوع اللبس في فهمه، وفتح باب الفتنة في تأويله لأهل التأويل؟
أجاب العلماء عن هذا بأجوبة كثيرة منها:
(1) إن في إنزال المتشابه امتحانا لقلوبنا في التصديق به، إذ لو كان ما جاء فى الكتاب معقولا واضحا لا شبهة فيه لأحد، لما كان في الإيمان به شىء من الخضوع لأمر الله والتسليم لرسله.
(2) إن في وجوده في القرآن حافزا لعقول المؤمنين إلى النظر فيه كيلا تضعف وتموت، إذ السهل الجلى لا عمل للعقل فيه، وإذا لم يجد العقل مجالا للبحث مات، والدين أعز شىء على الإنسان، فإذا ضعف عقله في فهمه ضعف في كل شىء، ومن ثم قال والراسخون في العلم، ولم يقل والراسخون في الدين لأن العلم أعم وأشمل، فمن رحمته أن جعل في الدين مجالا لبحث العقل بما أودع فيه من المتشابه، إذ بحثه يستلزم النظر فى الأدلة الكونية، والبراهين العقلية، ووجوه الدلالة ليصل إلى فهمه ويهتدى إلى تأويله.
(3) إن الأنبياء بعثوا إلى الناس كافة وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد، وكان من المعاني الحكم الدقيقة التي لا يمكن التعبير عنها بعبارة تكشف عن حقيتها، فجعل فهم هذا من حظ الخاصة، وأمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله، والوقوف عند فهم المحكم، ليكون لكلّ نصيبه على قدر استعداده، فإطلاق كلمة الله وروح من الله على عيسى يفهم منه الخاصة ما لا يفهمه العامة، ومن ثم فتن النصارى بمثل هذا التعبير إذ لم يقفوا عند حد المحكم وهو التنزيه واستحالة أن يكون لله أم أو ولد بمثل ما دل عليه قوله:

«إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ» .
(وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي وما يعقل ذلك ويفقه حكمته إلا ذوو البصائر المستنيرة، والعقول الراجحة التي امتازت بالتدبر والتفكر في جميع الآيات المحكمة التي هى الأصول، حتى إذا عرض لهم المتشابه بعد ذلك سهل عليهم أن يتذكروها ويردّوا المتشابه إليها، ويقولوا في المتشابه الذي هو نبأ عالم الغيب: إن قياس الغائب على الشاهد قياس مع الفارق لا ينبغى للعقلاء أن يعتبروه.
ثم ذكر ما يدعون به ليهبهم الثبات على فهم المتشابه فقال:
(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) أي إن أولئك الراسخين في العلم مع اعترافهم بالإيمان بالمتشابه يطلبون إلى الله أن يحفظهم من الزيغ بعد الهداية، ويهبهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة فهم يعرفون ضعف البشر، وكونهم عرضة للتقلب والنسيان والذهول، فيخافون أن يقعوا فى الخطأ، والخطأ قرين الخطر.
وقد روى عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو «يا مقلّب القلوب ثبت قلبى على دينك» قلت: يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء فقال: «ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرّحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه» .
(رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي ربنا إنك تجمع الناس للجزاء في يوم لا شك فيه وإنا موقنون به، لأنك أخبرت به وقولك الحق، ووعدت وأوعدت بالجزاء فيه، وأنت لا تخلف وعدك.
وقد جاءوا بهذا الدعاء بعد الإيمان بالمتشابه، ليستشعروا أنفسهم الخوف من تسرّب الزيغ الذي يسلبهم الرحمة في ذلك اليوم، وهذا الخوف هو مبعث الحذر والتوقي منه.

تفسير المنار

قوله -تعالى-: {الم} هو اسم السورة على المختار - كما تقدم في أول سورة البقرة - ويقال: قرأت (الم) البقرة و(الم) آل عمران و (الم) السجدة. ويقرأ بأسماء الحروف لا بمسمياتها، وتذكر ساكنة كما تذكر أسماء العدد. فتقول: ألف لام ميم، كما تقدم: واحد اثنان ثلاثة، وتمد اللام والميم، وإذا وصلت به لفظ الجلالة جاز لك في الميم المد والقصر باتفاق القراء، والجمهور يصلون فيفتحون الميم ويطرحون الهمزة من لفظ الجلالة للتخفيف، وقرأ أبو جعفر والأعشى والبرجمي عن أبي بكر عن عاصم بسكون الميم وقطع الهمزة.
{الله لا إله إلا هو الحي القيوم} تقرير لحقيقة التوحيد الذي هو أعظم قواعد الدين، وتقدم تفسيره في أول آية الكرسي بالإسهاب {نزل عليك الكتاب بالحق} أي أوحى إليك هذا القرآن المكتوب بالتدريج متصفا بالحق متلبسا به، وإنما عبر عن الوحي بالتنزيل وبالإنزال كما في آيات أخرى للإشعار بعلو مرتبة الموحي على الموحى إليه، ويصح التعبير بالإنزال عن كل عطاء منهتعالى، كما قال:
{ وأنزلنا الحديد } [الحديد: 25] وأما التدريج فقد استفيد من صيغة التنزيل، وكذلك كان، فقد نزل القرآن نجوما متفرقة بحسب الأحوال والوقائع. ومعنى تنزيله بالحق أن فيه ما يحقق أنه من عند الله -تعالى-، فلا يحتاج إلى دليل من غيره على حقيته، أو معناه: أن كل ما جاء به من العقائد والأخبار والأحكام والحكم حق، وقد يوصف الحكم بكونه حقا في نفسه إذا كانت المصلحة والفائدة تتحقق به، وفي أشهر التفاسير: أن المراد بالحق العدل أو الصدق في الأخبار، أو الحجج الدالة على كونه من عند الله، وما قلناه أعم وأوضح {مصدقا لما بين يديه} أي مبينا صدق ما تقدمه من الكتب المنزلة على الأنبياء، أي كونها وحيا من الله -تعالى-، وذلك أن أثبت الوحي وذكر أنه -تعالى- أرسل رسلا أوحى إليهم، فهذا تصديق إجمالي لأصل الوحي لا يتضمن تصديق ما عند الأمم التي تنتمي إلى أولئك الأنبياء من الكتب بأعيانها ومسائلها. ومثاله تصديقنا لنبينا -صلى الله عليه وسلم- في جميع ما أخبر به فهو لا يستلزم تصديق كل ما في كتب الحديث المروية عنه، بل ما ثبت منها عندنا فقط.
{وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس} التوراة: كلمة عبرانية معناها المراد الشريعة أو الناموس، وهي تطلق عند أهل الكتاب على خمسة أسفار يقولون إن موسى كتبها، وهي سفر التكوين وفيه الكلام عن بدء الخليقة وأخبار بعض الأنبياء، وسفر الخروج، وسفر اللاويين أو الأخبار، وسفر العدد، وسفر تثنية الاشتراع ويقال التثنية فقط. ويطلق النصارى لفظ التوراة على جميع الكتب التي يسمونها العهد العتيق، وهي كتب الأنبياء وتاريخ قضاة بني إسرائيل وملوكهم قبل المسيح ومنها ما لا يعرفون كاتبه، وقد يطلقونه عليها وعلى العهد الجديد معا، وهو المعبر عنه بالإنجيل وسيأتي تفسيره. أما التوراة في عرف القرآن فهي ما أنزله الله -تعالى- من الوحي على موسى -عليه الصلاة والسلام- ليبلغه قومه لعلهم يهتدون به، وقد بين -تعالى- أن قومه لم يحفظوه كله إذ قال في سورة المائدة:
{ ونسوا حظا مما ذكروا به } [المائدة: 13] كما أخبر عنهم في آيات أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وذلك فيما حفظوه واعتقدوه. وهذه الأسفار الخمسة التي في أيديهم تنطق بما يؤيد ذلك، ومنه ما في سفر التثنية من أن موسى كتب التوراة وأخذ العهد على بني إسرائيل بحفظها والعمل بها، ففي الفصل (الإصحاح) الحادي والثلاثين منه ما نصه:
" [24] فعندما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها [25] أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلا [26] خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون هناك شاهدا عليكم [27] لأني أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة. هو ذا وأنا بعد حي معكم اليوم قد صرتم تقاومون الرب فكم بالحرى بعد موتي [28] اجمعوا إلي كل شيوخ أسباطكم وعرفاءكم لأنطق في مسامعهم بهذه الكلمات وأشهد عليهم السماء والأرض [29] لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم به ويصيبكم الشر في آخر الأيام؛ لأنكم تعملون الشر أمام الرب حتى تغيظوه بأعمال أيديكم [30] فنطق موسى في مسامع كل جماعة إسرائيل بكلمات هذا النشيد إلى تمامه " - وهاهنا ذكر النشيد في الفصل الثاني والثلاثين ثم قال أي الكاتب لسفر التثنية - " [44] فأتى موسى ونطق بجميع كلمات هذا النشيد في مسامع الشعب هو ويشوع بن نون [45] ولما فرغ موسى من مخاطبة جميع إسرائيل بكل هذه الكلمات [46] قال لهم وجهوا قلوبكم إلى جميع الكلمات التي أنا أشهد عليكم بها اليوم لكي توصوا بها أولادكم ليحرصوا أن يعملوا بجميع كلمات هذه التوراة [47]؛ لأنها ليست أمرا باطلا عليكم بل هي حياتكم. وبهذا الأمر تطيلون الأيام على الأرض التي أنتم عابرون الأردن إليها لتمتلكوها "
ومنه خبر موت موسى وكونه لم يقم في بني إسرائيل نبي مثله بعد، أي إلى وقت الكتابة. فهذان الخبران عن كتابة موسى للتوراة وعن موته معدودان من التوراة، وما هما في الحقيقة من الشريعة المنزلة على موسى التي كتبها ووضعها بجانب التابوت، بل كتبا كغيرهما بعده وقد ظهر تأويل علم موسى في بني إسرائيل فإنهم فسدوا وزاغوا بعده كما قال. وأضاعوا التوراة التي كتبها ثم كتبوا غيرها، ولا ندري عن أي شيء أخذوا ما كتبوه على أنه فقد أيضا، وفي الفصل الرابع والثلاثين من أخبار الأيام الثاني " أن حلقيا الكاهن وجد سفر شريعة الرب وسلمه إلى شافان الكاتب فجاء به شافان إلى الملك " قال صاحب دائرة المعارف العربية: إنهم ادعوا أن هذا السفر الذي وجده حلقيا هو الذي كتبه موسى ولا دليل لهم على ذلك، على أنهم أضاعوه أيضا ثم إن عزرا الكاهن الذي " هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها وليعلم إسرائيل فريضة وقضاء " قد كتب لهم الشريعة بأمر أرتحشستا ملك فارس الذي أذن لهم (أي لبني إسرائيل) بالعودة إلى أورشليم.
وقد أمر هذا الملك بأن تقاوم شريعتهم وشريعته كما في سفر عزرا (راجع الفصل السابع منه) فجميع أسفار التوراة التي عند أهل الكتاب قد كتبت بعد السبي كما كتب غيرها من أسفار العهد العتيق. ويدل على ذلك كثرة الألفاظ البابلية فيها، وقد اعترف علماء اللاهوت من النصارى بفقد توراة موسى التي هي أصل دينهم وأساسه. قال صاحب كتاب (خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول الديانة المسيحية): " والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في الوجود إلى الآن ولا نعلم ماذا كان من أمرها والمرجح أنها فقدت مع التابوت لما خرب بختنصر الهيكل. وربما كان ذلك سبب حديث كان جاريا بين اليهود على أن الكتب المقدسة فقدت وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيا جمع النسخ المتفرقة من الكتب المقدسة وأصلح غلطها وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية " انتهى بحروفه.
ولقد نعلم أنهم يجيبون من يسأل: من أين جمع عزرا تلك الكتب بعد فقدها وإنما يجمع الموجود، وعلى أي شيء اعتمد في إصلاح غلطها؟ قائلين: إنه كتب ما كتب بالإلهام فكان صوابا، ولكن هذا الإلهام مما لا سبيل إلى إقامة البرهان عليه ولا هو مما يحتاج فيه إلى جمع ما في أيدي الناس الذين لا ثقة بنقلهم. ولو كتب عزرا بالإلهام الصحيح لكتب شريعة موسى مجردة من الأخبار التاريخية، ومنها ذكر كتابته لها ووضعها في جانب التابوت وذكر موته وعدم مجيء مثله، وقد بين بعض علماء أوربا أن أسفار التوراة كتبت بأساليب مختلفة لا يمكن أن تكون كتابة واحد، وليس من غرضنا أن نطيل في ذلك وإنما نقول: إن التوراة التي يشهد لها القرآن هي ما أوحاه الله إلى موسى ليبلغه قومه بالقول والكتاب، وأما التوراة التي عند القوم فهي كتب تاريخية مشتملة على كثير من تلك الشريعة المنزلة؛ لأن القرآن يقول في اليهود: إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، كما يقول: إنهم نسوا حظا مما ذكروا به، ولأنه يستحيل أن تنسى تلك الأمة بعد فقد كتاب شريعتها جميع أحكامها. فما كتبه عزرا وغيره مشتمل على ما حفظ منها إلى عهده وعلى غيره من الأخبار. وهذا كاف للاحتجاج على بني إسرائيل بإقامة التوراة وللشهادة بأن فيها حكم الله كما في سورة المائدة؛ وبهذا يجمع بين الآيات الواردة في التوراة وبين المعقول والمعروف في تاريخ القوم.
أما لفظ " الإنجيل " فهو يوناني الأصل، ومعناه البشارة، قيل: والتعليم الجديد وهو يطلق عند النصارى على أربعة كتب تعرف بالأناجيل الأربعة، وعلى ما يسمونه العهد الجديد وهو هذه الكتب الأربعة مع كتاب أعمال الرسل (أي الحواريين) ورسائل بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب ورؤيا يوحنا، أي على المجموع فلا يطلق على شيء مما عدا الكتب الأربعة بالانفراد، والأناجيل الأربعة عبارة عن كتب وجيزة في سيرة المسيح - عليه السلام - وشيء من تاريخه وتعليمه، ولهذا سميت أناجيل وليس لهذه الكتب سند متصل عند أهلها، وهم مختلفون في تاريخ كتابتها على أقوال كثيرة، ففي السنة التي كتب فيها الإنجيل الأول تسعة أقوال وفي كل واحد من الثلاثة عدة أقوال أيضا؛ على أنهم يقولون: إنها كتبت في النصف الثاني من القرن الأول للمسيح، لكن أحد الأقوال في الإنجيل الأول أنه كتب سنة 37 ومنها أنه كتب سنة 64 ومن الأقوال في الرابع أنه كتب في 98 للميلاد ومنهم من أنكر أنه من تصنيف يوحنا وأن خلافهم في سائر كتب العهد الجديد لأقوى وأشد، وأما الإنجيل في عرف القرآن فهو ما أوحاه الله إلى رسوله عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- من البشارة بالنبي الذي يتمم الشريعة والحكم والأحكام، وهو ما يدل عليه اللفظ، وقد أخبرنا -سبحانه- وتعالى في (5: 14) أن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به كاليهود، وهم أجدر بذلك، فإن التوراة كتبت في زمن نزولها، وكان الألوف من الناس يعملون بها، ثم فقدت، والكثير من أحكامها محفوظ معروف، ولا ثقة بقول بعض علماء الإفرنج: إن الكتابة لم تكن معروفة في زمن موسى - عليه السلام -، وأما كتب النصارى فلم تعرف وتشهر إلا في القرن الرابع للمسيح؛ لأن أتباع المسيح كانوا مضطهدين بين اليهود والرومان، فلما أمنوا باعتناق الملك قسطنطين النصرانية سياسة ظهرت كتبهم ومنها تواريخ المسيح المشتملة على بعض كلامه الذي هو إنجيله، وكانت كثيرة فتحكم فيها الرؤساء حتى اتفقوا على هذه الأربعة. فمن فهم ما قلناه في الفرق بين عرف القرآن وعرف القوم في مفهوم التوراة والإنجيل يتبين له أن ما جاء في القرآن هو الممحص للحقيقة التي أضاعها القوم، وهي ما يفهم من لفظ التوراة والإنجيل، ويصح أن يعد هذا التمحيص من آيات كون القرآن موحى به من الله، ولولا ذلك لما أمكن ذلك الأمي الذي لم يقرأ هذه الأسفار والأناجيل المعروفة ولا تواريخ أهلها أن يعرف أنهم نسوا حظا مما أوحي إليهم وأوتوا نصيبا منه فقط، بل كان يجاريهم على ما هم عليه ويقول: الأناجيل لا الإنجيل. ثم إن من فهم هذا لا تروج عنده شبهات القسيسين الذين يوهمون عوام المسلمين أن ما في أيديهم من التوراة والأناجيل هي التي شهد بصدقها القرآن.
وقال الأستاذ الإمام في تفسير هذه الجملة: المتبادر من كلمة " أنزل " أن التوراة نزلت على موسى مرة واحدة وإن كانت مرتبة في الأسفار المنسوبة إليه فإنها مع ترتيبها مكررة، والقرآن لا يعرف هذه الأسفار ولم ينص عليها. وكذلك الإنجيل نزل مرة واحدة وليس هو هذه الكتب التي يسمونها الأناجيل؛ لأنه لو أرادها لما أفرد الإنجيل دائما، مع أنها كانت متعددة عند النصارى حينئذ، وحاول بعض المفسرين بيان اشتقاق التوراة والإنجيل من أصل عربي وما هما بعربيين، ومعنى التوراة - وهي عبرية - الشريعة، ومعنى الإنجيل - وهي يونانية - البشارة، وإنما المسيح مبشر بالنبي الخاتم الذي يكمل الشريعة للبشر، وأما كونهما هدى للناس فهو ظاهر.
{وأنزل الفرقان} أقول: الفرقان: مصدر كالغفران وهو هنا ما يفرق ويفصل به بين الحق والباطل، قال بعضهم: المراد به القرآن وهو مردود بقوله في أول الآية: {نزل عليك الكتاب} وقال غيرهم: هو كل ما يفرق به بين الحق والباطل في كل أمر كالدلائل والبراهين واختاره ابن جرير، وقيل: هو خاص ببيان الحق في أمر عيسى - عليه السلام - كما جاء في هذه السورة. وقال الأستاذ الإمام: إن الفرقان هو العقل الذي به تكون التفرقة بين الحق والباطل، وإنزاله من قبيل إنزال الحديد؛ لأن كل ما كان عن الحضرة العلية الإلهية يسمى إعطاؤه إنزالا، وما قاله قريب مما اختاره ابن جرير من التفسير المأثور؛ فإن العقل هو آلة التفرقة، ويؤيد ذلك قوله -تعالى- في سورة الشورى:
{ الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } [الشورى: 17] وقد فسروا الميزان بالعدل، فالله -تعالى- قرن بالكتاب أمرين: أحدهما الفرقان: وهو ما نعرف به الحق في العقائد فنفرقه من الباطل، وثانيهما الميزان: وهو ما نعرف به الحقوق في الأحكام فنعدل بين الناس فيها، وكل من العقل والعدل من الأمور الثابتة في نفسها، فكل ما قام عليه البرهان العقلي في العقائد وغيرها فهو حق منزل من الله، وكل ما قام به العدل فهو حكم منزل من الله وإن لم ينص عليه في الكتاب؛ فإنه -تعالى- هو المنزل، أي المعطي للعقل والعدل أو الفرقان والميزان كما أنه -سبحانه- هو المنزل، أي المعطي للكتاب، ولسنا نستغني بشيء من مواهبه المنزلة عن آخر. وما زال علماء الكلام وأهل التوحيد يعدون البراهين العقلية هي الأصل في معرفة العقائد الدينية، ويجب على علماء الأحكام وأهل الفقه أن يحذوا حذوهم في العدل، فيعلموا أنه يمكن أن يعرف ويطلب لذاته وأن النصوص الواردة في بعض الأحكام مبينة له وهادية إليه، وأكثر الأحكام القضائية في الإسلام اجتهادية، فيجب أن يكون أساسها تحري العدل. والغزالي يفسر الميزان بالعقل الذي يؤلف الحجج ويميز بين الحق والباطل والعدل والجور وغير ذلك. وفي حديث جابر عند البيهقي قوام المرء العقل ولا دين لمن لا عقل له ومن حديثه عند أبي الشيخ في الثواب وابن النجار دين المرء عقله، ومن لا عقل له لا دين له.
{إن الذين كفروا بآيات الله} التي أنزلها لهداية عباده وإرشادهم إلى طرق السعادة في المعاش والمعاد {لهم عذاب شديد} بما يلقي الكفر في عقولهم من الخرافات والأباطيل التي تطفئ نورها، وما يجرهم إليه من المعاصي والمفاسد التي تدسي نفوسهم وتدنسها حتى تكون ظلمة عقولهم وفساد نفوسهم منشأ عذابهم الشديد في تلك الدار الآخرة التي تغلب فيها الحياة الروحية العقلية على الحياة البدنية المادية، فلا يكون لهم شاغل ولا مسل من المادة عما فاتهم من النعيم وما أصابهم من الجحيم {والله عزيز ذو انتقام} فهو بعزته ينفذ سننه فينتقم ممن خالفها بسلطانه الذي لا يعارض، والانتقام من النقمة وهي السطوة والسلطة، ويستعمل أهل هذا العصر الانتقام بمعنى التشفي بالعقوبة، وهو بهذا المعنى محال على الله -تعالى-.
{إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء} فهو ينزل لعباده من الكتب ويعطيهم من المواهب ما يعلم أن فيه صلاحهم إذا أقاموه. ويعلم حقيقة أمرهم في سرهم وجهرهم لا يخفى عليه أمر المؤمن الصادق وأمر الكافر والمنافق ولا حال من أسر الكفر واستبطن النفاق وأظهر الإيمان والصلاح، ومن أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وكأن هذا الاستئناف البياني دليل على ما قبله، ثم استدل عليه باستئناف منه على سبيل الالتفات فقال: {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} الأرحام: هو جمع رحم وهو مستودع الجنين من المرأة ومن عرف ما في تصوير الأجنة في الأرحام من الحكم والنظام علم أنه يستحيل أن يكون بالمصادفة والاتفاق. وأذعن بأن ذلك فعل عالم خبير بالدقائق، حكيم يستحيل عليه العبث عزيز لا يغلب على ما قضى به علمه وتعلقت به إرادته، واحد لا شريك له في إبداعه {لا إله إلا هو العزيز الحكيم}.
وإذا فهمت معنى هذه الآيات في نفسها فاعلم أن المفسرين قالوا - كما أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر - إنها نزلت وما بعدها إلى نحو ثمانين آية في نصارى نجران، إذ وفدوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانوا ستين راكبا فذكروا عقائدهم واحتجوا على التثليث وألوهية المسيح بكونه خلق على غير السنة التي عرفت في توالد البشر، وبما جرى على يديه من الآيات وبالقرآن نفسه، فأنزل الله هذه الآيات. وقد ذكر ذلك الأستاذ الإمام - غير جازم به - وأشار إلى وجه الرد عليهم في تفسيرها ولم يزد على ذلك إلا ما ذكرناه عنه في تفسير التوراة والإنجيل والفرقان، أما ما قاله في توجيه الرد عليهم فهو بدأ بذكر توحيد الله لينفي عقيدتهم من أول الأمر ثم وصفه بما يؤكد هذا النفي كقوله: {الحي القيوم} أي الذي قامت به السماوات والأرض، وهي قد وجدت قبل عيسى فكيف تقوم به قبل وجوده؟ ثم قال: إن قال نزل الكتاب وأنزل التوراة لبيان أن الله -تعالى- قد أنزل الوحي وشرع الشريعة قبل وجود عيسى كما أنزل عليه وأنزل على من بعده فلم يكن هو المنزل للكتب على الأنبياء وإنما كان نبيا مثلهم، وقوله: {وأنزل الفرقان} لبيان أنه هو الذي وهب العقل للبشر ليفرقوا به بين الحق والباطل، وعيسى لم يكن واهبا للعقول. وفيه تعريض بأن السائلين تجاوزوا حدود العقل. أقول: وفي هذا وما قبله شيء آخر. وهو الإشعار بأن ما أنزله الله -تعالى- من الكتب والفرقان يدل على إثبات الوحدانية لله -تعالى- وتنزيهه عن الولد والحلول أو الاتحاد بأحد أو بشيء من الحوادث. قال وقوله: {إن الله لا يخفى عليه شيء} رد لاستدلالهم على ألوهية عيسى بإخباره عن بعض المغيبات، فهو يثبت أن الإله لا يخفى عليه شيء مطلقا سواء كان في هذا العالم أو غيره من العوالم السماوية، وعيسى لم يكن كذلك، وقوله: {هو الذي يصوركم} إلخ رد لشبهتهم في ولادة عيسى من غير أب، أي الولادة من غير أب ليست دليلا على ألوهية، فالمخلوق عبد كيفما خلق، وإنما الإله هو الخالق الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء، وعيسى لم يصور أحدا في رحم أمه؛ ولذلك صرح بعد هذا بكلمة التوحيد. وبوصفه -تعالى- بالعزة والحكمة. أقول: ولا يخفى ما في ذكر الأرحام من التعريض بأن عيسى تكون وصور في الرحم كغيره من الناس.
ثم قالتعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} قال الأستاذ: وهذا رد لاستدلالهم ببعض آيات القرآن على تمييز عيسى على غيره من البشر؛ إذ ورد فيه أنه روح الله وكلمته. فهو يقول: إن هذه الآيات من المتشابهات التي اشتبه عليكم معناها حتى حاولتم جعلها ناقضة للآيات المحكمة في توحيد الله وتنزيهه.
(بحث المحكم والمتشابه)
أقول: المحكمات من أحكم الشيء بمعنى: وثقه وأتقنه. والمعنى العام لهذه المادة المنع، فإن كل محكم يمنع بإحكامه تطرق الخلل إلى نفسه أو غيره، ومنه الحكم والحكمة وحكمة الفرس، قيل وهي أصل المادة. و " المتشابه " يطلق في اللغة على ما له أفراد أو أجزاء يشبه بعضها بعضا، وعلى ما يشتبه من الأمر أي يلتبس. قال في الأساس: " وتشابه الشيئان واشتبها، وشبهته به وشبهته إياه واشتبهت الأمور وتشابهت: التبست لإشباه بعضها بعضا. وفي القرآن المحكم والمتشابه، وشبه عليه الأمر: لبس عليه، وإياك والمشتبهات: الأمور المشكلات " وقد وصف القرآن بالإحكام على الإطلاق في أول سورة هود بقوله:
{ كتاب أحكمت آياته } [هود: 1] وهو من إحكام النظم وإتقانه أو من الحكمة التي اشتملت آياته عليها، ووصف كله بالمتشابه في سورة الزمر { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها } [الزمر: 23] أي يشبه بعضه بعضا في هدايته وبلاغته وسلامته من التناقض والتفاوت والاختلاف { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } [النساء: 82] أما قوله -تعالى- في سورة البقرة: { وأتوا به متشابها } [البقرة: 25] فمفهومه أن ما جيئوا به من الثمرات أخيرا يشبه ما رزقوه من قبل وأنهم اشتبهوا به لهذا التشابه. وقالوا: إن الأصل في ورود التشابه بمعنى المشكل الملتبس أن يكون الالتباس فيه بسبب شبهه لغيره، ثم أطلق على كل ملتبس مجازا وإن كان ظاهر الأساس أن المعنيين حقيقتان فيه، ولا شك أن القرآن يصح أن يوصف كله بالمحكم وبالمتشابه من حيث هو متقن ويشبه بعضه بعضا فيما ذكر. والتقسيم في هذه الآية مبني على استعمال كل من المحكم والمتشابه في معنى خاص؛ ولذلك اختلف فيه المفسرون على أقوال:
(أحدها) أن المحكمات هي قوله -تعالى- في سورة الأنعام:
{ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا } [الأنعام: 151] إلى آخر الآية والآيتين اللتين بعدها. والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود، وهي أسماء حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور؛ وذلك أنهم أولوها على حساب الجمل، فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه. وهذا القول مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما، وزعم الفخر الرازي أن المراد به: أن المحكم ما لا تختلف فيه الشرائع كالوصايا في تلك الآيات الثلاث، والمتشابه ما يسمى بالمجمل، أو هو ما تكون دلالة اللفظ بالنسبة إليه وإلى غيره على السوية إلا بدليل منفصل. وهذا رأي مستقل يجعل المعنى الخاص عاما وهو لا يفهم من هذه الرواية.
(ثانيها) أن المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ وهو مروي عن ابن عباس أيضا وعن ابن مسعود وغيرهما.
(ثالثها) أن المحكم ما كان دليله واضحا لائحا، كدلائل الوحدانية والقدرة والحكمة، والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل. عزاه الرازي إلى الأصم وبحث فيه.
(رابعها) أن المحكم كل ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جلي أو خفي، والمتشابه: ما لا سبيل إلى العلم به، كوقت قيام الساعة ومقادير الجزاء على الأعمال.
وهذه الأربعة ذكرها الرازي، وكأنه لم يطلع على غيرها، وفي تفسير ابن جرير وغيره أقوال أخرى مروية عن المفسرين منها ما يقرب من بعض ما ذكر فنوردها في سياق العدد.
(خامسها) أن المحكمات: ما أحكم الله فيها بيان حلاله وحرامه، والمتشابه منها: ما أشبه بعضه بعضا في المعاني وإن اختلف ألفاظه. رواه ابن جرير عن مجاهد وعبارته عنده: محكمات ما فيه من الحلال والحرام، وما سوى ذلك فهو متشابه يصرف بعضه بعضا وهو مثل قوله:
{ وما يضل به إلا الفاسقين } [البقرة: 26] ومثل قوله: { كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } [الأنعام: 125] ومثل قوله: { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } [محمد: 17] وكأن مجاهدا يعني بالمتشابه: ما فيه إبهام أو عموم أو إطلاق، أو كل ما لم يكن حكما عمليا، فهو عنده خاص بالإنشاء دون الخبر.
(سادسها) أن المحكم من آي الكتاب: ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا، والمتشابه: ما احتمل من التأويل أوجها، رواه ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير وعبارته عنده هكذا: آيات محكمات هن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه، وأخر متشابهة في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق اهـ. وعبارة ابن جرير في حكايته عنه تجعل المحكم بمعنى النص عند الأصوليين والمتشابه ما يقابله.
(سابعها) أن التقسيم خاص بالقصص، فالمحكم منها ما أحكم وفصل فيه خبر الأنبياء مع أممهم، والمتشابه: ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور، وأطال في التمثيل له.
(ثامنها) أن المتشابه: ما يحتاج إلى بيان وهو مروي عن الإمام أحمد والمحكم: ما يقابله.
(تاسعها) أن المتشابه: ما يؤمن به ولا يعمل به. ذكره ابن تيمية، والظاهر أنه جميع الأخبار، فالمحكم: هو قسم الإنشاء.
(عاشرها) أن المتشابه: آيات الصفات (أي صفات الله) خاصة ومثلها أحاديثها، ذكره ابن تيمية أيضا.
وقال الأستاذ الإمام في معنى المتشابهات: التشابه إنما يكون بين شيئين فأكثر، وهو لا يفيد عدم فهم المعنى مطلقا كما قال المفسر (الجلال) ووصف التشابه في هذه الآية هو للآيات باعتبار معانيها، أي إنك إذا تأملت في هذه الآية تجد معاني متشابهة في فهمها من اللفظ لا يجد الذهن مرجحا لبعضها على بعض. وقالوا أيضا: إن المتشابه ما كان إثبات المعنى فيه للفظ الدال عليه ونفيه عنه متساويان، فقد تشابه فيه النفي والإثبات أو ما دل فيه اللفظ على شيء والعقل على خلافه فتشابهت الدلالة ولم يمكن الترجيح، كالاستواء على العرش وكون عيسى روح الله وكلمته، فهذا هو المتشابه الذي يقابله المحكم الذي لا ينفي العقل شيئا من ظاهر معناه، أما كون المحكمات هن أم الكتاب فمعناه أنهن أصله وعماده أو معظمه، وهذا ظاهر لكنه لا ينطبق إلا على بعض الأقوال. قال الأستاذ الإمام إن معنى ذلك أنها هي الأصل الذي دعي الناس إليه ويمكنهم أن يفهموها ويهتدوا بها، وعنها يتفرع غيرها وإليها يرجع، فإن اشتبه علينا شيء نرده إليها، وليس المراد بالرد أن نئوله بل أن نؤمن بأنه من عند الله وأنه لا ينافي الأصل المحكم الذي هو أم الكتاب وأساس الدين الذي أمرنا أن نأخذ به على ظاهره الذي لا يحتمل غيره إلا احتمالا مرجوحا. مثال هذه المتشابهات قوله -تعالى-:
{ الرحمن على العرش استوى } [طه: 5] وقوله: { يد الله فوق أيديهم } [الفتح: 10] وقوله -تعالى-: { وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } [النساء: 171] هذا رأي جمهور المفسرين، وذهب جمهور عظيم منهم إلى أنه لا متشابه في القرآن إلا أخبار الغيب، كصفة الآخرة وأحوالها من نعيم وعذاب.
{فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} قال الأستاذ الإمام: معنى اتباعه ابتغاء الفتنة أنهم يتبعونه بالإنكار والتنفير استعانة بما في أنفس الناس من إنكار ما لم يصل إليه علمهم ولا يناله حسهم كالإحياء بعد الموت وشئون تلك الحياة الأخرى. وابتغاء الفتنة بالنسبة إلى الوجه الأول في معنى المتشابه: هو أن يتبع أهل الزيغ من المشركين والمجسمة مثل قوله -تعالى-: {وروح منه} فيأخذونه على ظاهره من غير نظر إلى الأصل المحكم ليفتنوا الناس بدعوتهم إلى أهوائهم ويختلبوهم بشبهتهم فيقولون: إن الله روح والمسيح روح منه، فهو من جنسه وجنسه لا يتبعض فهو هو. فالتأويل هنا بمعنى الإرجاع. أي أنهم يرجعونه إلى أهوائهم وتقاليدهم لا إلى الأصل المحكم الذي بني عليه الاعتقاد، وأما ابتغاء تأويله فهو أنهم يطبقونه على أحوال الناس في الدنيا فيحولون خبر الإحياء بعد الموت وأخبار الحساب والجنة والنار عن معانيها ويصرفونها إلى معان من أحوال الناس في الدنيا ليخرجوا الناس عن الدين بالمرة، والقرآن مملوء بالرد عليهم كقوله -تعالى-:
{ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } [يس: 79]
{وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} قال بعض السلف إن قوله: والراسخون في العلم كلام مستأنف، وبعضهم: أنه معطوف على لفظ الجلالة. قال الأستاذ الإمام: استدل الذين قالوا بالوقف عند لفظ الجلالة وبكون ما بعده استئنافا بأدلة (منها) أن الله -تعالى- ذم الدين يتبعون تأويله و (منها) قوله: {يقولون آمنا به كل من عند ربنا} فإن ظاهر الآية التسليم المحض للهتعالى، ومن عرف الشيء وفهمه لا يعبر عنه بما يدل على التسليم المحض وهذا رأي كثير من الصحابة - رضي الله عنهم - كأبي بن كعب وعائشة، وذهب ابن عباس وجمهور من الصحابة إلى القول الثاني. كان ابن عباس يقول: " أنا من الراسخين في العلم أنا أعلم تأويله ". وقالوا في استدلال أولئك: إن الله -تعالى- إنما ذم الذين يبتغون التأويل بذهابهم فيه إلى ما يخالف المحكمات يبتغون بذلك الفتنة، والراسخون في العلم ليسوا كذلك؛ فإنهم أهل اليقين الثابت الذي لا زلزال فيه ولا اضطراب، فهؤلاء يفيض الله -تعالى- عليهم فهم المتشابه بما يتفق مع المحكم. وأما دلالة قولهم: {آمنا به كل من عند ربنا} على التسليم المحض فهو لا ينافي العلم، فإنهم إنما سلموا بالمتشابه في ظاهره أو بالنسبة إلى غيرهم لعلمهم باتفاقه مع المحكم فهم لرسوخهم في العلم ووقوفهم على حق اليقين لا يضطربون ولا يتزعزعون بل يؤمنون بهذا وبذاك على حد سواء؛ لأن كلا منهما من عند الله ربنا، ولا غرو فالجاهل في اضطراب دائم والراسخ في ثبات لازم. ومن اطلع على ينبوع الحقيقة لا تشتبه عليه المجاري فهو يعرف الحق بذاته ويرجع كل قول إليه قائلا: آمنا به كل من عند ربنا.
هذا ما قاله الأستاذ الإمام في بيان التفسير المأثور في الآية ثم قال: بينا أن المتشابه ما استأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة أو ما خالف ظاهر لفظه المراد منه وورود المتشابه بالمعنى الأول في القرآن ضروري؛ لأن من أركان الدين ومقاصد الوحي الإخبار بأحوال الآخرة، فيجب الإيمان بما جاء به الرسول من ذلك على أنه من الغيب كما نؤمن بالملائكة والجن، ونقول: إنه لا يعلم تأويل ذلك أي حقيقة ما تئول إليه هذه الألفاظ إلا الله، والراسخون في العلم وغيرهم في هذا سواء، وإنما يعرف الراسخون ما يقع تحت حكم الحس والعقل فيقفون عند حدهم ولا يتطاولون إلى معرفة حقيقة ما يخبر به الرسل عن عالم الغيب؛ لأنهم يعلمون أنه لا مجال لحسهم ولا لعقلهم فيه وإنما سبيله التسليم فيقولون: آمنا به كل من عند ربنا، فعلى هذا يكون الوقف على لفظ الجلالة لازما، وإنما خص الراسخين بما ذكر؛ لأنهم هم الذين يفرقون بين المرتبتين ما يجول فيه علمهم وما لا يجول فيه، ومن المحال أن يخلو الكتاب من هذا النوع فيكون كله محكما بالمعنى الذي يقابل المتشابه. ومن الشواهد على أن التأويل هنا بمعنى ما يئول إليه الشيء وينطبق عليه لا بمعنى ما يفسر به، قوله -تعالى-:
{ يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق } [الأعراف: 53] فتبين مما قررناه أن لا يقال على هذا: لماذا كان القرآن منه محكم ومنه متشابه؟ لأن المتشابه بهذا المعنى من مقاصد الدين فلا يلتمس له سبب؛ لأنه جاء على أصله.
(قال): وأما التفسير الثاني للمتشابه، وهو كونه ليس قاصرا على أحوال الآخرة بل يتناول غيرها من صفات الله التي لا يجوز في العقل أخذها على ظاهرها وصفات الأنبياء التي من هذا القبيل نحو قوله -تعالى-:
{ وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } [النساء: 171] فإن هذا مما يمنع الدليل العقلي السمعي من حمله على ظاهره، فهذا هو الذي يأتي الخلاف في علم الراسخين بتأويله - كما تقدم - فالذين قالوا بالنفي جعلوا حكمة تخصيص الراسخين بالتسليم والتفويض هي تمييزهم بين الأمرين وإعطاء كل حكمه كما تقدم آنفا وأما القائلون بالإثبات الذين يردون ما تشابه ظاهره من صفات الله أو أنبيائه إلى أم الكتاب الذي هو المحكم ويأخذون من مجموع المحكم ما يمكنهم من فهم المتشابه، فهؤلاء يقولون إنه ما خص الراسخين بهذا العلم إلا لبيان منع غيرهم من الخوض فيه، قال: فهذا خاص بالراسخين لا يجوز تقليدهم فيه، وليس لغيرهم التهجم عليه، وهذا خاص بما لا يتعلق بعالم الغيب.
قال وهاهنا يأتي السؤال: لم كان في القرآن متشابه لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم؟ ولم لم يكن كله محكما يستوي في فهمه جميع الناس، وهو قد نزل هاديا والمتشابه يحول دون الهداية بما يوقع اللبس في العقائد. ويفتح باب الفتنة لأهل التأويل؟ أقول: وقد ذكر الرازي هذا السؤال مفصلا، وذكر للعلماء خمسة أجوبة عنه، قال في المسألة الرابعة من مسائل الآية: إن بعض الملحدة طعن في القرآن لاشتماله على المتشابهات، وقال إنكم تقولون: إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه، وذكر شيئا من احتجاج الجبرية والقدرية وغيرهم، وقال: إن صاحب كل مذهب يعد ما دل عليه من المحكم وما يخالفه من المتشابه ويلجأ إلى التأويل وإن كان ضعيفا. (قال): أليس أنه لو جعله جليا نقيا عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض في دينه؟ ثم قال: إن العلماء ذكروا في فوائد المتشابهات وجوها ونحن ننقلها كما أوردها باختصار قليل لا يضيع شيئا من المعنى وهي:
(الوجه الأول) أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب. قال الله -تعالى-:
{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } [آل عمران: 142].
(الثاني) لو كان القرآن محكما بالكلية لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد، وكان تصريحه مبطلا لكل ما سوى ذلك المذهب، وذلك مما ينفر أرباب المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه، فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملا على المحكم وعلى المتشابه فحينئذ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يقوي مذهبه ويؤثر مقاله فحينئذ ينظر فيه جميع أصحاب المذاهب ويجتهد في التأمل فيه كل صاحب مذهب فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، فهذا الطريق يتخلص المبطل من باطله ويصل إلى الحق.
(الثالث) أن القرآن إذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل وحينئذ يتخلص من ظلمة التقليد، ويصل إلى ضياء الاستدلال والبينة.
(الرابع) لما كان القرآن مشتملا على المحكم والمتشابه افتقروا إلى تعلم طرق التأويلات وترجيح بعضها على بعض، وافتقر تعلم ذلك إلى تحصيل علوم من علم اللغة والنحو وعلم أصول الفقه.
(الخامس) وهو السبب الأقوى في هذا الباب أن القرآن كتاب اشتمل على دعوة الخواص والعوام بالكلية، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي في التعطيل، فكان الأصح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه، ويكون ذلك مخلوطا بما يدل على الحق الصريح، فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من باب المتشابهات، والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو المحكمات، فهذا ما حضرنا في هذا الباب. والله أعلم. اهـ.
أقول: إنه -رحمه اللهتعالى- لم يأت بشيء نير، ولم يحسن بيان ما قاله العلماء، وأسخف هذه الوجوه وأشدها تشوها الثاني ولا أدري كيف أجاز له عقله أن يقول: إن القرآن جاء بالمتشابهات ليستميل أهل المذاهب إلى النظر فيه وأن هذا طريق إلى الحق؟ أين كانت هذه المذاهب عند نزوله؟ ومن اهتدى من أهلها بهذه الطريقة؟ ويقرب من هذا ما قاله في بيان السبب الأقوى من دعوة العوام إلى المتشابه أولا!!! وهاك أيها القارئ ما قاله الأستاذ الإمام في بيان أجوبة العلماء وهي عنده ثلاثة:
(1) إن الله أنزل المتشابه ليمتحن قلوبنا في التصديق به، فإنه لو كان كل ما ورد في الكتاب معقولا واضحا لا شبهة فيه عند أحد من الأذكياء ولا من البلداء لما كان في الإيمان شيء من معنى الخضوع لأمر الله -تعالى- والتسليم لرسله.
(2) جعل الله المتشابه في القرآن حافزا لعقل المؤمن إلى النظر كيلا يضعف فيموت فإن السهل الجلي جدا لا عمل للعقل فيه، والدين أعز شيء على الإنسان، فإذا لم يجد فيه مجالا للبحث يموت فيه، وإذا مات فيه لا يكون حيا بغيره، فالعقل شيء واحد إذا قوي في شيء قوي في كل شيء، وإذا ضعف ضعف في كل شيء ولذلك قال: {والراسخون في العلم} ولم يقل: والراسخون في الدين؛ لأن العلم أعم وأشمل، فمن رحمته -تعالى- أن جعل في الدين مجالا لبحث العقل بما أودع فيه من المتشابه، فهو يبحث أولا في تمييز المتشابه من غيره وذلك يستلزم البحث في الأدلة الكونية والبراهين العقلية وطرق الخطاب ووجوه الدلالة ليصل إلى فهمه ويهتدي إلى تأويله. وهذا الوجه لا يأتي إلا على قول من عطف والراسخون على لفظ الجلالة، وليكن كذلك.
(3) إن الأنبياء بعثوا إلى جميع الأصناف من عامة الناس وخاصتهم سواء كانت بعثتهم لأقوامهم خاصة كالأنبياء السالفين - عليهم السلام - أو لجميع البشر كنبينا -صلى الله عليه وسلم-، فإذا كانت الدعوة إلى الدين موجهة إلى العالم والجاهل والذكي والبليد والمرأة والخادم، وكان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه بحيث يفهمه كل مخاطب عاميا كان أو خاصيا، ألا يكون في ذلك من المعاني العالية والحكم الدقيقة ما يفهمه الخاصة ولو بطريق الكناية والتعريض ويؤمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله -تعالى-، والوقوف عند حد المحكم، فيكون لكل نصيبه على قدر استعداده. مثال ذلك: إطلاق لفظ كلمة الله وروح من الله على عيسى، فالخاصة يفهمون من هذا ما لا يفهمه العامة؛ ولذلك فتن النصارى بمثل هذا التعبير إذ لم يقفوا عند حد المحكم وهو التنزيه واستحالة أن يكون لله جنس أو أم أو ولد، والمحكم عندنا في هذا قوله -تعالى-:
{ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } [آل عمران: 59] وسيأتي في هذه السورة. وأقول: وعندهم مثل قول المسيح في إنجيل يوحنا " [(17: 3)] وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ".
(قال): ومن المتشابه ما يحتمل معاني متعددة وينطبق على حالات مختلفة لو أخذ منها أي معنى وحمل على أية حالة لصح، ويوجد هذا النوع في كلام جميع الأنبياء وهو على حد قوله -تعالى-:
{ وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [سبأ: 24] ومنه إبهام القرآن لمواقيت الصلاة لحكمة، وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك في بلاد العرب المعتدلة بالأوقات الخمسة للصلوات الخمس، وما كانت العرب تعلم أن في الدنيا بلادا لا يمكن تحديد هذه المواقيت فيها، كالبلاد التي تشرق فيها الشمس نحو ساعتين لا يزيد نهار أهلها على ذلك، أشار القرآن إلى مواقيت الصلاة بقوله: { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون } [الروم: 17، 18] وسبب هذا الإبهام أن القرآن دين عام لا خاص ببلاد العرب ونحوها، فوجب أن يسهل الاهتداء به حيثما بلغ، ومثل هذا الإجمال والإبهام في مواقيت الصلاة يجعل لعقول الراسخين في العلم وسيلة للمراوحة فيه واستخراج الأحكام منه في كل مكان بحسبه. فأينما ظهرت الحقيقة وجدت لها حكما في القرآن، وهذا النوع من المتشابه من أجل نعم الله -تعالى- ولا سبيل إلى الاعتراض على اشتمال الكتاب عليه.
{وما يذكر إلا أولو الألباب} قال الأستاذ الإمام: أي وما يعقل ذلك ويفقه حكمته إلا أرباب القلوب النيرة والعقول الكبيرة، وإنما وصف الراسخون بذلك؛ لأنهم لم يكونوا راسخين إلا بالتعقل والتدبر لجميع الآيات المحكمة التي هي الأصول والقواعد، حتى إذا عرض المتشابه بعد ذلك يتسنى لهم أن يتذكروا تلك القواعد المحكمة، وينظروا ما يناسب المتشابه منها فيردونه إليه. أقول: وهذا التخريج يصدق على أحد الوجهين السابقين، وأما على القول بأن المتشابه ما كان نبأ عن عالم الغيب فهم الذين يعلمون أن قياس الشاهد على الغائب قياس بالفارق اهـ.
(فصل)
اعلم أنه ليس في كتب التفسير المتداولة ما يروي الغليل في هذه المسألة، وما ذكرناه آنفا صفوة ما قالوه، وخيره كلام الأستاذ الإمام، وقد رأينا أن نرجع بعد كتابته إلى كلام في المتشابه والتأويل لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية كنا قرأنا بعضه من قبل في تفسيره لسورة الإخلاص، فرجعنا إليه وقرأناه بإمعان، فإذا هو منتهى التحقيق والعرفان، والبيان الذي ليس وراءه بيان، أثبت فيه أنه ليس في القرآن كلام لا يفهم معناه، وأن المتشابه إضافي إذا اشتبه فيه الضعيف لا يشتبه فيه الراسخ، وأن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله -تعالى- هو ما تئول إليه تلك الآيات في الواقع ككيفية صفات الله -تعالى- وكيفية عالم الغيب من الجنة والنار وما فيهما، فلا يعلم أحد غيره -تعالى- قدرته وتعلقها بالإيجاد والإعدام وكيفية استوائه على العرش، مع أن العرش مخلوق له وقائم بقدرته، ولا كيفية عذاب أهل النار ولا نعيم أهل الجنة كما قال -تعالى- في هؤلاء:
{ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } [السجدة: 17] فليست نار الآخرة كنار الدنيا وإنما هي شيء آخر، وليست ثمرات الجنة ولبنها وعسلها من جنس المعهود لنا في هذا العالم، وإنما هو شيء آخر يليق بذلك العالم ويناسبه، وإننا نبين ذلك بالإطناب الذي يحتمله المقام مستمدين من كلام هذا الحبر العظيم ناقلين بعض ما كتبه فنقول:
إنما غلط المفسرون في تفسير التأويل في الآية؛ لأنهم جعلوه بالمعنى الاصطلاحي، وإن تفسير كلمات القرآن بالمواضعات الاصطلاحية قد كان منشأ غلط يصعب حصره. ذكر التأويل في سبع سور من القرآن - هذه السورة أولاها، والثانية: (سورة النساء) وليس فيها إلا قوله -تعالى-:
{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } [النساء: 59] فسر التأويل هاهنا مجاهد وقتادة بالثواب والجزاء، والسدي وابن زيد وابن قتيبة والزجاج بالعاقبة، وكلاهما بمعنى المآل، لكن الثاني أعم، فهو يشمل حسن المآل في الدنيا. وقد يكون التنازع في الأمور الدنيوية أكثر والرجوع فيه إلى كتاب الله ورسوله في حياته وسنته من بعده يكون مآله الوفاق والسلامة من البغضاء ولا يحتمل بحال أن يكون معنى التأويل هنا التفسير أو صرف الكلام عن ظاهره إلى غيره؛ لأن الكلام في التنازع وحسن عاقبة رده إلى الله ورسوله.
والثالثة: (سورة الأعراف) وفيها قوله -تعالى-:
{ ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون } [الأعراف: 52، 53] فسر ابن عباس تأويله هنا بتصديق وعده ووعيده؛ أي يوم يظهر صدق ما أخبر به من أمر الآخرة، وقال قتادة: تأويله ثوابه، ومجاهد: جزاؤه، والسدي: عاقبته، وابن زيد: حقيقته. وكل هذه الألفاظ متقاربة المعنى، والمراد ما يئول إليه الأمر من وقوع ما أخبر به القرآن من أمر الآخرة ولا يحتمل أن يراد به تفسيره.
الرابعة: (سورة يونس) قال -تعالى- بعد ذكر القرآن بكونه تصديق لما بين يديه ومنزها عن الافتراء والريب، ودعواهم الباطلة فيه وبعد تعجيزهم بطلب الإتيان بسورة من مثله -:
{ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } [يونس: 39] فسر أهل الأثر تأويله هنا بنحو ما تقدم؛ أي ما يئول إليه الأمر من ظهور صدقه ووقوع ما أخبر به، ولما كانت عاقبة المكذبين قبلهم الهلاك كان تأويله أن تكون عاقبتهم كعاقبة من قبلهم.
الخامسة: (سورة يوسف) جاء فيها قوله -تعالى-:
{ وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث } [يوسف: 6] وقوله حكاية عن الفتيين اللذين كانا مع يوسف في السجن: نبئنا بتأويله [يوسف: 36] أي ما رأياه في المنام. وقوله حكاية عنه: { قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما } [يوسف: 37] وقوله حكاية عن ملأ فرعون: { وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين } [يوسف: 44] وقوله حكاية عن الذي نجا من ذينك الفتيين: { أنا أنبئكم بتأويله } [يوسف: 45] وقوله حكاية لخطاب يوسف لأبيه: { يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا } [يوسف: 100] وقوله حكاية عنه: { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث } [يوسف: 101] فتأويل الأحاديث والأحلام هو الأمر الوجودي الذي تدل عليه، وهو فعل لا قول كما هو صريح في مثل قوله: { نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما } [يوسف: 37] فإخباره بالتأويل هو إخباره بالأمر الذي سيقع في المآل، وفي قوله: { هذا تأويل رؤياي من قبل } [يوسف: 100] أي هذا الذي وقع من سجود أبويه وإخوته الأحد عشر له هو الأمر الواقعي الذي آلت إليه رؤياه المذكورة في أول السورة بقوله -تعالى-: { إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } [يوسف: 4].
السادسة: (سورة الإسراء) وفيها قوله:
{ وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا } [الإسراء: 35] أي مآلا.
السابعة: (سورة الكهف 18) وفيها قوله -تعالى- حكاية عن العبد الذي أتاه الله رحمة وعلما من لدنه في خطاب موسى:
{ سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } [الكهف: 78] وقوله بعد أن نبأه بما تئول إليه تلك الأعمال التي أنكرها موسى: { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا } [الكهف: 82] فالإنباء بالتأويل إنباء بأمور عملية ستقع في المآل لا بالأقوال، فتبين من هذه الآيات أن لفظ التأويل لم يرد في القرآن إلا بمعنى الأمر العملي الذي يقع في المآل تصديقا لخبر أو رؤيا أو لعمل غامض يقصد به شيء في المستقبل، فيجب أن تفسر آية آل عمران بذلك، ولا يجوز أن يحمل التأويل فيها على المعنى الذي اصطلح عليه قدماء المفسرين وهو جعله بمعنى التفسير كما يقول ابن جرير: القول في تأويل هذه الآية كذا، ولا على ما اصطلح عليه متأخروهم من جعل التأويل عبارة عن نقل الكلام عن وضعه إلى ما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ ومثله قول أهل الأصول: التأويل صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل.
بحمل التأويل في القرآن على المعنى الاصطلاحي، تمسكت الباطنية في دعواهم إذ قالوا: إن أحدا لم يفهم القرآن في زمن التنزيل ولا بعده، وإن الله وعد بتأويله فلا بد من انتظار من يبعثه الله -تعالى- بهذا التأويل، والبابية - وهم آخر فرقة ظهرت من الباطنية - تدعي أن الباب هو ذلك الموعود به، والبهائية منهم يقولون: بل هو البهاء، وقد سمعت من دعاتهم من يحتج بقوله -تعالى-:
{ هل ينظرون إلا تأويله } [الأعراف: 53] الآية. وقد ذكرت آنفا، فقلت له تأويله ما وعد به كقوله: { فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة } [محمد: 18] وقوله: { ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون } [يس: 49] فهذا وأمثاله هو تأويله، والقرآن كله مفهوم إن اشتبه منه شيء على بعض الناس علمه غيرهم. قال ابن تيمية في تفسير سورة الإخلاص بعد كلام في ذلك ما نصه:
" والمقصود هنا أنه لا يجوز أن يكون الله أنزل كلاما لا معنى له، ولا يجوز أن يكون الرسول وجميع الأمة لا يعلمون معناه كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين، وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ سواء كان مع هذا تأويل القرآن لا يعلمه الراسخون، أو كان للتأويل معنيان يعلمون أحدهما ولا يعلمون الآخر، وإذا دار الأمر بين القول بأن الرسول كان لا يعلم معنى المتشابه من القرآن وبين أن يقال الراسخون في العلم يعلمون كان هذا الإثبات خيرا من ذلك النفي، فإن الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة وأقوال السلف، على أن جميع القرآن مما يمكن علمه وفهمه وتدبره، وهذا مما يجب القطع به، وليس معنا دليل قاطع على أن الراسخين في العلم لا يعلمون تفسير المتشابه، فإن السلف قد قال كثير منهم إنهم يعلمون تأويله، منهم مجاهد - مع جلالة قدره - والربيع بن أنس ومحمد بن جعفر بن الزبير، ونقلوا ذلك عن ابن عباس، وأنه قال: " أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله " وقول أحمد فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية، فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، وقوله عن الجهمية أنها تأولت ثلاث آيات من المتشابه، ثم تكلم على معناها، دليل على أن المتشابه عنده تعرف العلماء معناه، وأن المذموم تأويله على غير تأويله، فأما تفسيره المطابق لمعناه فهذا محمود ليس بمذموم وهذا يقتضي أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل الصحيح للمتشابه عنده، وهو التفسير في لغة السلف؛ ولهذا لم يقل أحمد ولا غيره من السلف: إن في القرآن آيات لا يعرف الرسول ولا غيره معناها بل يتلون لفظا لا يعرفون معناه.
وهذا القول اختيار كثير من أهل السنة، منهم ابن قتيبة وأبو سليمان الدمشقي وغيرهما. وابن قتيبة من المنتسبين إلى أحمد وإسحاق والمنتصرين لمذاهب السنة المشهورة، وله في ذلك مصنفات متعددة قال فيه صاحب كتاب التحديث بمناقب أهل الحديث: وهو أحد أعلام الأئمة والعلماء والفضلاء، أجودهم تصنيفا، وأحسنهم ترصيفا، له زهاء ثلاثمائة مصنف، وكان يميل إلى مذهب أحمد وإسحاق. وكان معاصرا لإبراهيم الحربي ومحمد بن نصر المروزي، وكان أهل المغرب يعظمونه ويقولون: من استجاز الوقيعة في ابن قتيبة يتهم بالزندقة، ويقولون. كل بيت ليس فيه شيء من تصنيفه لا خير فيه. قلت: ويقال هو لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة، فإنه خطيب السنة، كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة، وقد نقل عن ابن عباس أيضا القول الآخر، ونقل ذلك عن غيره من الصحابة وطائفة من التابعين، ولم يذكر هؤلاء على قولهم نصا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصارت مسألة نزاع، فترد إلى الله والرسول. وأولئك احتجوا بأنه قرن ابتغاء الفتنة بابتغاء تأويله، وبأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذم مبتغي المتشابه وقال: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذروهم ولهذا ضرب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- صبيغ بن عسل لما سأله عن المتشابه، ولأنه قال: {والراسخون في العلم يقولون} ولو كانت الواو واو عطف مفرد لا واو الاستئناف التي تعطف جملة لقال: ويقولون.
فأجاب الآخرون عن هذا بأن الله قال:
{ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا } [الحشر: 8] ثم قال: { والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون } [الحشر: 9] ثم قال: { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } [الحشر: 10] قالوا: فهذا عطف مفرد على مفرد والفعل حال من المعطوف فقط. وهو نظير قوله: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا}.
" قالوا: ولأنه لو كان المراد مجرد الوصف بالإيمان لم يخص الراسخين، بل قال: والمؤمنون يقولون: آمنا به، فإن كل مؤمن يجب عليه أن يؤمن به، فلما خص الراسخين في العلم بالذكر علم أنهم امتازوا بعلم تأويله فعلموه؛ لأنهم عالمون، وآمنوا به؛ لأنهم يؤمنون. وكان إيمانهم به مع العلم أكمل في الوصف، وقد قال عقب ذلك: {وما يذكر إلا أولو الألباب} وهذا يدل على أن هنا تذكرا يختص به أولو الألباب فإن كان ما ثم إلا إيمان بالألفاظ فلا يذكر لما يدلهم على ما أريد بالمتشابه ونظير هذا قوله في الآية الأخرى {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} فلما وصفوهم بالرسوخ في العلم وأنهم يؤمنون قرن بهم المؤمنين، فلو أريد هنا مجرد الإيمان لقال: والراسخون في العلم والمؤمنون يقولون آمنا به، كما قال في تلك الآية لما كان مراده مجرد الاختبار بالإيمان جمع بين الطائفتين."
قالوا: وأما الذم فإنما وقع على من يتبع المتشابه لابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وهو حال أهل القصد الفاسد الذين يريدون القدح في القرآن، فلا يطلبون إلا المتشابه لإفساد القلوب وهي فتنتها به ويطلبون تأويله، وليس طلبهم لتأويله لأجل العلم والاهتداء بل لإجل الفتنة، وكذلك صبيغ بن عسل ضربه عمر؛ لأن قصده بالسؤال عن المتشابه كان لابتغاء الفتنة. وهذا كمن يورد أسئلة إشكالات على كلام الغير ويقول: ماذا أريد بكذا؟ وغرضه التشكيك والطعن فيه، ليس غرضه معرفة الحق، وهؤلاء هم الذين عناهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله:
"إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه" ولهذا يتبعون أي يطلبون المتشابه ويقصدونه دون المحكم مثل المستتبع للشيء الذي يتحراه ويقصده وهذا فعل من قصده الفتنة، وأما من سأل عن معنى المتشابه ليعرفه ويزيل ما عرض له من الشبهة وهو عالم بالمحكم متبع له مؤمن بالمتشابه لا يقصد فتنة، فهذا لم يذمه الله. وهكذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - يقولون مثل الأثر المعروف الذي رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: "حدثنا يزيد بن عبد ربه ثنا بقية ثنا عتبة بن أبي حكيم ثني عمارة بن راشد الكنائي عن زياد عن معاذ بن جبل قال: يقرأ القرآن رجلان فرجل له فيه هوى ونية يفليه فلي الرأس يلتمس أن يجد فيه أمرا يخرج به على الناس، أولئك شرار أمتهم، أولئك يعمي الله عليهم سبل الهدى، ورجل يقرؤه ليس له فيه هوى ولا نية يفليه فلي الرأس" ، فما تبين له منه عمل به وما اشتبه عليه وكله إلى الله، ليتفقهن أولئك فقها ما فقهه قوم قط، حتى لو أن أحدهم مكث عشرين سنة فليبعثن الله له من يبين له الآية التي أشكلت عليه أو يفهمه إياها من قبل نفسه " قال بقية: استهدى ابن عيينة حديث عتبة هذا، فهذا معاذ يذم من اتبع المتشابه لقصد الفتنة، وأما من قصده الفقه فقد أخبر أن الله لا بد أن يفقهه المتشابه فقها ما فقهه قوم قط.
" قالوا: والدليل على ذلك أن الصحابة كانوا إذا عرض لأحدهم شبهة في آية أو حديث سأل عن ذلك كما سأل عمر فقال: " ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به " وسأله أيضا عمر: " ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنا؟ " ولما نزل قوله:
{ ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } [الأنعام: 82] شق عليهم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ حتى بين لهم، ولما نزل قوله: { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } [البقرة: 284] شق عليهم حتى بين لهم الحكمة في ذلك، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: من نوقش الحساب عذب قالت عائشة: " ألم يقل الله: فسوف يحاسب حسابا يسيرا؟ " قال: إنما ذلك العرض قالوا: والدليل على ما قلناه إجماع السلف، فإنهم فسروا جميع القرآن. وقال مجاهد: " عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عندها " وتلقوا ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا. وكلام أهل التفسير من الصحابة والتابعين شامل لجميع ألفاظ القرآن إلا ما قد يشكل على بعضهم فيقف فيه لا لأن أحدا من الناس لا يعلمه. لكن لأنه هو لم يعلمه. وأيضا فإن الله قد أمر بتدبر القرآن مطلقا ولم يستثن منه شيئا لا يتدبر، ولا قال: لا تدبروا المتشابه. والتدبر بدون الفهم ممتنع، ولو كان من القرآن ما لا يتدبر لم يعرف، فإن الله لم يميز المتشابه بحد ظاهر حتى يجتنب تدبره، وهذا أيضا مما يحتجون به ويقولون: المتشابه أمر نسبي إضافي، فقد يشتبه على هذا ما لا يشتبه على غيره، قال: لأن الله أخبر أن القرآن بيان وهدى وشفاء ونور، لم يستثن منه شيئا عن هذا الوصف، وهذا ممتنع بدون فهم المعنى.
" قالوا: ولأن من العظيم أن يقال إن الله أنزل على نبيه كلاما لم يكن يفهم معناه لا هو ولا جبريل، بل وعلى قول هؤلاء كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحدث بأحاديث الصفات والقدر والمعاد ونحو ذلك مما هو نظير متشابه القرآن عندهم، ولم يكن يعرف معنى ما يقوله. وهذا لا يظن بأقل الناس، وأيضا فالكلام إنما المقصود به الإفهام، فإذا لم يقصد به ذلك كان عبثا وباطلا والله -تعالى- قد نزه نفسه عن فعل الباطل والعبث، فكيف يقول الباطل والعبث ويتكلم بكلام نزله على خلقه لا يريد به إفهامهم؟ وهذا من أقوى حجج الملحدين، وأيضا فما في القرآن آية إلا وقد تكلم الصحابة والتابعون لهم في معناها وبينوا ذلك، وإذا قيل: فقد يختلفون في آيات الأمر والنهي مما اتفق المسلمون على أن الراسخين في العلم يعلمون معناها، وهذا أيضا مما يدل على أن الراسخين في العلم يعلمون تفسير المتشابه، فإن المتشابه قد يكون في آيات الأمر والنهي كما يكون في آيات الخير، وتلك مما اتفق العلماء على معرفة الراسخين لمعناها فكذلك الأخرى، فإنه على قول النفاة لم يعلم معنى للمتشابه إلا الله لا ملك ولا رسول ولا عالم، وهذا خلاف إجماع المسلمين في متشابه الأمر والنهي.
" وأيضا فلفظ التأويل يكون للمحكم كما يكون للمتشابه كما دل القرآن والسنة وأقوال الصحابة على ذلك وهم يعلمون معنى المحكم، فكذلك معنى المتشابه، وأي فضيلة في المتشابه حتى ينفرد الله بعلم معناه والمحكم أفضل منه، وقد بين معناه لعباده، فأي فضيلة في المتشابه حتى يستأثر الله بعلم معناه؟ وما استأثر الله بعلمه كوقت الساعة لم ينزل خطابا ولم يذكر في القرآن آية تدل على وقت الساعة، ونحن نعلم أن الله استأثر بأشياء لم يطلع عباده عليها، وإنما النزاع في كلام أنزله وأخبر أنه هدى وبيان وشفاء، وأمر بتدبره، ثم يقال: إن منه ما لا يعرف معناه إلا الله، ولم يبين الله ولا رسوله ذلك القدر الذي لا يعرف أحد معناه؟ ولهذا صار كل من أعرض عن آيات لا يؤمن بمعناها يجعلها من المتشابه بمجرد دعواه، ثم سبب نزول الآية قصة أهل نجران وقد احتجوا بقوله: (إنا) و (نحن) وبقوله (كلمة منه)، (وروح منه) وهذا قد اتفق المسلمون على معرفة معناه، فكيف يقال: إن المتشابه لا يعرف معناه لا الملائكة ولا الأنبياء ولا أحد من السلف وهو من كلام الله الذي أنزله إلينا وأمرنا أن نتدبره ونعقله وأخبر أنه بيان وهدى وشفاء ونور؟ وليس المراد من الكلام إلا معانيه، ولولا المعنى لم يجز التكلم بلفظ لا معنى له، وقد قال الحسن: " ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيماذا أنزلت وماذا عني بها ".
" ومن قال: إن سبب نزول الآية سؤال اليهود عن حروف المعجم في (الم) بحساب الجمل فهذا نقل باطل، أما أولا: فلأنه من رواية الكلبي. وأما ثانيا: فهذا قد قيل إنهم قالوه في أول مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وسورة آل عمران إنما نزل صدرها متأخرا لما قدم وفد نجران بالنقل المستفيض المتواتر، وفيها فرض الحج وإنما فرض سنة تسع أو عشر ولم يفرض في أول الهجرة باتفاق المسلمين. وأما ثالثا: فلأن حروف المعجم ودلالة الحرف على بقاء هذه الأمة ليس هو من تأويل القرآن الذي استأثر الله بعلمه، بل إما أن يقال: إنه ليس مما أراده الله بكلامه فلا يقال إنه انفرد بعلمه، بل دعوى دلالة الحروف على ذلك باطلة، وإما أن يقال: بل يدل عليه وقد علم بعض الناس ما يدل عليه، وحينئذ فقد علم الناس بذلك، أما دعوى دلالة القرآن على ذلك وأن أحدا لا يعلمه فهذا هو الباطل، وأيضا فإذا كانت الأمور العلمية التي أخبر الله بها في القرآن لا يعرفها الرسول كان هذا من أعظم قدح الملاحدة فيه وكان حجة لما يقولونه من أنه كان لا يعرف الأمور العلمية أو أنه كان يعرفها ولم يبينها، بل هذا القول يقتضي أنه لم يكن يعلمها فإن ما لا يعلمه إلا الله لا يعلمه النبي ولا غيره.
" وبالجملة فالدلائل الكثيرة توجب القطع ببطلان قول من يقول: إن في القرآن آيات لا يعلم معناها الرسول ولا غيره. نعم قد يكون في القرآن آيات لا يعلم معناها كثير من العلماء فضلا عن غيرهم وليس ذلك في آية معينة بل قد يشكل على هذا ما يعرفه هذا. وذلك تارة يكون لغرابة اللفظ، وتارة لاشتباه المعنى بغيره، وتارة لشبهة في نفس الإنسان تمنعه من معرفة الحق، وتارة لعدم التدبر التام، وتارة لغير ذلك من الأسباب، فيجب القطع بأن قوله: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به} أن الصواب قول من يجعله معطوفا ويجعل الواو لعطف مفرد أو يكون كلا القولين حقا وهي قراءتان، والتأويل المنفي غير التأويل المثبت، وإن كان الصواب هو قول من يجعلها واو استئناف فيكون التأويل المنفي علمه عن غير الله هو الكيفيات التي لا يعلمها غيره. وهذا فيه نظر، وابن عباس جاء عنه أنه قال: " أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله " وجاء عنه أن الراسخين لا يعلمون تأويله، وجاء عنه أنه قال: " التفسير على أربعة أوجه، تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله ومن ادعى علمه فهو كاذب " وهذا القول يجمع القولين ويبين أن العلماء يعلمون من تفسيره ما لا يعلمه غيرهم وأن فيه ما لا يعلمه إلا الله.
" فأما من جعل الصواب قول من جعل الوقف عند قوله: {إلا الله} وجعل التأويل بمعنى التفسير فهذا خطأ، وأما التأويل بالمعنى الثالث وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فهذا الاصطلاح لم يكن بعد عرف في عهد الصحابة بل ولا التابعين بل ولا الأئمة الأربعة ولا كان التكلم بهذا الاصطلاح معروفا في القرون الثلاثة بل ولا علمت أحدا فيهم خص لفظ التأويل بهذا، ولكن لما صار تخصيص لفظ التأويل بهذا شائعا في عرف كثير من المتأخرين فطنوا أن التأويل في الآية هذا معناه صاروا يعتقدون أن لمتشابه القرآن معاني تخالف ما يفهم منه، وفرقوا دينهم بعد ذلك وصاروا شيعا، والمتشابه المذكور الذي كان سبب نزول الآية لا يدل ظاهره على معنى فاسد، وإنما الخطأ في فهم السامع. نعم قد يقال: إن مجرد هذا الخطاب لا يبين كمال المطلوب، ولكن فرق بين عدم دلالته على المطلوب وبين دلالته على نقيض المطلوب؛ فهذا الثاني هو المنفي، بل وليس في القرآن ما يدل على الباطل ألبتة كما قد بسط في موضعه ولكن كثيرا من الناس يزعم أن لظاهر الآية معنى، إما معنى يعتقده وإما معنى باطلا فيحتاج إلى تأويله ويكون ما قاله باطلا لا تدل الآية على معتقده ولا على المعنى الباطل. وهذا كثير جدا، وهؤلاء هم الذين يجعلون القرآن كثيرا ما يحتاج إلى التأويل المحدث وهو صرف اللفظ عن مدلوله إلى خلاف مدلوله.
" ومما يحتج به من قال: الراسخون في العلم يعلمون التأويل ما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا له وقال:
"اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" فقد دعا له بعلم التأويل مطلقا، وابن عباس فسر القرآن كله. قال مجاهد: " عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أقفه عند كل آية وأسأله عنها وكان يقول: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله " وأيضا فالنقول متواترة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه تكلم في جميع معاني القرآن من الأمر والخبر؛ فله من الكلام في الأسماء والصفات والوعد والوعيد والقصص ومن الكلام في الأمر والنهي والأحكام ما يبين أنه كان يتكلم في جميع معاني القرآن، وأيضا فقد قال ابن مسعود: " ما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيماذا أنزلت " وأيضا فإنهم متفقون على أن آيات الأحكام يعلم تأويلها وهي نحو خمسمائة آية وسائر القرآن خبر عن الله وأسمائه وصفاته، أو عن اليوم الآخر والجنة والنار أو عن القصص وعاقبة أهل الإيمان وعاقبة أهل الكفر، فإن كان هذا هو المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله، فجمهور القرآن لا يعرف أحد معناه لا الرسول ولا أحد من الأمة، ومعلوم أن هذا مكابرة ظاهرة، وأيضا فمعلوم أن العلم بتأويل الرؤيا أصعب من العلم بتأويل الكلام الذي يخبر به، فإن دلالة الرؤيا على تأويلها دلالة خفية غامضة لا يهتدي لها جمهور الناس، بخلاف دلالة لفظ الكلام على معناه، فإذا كان الله قد علم عباده تأويل الأحاديث التي يرونها في المنام فلأن يعلمهم تأويل الكلام العربي المبين الذي ينزله على أنبيائه بطريق الأولى والأحرى. قال يعقوب ليوسف: { وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث } [يوسف: 6] وقال يوسف: { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث } [يوسف: 101] وقال: { لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما } [يوسف: 37] "
وأيضا فقد ذم الله الكفار بقوله:
{ أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } [يونس: 38، 39] وقال: { ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون } [النمل: 83، 84] وهذا ذام لمن كذب بما لم يحط بعلمه، فما قاله الناس من الأقوال المختلفة في تفسير القرآن وتأويله ليس لأحد أن يصدق بقول دون قول بلا علم ولا يكذب بشيء منها إلا أن يحيط بعلمه. وهذا لا يمكن إلا إذا عرف الحق الذي أريد بالآية، فيعلم أن ما سواه باطل، فيكذب بالباطل الذي أحاط بعلمه، وأما إذا لم يعرف معناها ولم يحط بشيء منها علما فلا يجوز له التكذيب بشيء منها مع أن الأقوال المتناقضة بعضها باطل قطعا، ويكون حينئذ المكذب بالقرآن كالمكذب بالأقوال المتناقضة، والمكذب بالحق كالمكذب بالباطل؛ وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم.
" وأيضا فإنه إن بني على ما يعتقده من أنه لا يعلم معاني الآيات الخبرية إلا الله لزمه أن يكذب كل من احتج بآية خبرية من القرآن على شيء من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر، ومن تكلم في تفسير ذلك، وكذلك يلزم مثل ذلك في أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإن قال: المتشابه هو بعض الخبريات لزمه أن يبين فصلا يتبين به ما يجوز أن يعلم معناه من آيات القرآن وما لا يجوز أن يعلم معناه، بحيث لا يجوز أن يعلم معناه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا أحد من الصحابة ولا غيرهم. ومعلوم أنه لا يمكن لأحد ذكر حد فاصل بين ما يجوز أن يعلم معناه بعض الناس وبين ما لا يجوز أن يعلم معناه أحد، ولو ذكر ما ذكر انتقض عليه، فعلم أن المتشابه ليس هو الذي لا يمكن لأحد معرفة معناه وهذا دليل مستقل في المسألة.
"وأيضا فقوله:
{ لم يحيطوا بعلمه } [يونس: 39] و { أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما } [النمل: 84] ذم لهم على عدم الإحاطة مع التكذيب، ولو كان الناس كلهم مشتركين في عدم الإحاطة بعلم المتشابه لم يكن في ذمهم بهذا الوصف فائدة، ولكان الذم على مجرد التكذيب، فإن هذا بمنزلة أن يقال: أكذبتم بما لم تحيطوا به علما، ولا يحيط به علما إلا الله؟ ومن كذب بما لا يعلمه إلا الله كان أقرب إلى العذر من أن يكذب بما يعلمه الناس، فلو لم يحط به علما الراسخون كان ترك هذا الوصف أقرب في ذمهم من ذكره. " ويتبين هذا بوجه آخر هو دليل في المسألة: وهو أن الله ذم الزائغين بالجهل وسوء القصد، فإنهم يقصدون المتشابه يبتغون تأويله ولا يعلم تأويله إلا الراسخون في العلم وليسوا منهم، وهم يقصدون الفتنة لا يقصدون العلم والحق. وهذا كقوله -تعالى-: { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } [الأنفال: 23] فإن المعنى بقوله: أسمعهم أفهمهم القرآن، يقول: لو علم الله فيهم حسن قصد وقبول للحق لأفهمهم القرآن، لكن لو أفهمهم لتولوا عن الإيمان وقبول الحق لسوء قصدهم، فهم جاهلون ظالمون، كذلك الذين في قلوبهم زيغ هم مذمومون بسوء القصد مع طلب علم ما ليسوا من أهله، وليس إذا عيب هؤلاء على العلم ومنعوه يعاب من حسن قصده وجعله الله من الراسخين في العلم.
" فإن قيل: فأكثر السلف على أن الراسخين في العلم لا يعلمون التأويل وكذلك أكثر أهل اللغة، يروى هذا عن ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وعروة وقتادة وعمر بن عبد العزيز والفراء وأبي عبيد وثعلب وابن الأنباري، قال ابن الأنباري في قراءة عبد الله: إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم، وفي قراءة أبي وابن عباس: ويقول الراسخون في العلم. قال: وقد أنزل الله في كتابه أشياء استأثر بعلمها كقوله -تعالى-:
{ قل إنما علمها عند الله } [الأعراف: 187] وقوله: { وقرونا بين ذلك كثيرا } [الفرقان: 38] فأنزل المحكم ليؤمن به المؤمن فيسعد، ويكفر به الكافر فيشقى. قال ابن الأنباري: والذي يروي القول الآخر عن مجاهد هو ابن أبي نجيح ولا تصح روايته التفسير عن مجاهد، فيقال: قول القائل إن أكثر السلف على هذا قول بلا علم، فإنه لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه قال: إن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه، بل الثابت عن الصحابة أن المتشابه يعلمه الراسخون، وما ذكر من قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب ليس لها إسناد يعرف حتى يحتج بها. والمعروف عن ابن مسعود أنه كان يقول: " ما في كتاب الله آية إلا وأنا أعلم فيماذا أنزلت " وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن: عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما: " أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل " وهذا أمر مشهور رواه الناس عامة: أهل الحديث والتفسير، وله إسناد معروف بخلاف ما ذكر من قراءتهما، وكذلك ابن عباس قد عرف عنه أنه كان يقول: " أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله " وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه دعا له بعلم تأويل الكتاب، فكيف لا يعلم التأويل؟ مع أن قراءة عبد الله " إن تأويله إلا عند الله " لا تناقض هذا القول، فإن نفس التأويل لا يأتي به إلا الله كما قال -تعالى-: { هل ينظرون إلا تأويله } [الأعراف: 53] وقال: { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } [يونس: 39] وقد اشتهر عن عامة السلف أن الوعد والوعيد من المتشابه، وتأويل ذلك هو مجيء الموعود به، وذلك عند الله لا يأتي به إلا هو، وليس في القرآن: إن علم تأويله إلا عند الله. كما قال في الساعة: { يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء } [الأعراف: 187، 188] وكذلك لما قال فرعون لموسى: { فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } [طه: 51، 52] فلو كانت قراءة ابن مسعود نفي العلم عن الراسخين لكانت: إن علم تأويله إلا عند الله، لم يقرأ (إن تأويله إلا عند الله). فإن هذا حق بلا نزاع.
" وأما القراءة الأخرى المروية عن أبي وابن عباس فقد نقل عن ابن عباس ما يناقضها، وأخص أصحابه بالتفسير مجاهد وعلى تفسير مجاهد يعتمد أكثر الأئمة كالثوري والشافعي وأحمد بن حنبل والبخاري. قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، والشافعي في كتبه أكثر الذي ينقله عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وكذلك البخاري في صحيحه يعتمد على هذا التفسير، وقول القائل لا تصح رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد: جوابه أن تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد من أصح التفاسير، بل ليس بأيدي أهل التفسير كتاب في التفسير أصح من تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد، إلا أن يكون نظيره في الصحة ثم معه ما يصدقه، وهو قوله: عرضت المصحف على ابن عباس أقفه عند كل آية وأسأله عنها، وأيضا فأبي بن كعب -رضي الله عنه- قد عرف أنه كان يفسر ما تشابه من القرآن كما فسر قوله:
{ فأرسلنا إليها روحنا } [مريم: 17] وفسر قوله: { الله نور السماوات والأرض } [النور: 35] وقوله: { وإذ أخذ ربك } [الأعراف: 172] ونقل ذلك معروف عنه بالإسناد أثبت من نقل هذه القراءة التي لا يعرف لها إسناد، وقد كان يسأل عن المتشابه من معنى القرآن فيجيب عنه كما سأله عمر. وسئل عن ليلة القدر (كذا).
وأما قوله: إن الله أنزل المجمل ليؤمن به المؤمن فيقال: هذا حق، لكن هل في الكتاب والسنة أو قول أحد السلف أن الأنبياء والملائكة والصحابة لا يفهمون ذلك الكلام المجمل، أم العلماء متفقون على أن المجمل في القرآن يفهم معناه ويعرف ما فيه من الإجمال كما مثل به من وقت الساعة؟ فقد علم المسلمون كلهم معنى الكلام الذي أخبر الله به عن الساعة وأنها آتية لا محالة وأن الله انفرد بعلم وقتها فلم يطلع على ذلك أحدا، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سأله السائل عن الساعة وهو في الظاهر أعرابي لا يعرف قال له: متى الساعة؟ قال:
"ما المسئول عنه بأعلم من السائل" ولم يقل: إن الكلام الذي نزل في ذكرها لا يفهمه أحد، بل هذا خلاف إجماع المسلمين بل والعقلاء. فإن إخبار الله عن الساعة وأشراطها كلام بين واضح يفهم معناه، وكذلك قوله: { وقرونا بين ذلك كثيرا } [الفرقان: 38] قد علم المراد بهذا الخطاب، وأن الله خلق قرونا كثيرة لا يعلم عددهم إلا الله كما قال: { وما يعلم جنود ربك إلا هو } [المدثر: 31] فأي شيء من هذا مما يدل على أن ما أخبر الله به من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر لا يفهم معناه أحد لا من الملائكة والأنبياء ولا الصحابة ولا غيرهم؟ وأما ما ذكر عن عروة، فعروة قد عرف من طريقه أنه كان لا يفسر عامة آي القرآن إلا آيات قليلة رواها عن عائشة، ومعلوم أنه إذا لم يعرف عروة التفسير لم يلزم أنه لا يعرفه غيره من الخلفاء الراشدين وعلماء الصحابة كابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وغيرهم.
" وأما اللغويون الذين يقولون: إن الراسخين لا يعلمون معنى المتشابه فهم متناقضون في ذلك، فإن هؤلاء كلهم يتكلمون في تفسير كل شيء في القرآن ويتوسعون في القول في ذلك حتى ما منهم أحد إلا وقد قال في ذلك أقوالا لم يسبق إليها وهي خطأ، وابن الأنباري الذي بالغ في نصر ذلك القول هو من أكثر الناس كلاما في معاني الآي المتشابهات يذكر فيها من الأقوال ما لم ينقل عن أحد من السلف، ويحتج لما يقوله في القرآن بالشاذ من اللغة، وهو قصده بذلك الإنكار على ابن قتيبة، وليس هو أعلم بمعاني القرآن والحديث ولا أتبع للسنة من ابن قتيبة ولا أفقه في ذلك، وإن كان ابن الأنباري من أحفظ الناس للغة، لكن باب فقه النصوص غير باب حفظ ألفاظ اللغة، وقد نقم هو وغيره على ابن قتيبة كونه رد على أبي عبيد أشياء من تفسير غريب الحديث، وابن قتيبة قد اعتذر عن ذلك وسلك في ذلك مسلك أمثاله من أهل العلم، وهو وأمثاله يصيبون تارة ويخطئون أخرى، فإن كان المتشابه لا يعلم معناه إلا الله فهم كلهم يجترئون على الله يتكلمون في شيء لا سبيل إلى معرفته، وإن كان ما بينوه من معاني المتشابه قد أصابوا فيه ولو في كلمة واحدة ظهر خطؤهم في قولهم: إن المتشابه لا يعلم معناه إلا الله، ولا يعلمه أحد من المخلوقين، فليختر من ينصر قولهم هذا أو ذاك، ومعلوم أنهم أصابوا في شيء كثير مما يفسرون به المتشابه وأخطئوا في بعض ذلك؛ فيكون تفسيرهم لهذه الآية مما أخطئوا فيه العلم اليقيني فإنهم أصابوا في كثير من تفسير المتشابه، وكذلك ما نقل عن قتادة من أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه، فكتابه في التفسير من أشهر الكتب، ونقله ثابت عنه من رواية معمر عنه، ومن رواية سعيد بن أبي عروبة عنه؛ ولهذا كان المصنفون في التفسير عامتهم يذكرون قوله لصحة النقل. ومع هذا يفسر القرآن كله محكمه ومتشابهه.
" والذي اقتضى شهرة القول عن أهل السنة بأن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله ظهور التأويلات الباطلة من أهل البدع والجهمية والقدرية من المعتزلة وغيرهم، فصار أولئك يتكلمون في تأويل القرآن برأيهم الفاسد وهذا أصل معروف لأهل البدع أنهم يفسرون القرآن برأيهم العقلي وتأويلهم اللغوي، فتفاسير المعتزلة مملوءة بتأويل النصوص المثبتة للصفات والقدر على غير ما أراد الله ورسوله، فإنكار السلف والأئمة لهذه التأويلات الفاسدة كما قال الإمام أحمد فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله.
" فهذا الذي أنكره السلف والأئمة من التأويل فجاء بعدهم قوم انتسبوا إلى السنة بغير خبرة تامة وبما يخالفها وظنوا أن المتشابه لا يعلم معناه إلا الله فظنوا أن معنى التأويل هو معناه في اصطلاح المتأخرين، وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى المرجوح فصاروا في موضع يقولون وينصرون أن المتشابه لا يعلم معناه إلا الله ثم يتناقصون في ذلك من وجوه (أحدها): أنهم يقولون: النصوص تجرى على ظواهرها ولا يزيدون على المعنى الظاهر منها، ولهذا يبطلون كل تأويل يخالف الظاهر ويقررون المعنى الظاهر ويقولون مع هذا: إن له تأويلا لا يعلمه إلا الله، والتأويل عندهم ما يناقض الظاهر، فكيف يكون له تأويل يخالف الظاهر؟ وقد قرر معناه الظاهر وهذا مما أنكره عليهم مناظروهم حتى أنكر ابن عقيل على شيخه القاضي أبي يعلى. (ومنها) أنا وجدنا هؤلاء كلهم لا يحتج عليهم بنص يخالف قولهم لا في مسألة أصلية ولا فرعية إلا تأولوا ذلك النص بتأويلات متكلفة مستخرجة من جنس تحريف الكلم عن مواضعه من جنس تأويلات الجهمية والقدرية التي تخالفهم، فأين هذا من قولهم: لا يعلم معاني النصوص المتشابهة إلا الله؟ واعتبر هذا بما تجده في كتبهم من مناظرتهم للمعتزلة على قولهم بالآيات التي تناقض قول هؤلاء، مثل أن يحتجوا بقوله:
{ والله لا يحب الفساد } [البقرة: 205]، { ولا يرضى لعباده الكفر } [الزمر: 7]، { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [الذاريات: 56]، { لا تدركه الأبصار } [الأنعام: 103]، { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } [يس: 82]، { وإذ قال ربك للملائكة } [البقرة: 30] ونحو ذلك كيف تجدهم يتأولون هذه النصوص بتأويلات غالبها فاسد وإن كان في بعضها حق؟ فإن كان ما تأولوه حقا دل على أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه، فظهر تناقضهم وإن كان باطلا فذلك أبعد لهم.
" وهذا أحمد بن حنبل إمام أهل السنة الصابر في المحنة الذي قد صار للمسلمين معيارا يفرقون به بين أهل السنة والبدعة، لما صنف كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، تكلم في معاني المتشابه الذي اتبعه الزائغون ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله آية آية، وبين معناها وفسرها ليبين فساد تأويل الزائغين، واحتج على أن الله يرى، وأن القرآن غير مخلوق، وأن الله فوق العرش، بالحجج العقلية والسمعية، ورد ما احتج به النفاة من الحجج العقلية والسمعية، وبين معاني الآيات التي سماها هو متشابهة، وفسرها آية آية. وكذلك لما ناظروه واحتجوا عليه بالنصوص جعل يفسرها آية آية وحديثا حديثا، ويبين فساد ما تأولها عليه الزائغون، ويبين هو معناها، ولم يقل أحمد إن هذه الآيات والأحاديث لا يفهم معناها إلا الله ولا قال أحد له ذلك، بل الطوائف كلها مجتمعة على إمكان معرفة معناها لكن يتنازعون في المراد كما يتنازعون في آيات الأمر والنهي وكذلك تفسير المتشابه من الآيات والأحاديث التي يحتج بها الزائغون من الخوارج وغيرهم كقوله -صلى الله عليه وسلم-: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب الخمر حين يشرب وهو مؤمن وأمثال ذلك، ويبطل قول المرجئة والجهمية وقول الخوارج والمعتزلة، وكل هذه الطوائف تحتج بنصوص المتشابه على قولها، ولم يقل أحد لا من أهل السنة ولا من هؤلاء لما يستدل به هو أو يستدل به عليه منازعه: هذه آيات وأحاديث لا يعلم معناها أحد من البشر، فأمسكوا عن الاستدلال بها، وكان الإمام أحمد ينكر طريقة أهل البدع الذين يفسرون القرآن برأيهم وتأويلهم من غير استدلال بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأقوال الصحابة والتابعين الذين بلغهم الصحابة معاني القرآن كما بلغوهم ألفاظه ونقلوا هذا كما نقلوا ذاك، ولكن أهل البدع يتأولون النصوص بتأويلات تخالف مراد الله ورسوله، ويدعون أن هذا هو التأويل الذي يعلمه الراسخون، وهم مبطلون في ذلك لا سيما تأويلات القرامطة والباطنية الملاحدة، وكذلك أهل الكلام المحدث من الجهمية والقدرية وغيرهم، ولكن هؤلاء يعترفون بأنهم لا يعلمون التأويل، وإنما غايتهم أن يقولوا: ظاهر هذه الآية غير مراد، ولكن يحتمل أن يراد كذا وأن يراد كذا، ولو تأولها الواحد منهم بتأويل معين فهو لا يعلم أنه مراد الله ورسوله، بل يجوز أن يكون مراد الله ورسوله عندهم غير ذلك كالتأويلات التي يذكرونها في نصوص الكتاب كما يذكرونه في قوله: {وجاء ربك والملك صفا صفا} [الفجر: 22] " وينزل ربنا "
{ و الرحمن على العرش استوى } [طه: 2]، { وكلم الله موسى تكليما } [النساء: 164]، و { غضب الله عليهم } [الفتح: 6]، { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } [يس: 82] وأمثال ذلك من النصوص، فإن غاية ما عندهم يحتمل أن يراد به كذا ويجوز كذا ونحو ذلك، وليس هذا علما بالتأويل، وكذلك كل من ذكر في نص أقوالا واحتمالات ولم يعرف المراد فإنه لم يعرف تفسير ذلك وتأويله، وإنما يعرف ذلك من عرف المراد.
" ومن زعم من الملاحدة أن الأدلة السمعية لا تفيد العلم فمضمون مدلولاته لا يعلم أحد تفسير المحكم ولا تفسير المتشابه ولا تأويل ذلك. وهذا إقرار منه على نفسه بأنه ليس من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويل المتشابه فضلا عن تأويل المحكم، فإذا انضم إلى ذلك أن يكون كلامهم في العقليات فيه من السفسطة والتلبيس ما لا يكون معه دليل على الحق لم يكن عند هؤلاء لا معرفة بالسمعيات ولا بالعقليات، وقد أخبر الله عن أهل النار أنهم قالوا:
{ لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } [الملك: 10] ومدح الذين إذا ذكروا بآياته لم يخروا عليها صما وعميانا، والذين يفقهون ويعقلون. وذم الذين لا يفهمون ولا يعقلون في غير موضع من كتابه، وأهل البدع المخالفون للكتاب والسنة يدعون العلم والعرفان والتحقيق، وهم من أجهل الناس بالسمعيات والعقليات، وهم يجعلون ألفاظا لهم مجملة متشابهة تتضمن حقا وباطلا يجعلونها هي الأصول المحكمة، ويجعلون ما عارضها من نصوص الكتاب والسنة من المتشابه الذي لا يعلم معناه عندهم إلا الله وما يتأولونه بالاحتمالات لا يفيد، فيجعلون البراهين شبهات، والشبهات براهين كما قد بسط ذلك في موضع آخر ".
وقد نقل القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد أنه قال: " المحكم: ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان، والمتشابه ما احتاج إلى بيان، وكذلك قال الإمام أحمد في رواية. وعن الشافعي قال: المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا، والمتشابه: ما احتمل من التأويل وجوها. وكذلك قال الإمام أحمد، وكذلك قال ابن الأنباري: المحكم ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا والمتشابه الذي تعتوره التأويلات ". فيقال حينئذ: فجميع الأمة سلفها وخلفها يتكلمون في معاني القرآن التي تحتمل التأويلات، وهؤلاء الذين يفسرون أن الراسخين في العلم لا يعلمون معنى المتشابه هم من أكثر الناس كلاما فيه. والأئمة كالشافعي وأحمد ومن قبلهم كلهم يتكلمون فيما يحتمل معاني ويرجحون بعضها على بعض بالأدلة في جميع مسائل العلم الأصولية والفروعية لا يعرف عن عالم من علماء المسلمين أنه قال عن نص احتج به محتج في مسألة: إن هذا لا يعرف أحد معناه فلا يحتج به، ولو قال أحد ذلك لقيل له مثل ذلك، وإذا ادعى في مسائل النزاع المشهورة بين الأئمة أن نصه محكم يعلم معناه، وأن النص الآخر متشابه لا يعلم أحد معناه قوبل بمثل هذه الدعوى."
وهذا بخلاف قول القائل: إن من المنصوص ما معناه جلي واضح ظاهر لا يحتمل إلا وجها واحدا لا يقع فيه اشتباه، ومنها ما فيه خفاء واشتباه يعرف معناه الراسخون في العلم فإن هذا مستقيم صحيح، وحينئذ فالخلف في المتشابه يدل على أنه كله يعرف معناه. فمن قال: إنه يعرف معناه يبين حجة على ذلك، وأيضا فما ذكره السلف والخلف في المتشابه يدل على أنه كله يعرف معناه.
" فمن قال: إن المتشابه هو المنسوخ معروف. وهذا القول مأثور عن ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم، وابن مسعود وابن عباس وقتادة هم الذين نقل عنهم أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله، ومعلوم قطعا باتفاق المسلمين أن الراسخين يعلمون معنى المنسوخ، فكان هذا النقل عنهم يناقض ذلك النقل، ويدل على أنه كذب إن كان هذا صدقا وإلا تعارض النقلان عنهم. والمتواتر عنهم أن الراسخين يعلمون معنى المتشابه.
" القول الثاني مأثور عن جابر بن عبد الله أنه قال: المحكم ما علم العلماء تأويله، والمتشابه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل كقيام الساعة، ومعلوم أن وقت قيام الساعة مما اتفق المسلمون على أنه لا يعلمه إلا الله؛ فإذا أريد بلفظ التأويل هذا كان المراد به لا يعلم وقت تأويله إلا الله، وهذا حق، ولا يدل ذلك على أنه لا يعرف معنى الخطاب بذلك، وكذلك إن أريد بالتأويل حقائق ما يوجد، وقيل: لا يعلم كيفية ذلك إلا الله. فهذا قد قدمناه، وذكر أنه على قول هؤلاء من وقف عند قوله: {وما يعلم تأويله إلا الله} هو الذي يجب أن يراد بالتأويل التفسير ومعرفة المعنى ويقف على قوله: إلا الله فهذا خطأ مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين. ومن قال ذلك من المتأخرين فإنه متناقض، يقول ذلك يقول ما يناقضه وهذا القول يناقض الإيمان بالله ورسوله من وجوه كثيرة، ويوجب القدح في الرسالة، ولا ريب في أن الذين قالوه لم يتدبروا لوازمه وحقيقة ما أطلقوه، وكان أكبر قصدهم دفع تأويلات أهل البدع المتشابهة، وهذا الذي قصدوه حق، وكل مسلم يوافقهم عليه، لكن لا ندفع باطلا بباطل آخر، ولا نرد بدعة ببدعة، ولا نرد تفسير أهل الباطل للقرآن بأن يقال: الرسول والصحابة كانوا لا يعرفون تفسير ما تشابه من القرآن، ففي هذا من الظن في الرسول وسلف الأمة ما قد يكون أعظم من خطأ طائفة في تفسير بعض الآيات، والعاقل لا يبني قصرا ويهدم مصرا.
" والقول الثالث: أن المتشابه الحروف المقطعة في أوائل السور. يروى هذا عن ابن عباس. وعلى هذا القول فالحروف المقطعة ليست كلاما تاما من الجمل الاسمية والفعلية وإنما هي أسماء موقوفة، ولهذا لم تعرب فإن الإعراب إنما يكون بعد العقد والتركيب وإنما نطق بها موقوفة. كما يقال: أ ب ت ولهذا تكتب بصورة الحرف لا بصورة الاسم الذي ينطق به؛ فإنها في النطق أسماء، ولهذا لما سأل الخليل أصحابه عن النطق بالزاي من زيد قالوا: زا، قال: نطقتم بالاسم، وإنما النطق بالحروف زه، فهي في اللفظ أسماء وفي الخط حروف مقطعة (الم) لا تكتب ألف لام ميم كما يكتب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
"من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" والحرف في لغة الرسول وأصحابه يتناوله الذي يسميه النحاة اسما وفعلا وحرفا؛ لهذا قال سيبويه في تقسيم الكلام: اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا بفعل؛ فإنه لما كان معروفا من اللغة أن الاسم حرف والفعل حرف خص هذا القسم الثالث الذي يطلق النحاة عليه الحرف أنه جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، وهذه حروف المعاني التي يتألف منها الكلام، وأما حروف الهجاء فتلك إنما تكتب في صورة الحرف المجرد وينطق بها غير معربة ولا يقال فيها معرب ولا مبني؛ لأن ذلك إنما يقال في المؤلف، فإذا كان على هذا القول كل ما سوى هذه محكما حصل المقصود، فإنه ليس المقصود إلا معرفة كلام الله وكلام رسوله. ثم يقال: هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس، فإن كان معناها معروفا فقد عرف معنى المتشابه، وإن لم يكن معروفا - وهو المتشابه - كان ما سواها معلوم المعنى وهذا هو المطلوب، وأيضا فإن الله -تعالى- قال: منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العلماء، وإنما يعدها آيات الكوفيون. وسبب نزول هذه الآية الصحيح يدل على أن غيرها أيضا متشابه. ولكن هذا القول يوافق ما نقل عن اليهود من طلب علم المدد من حروف الهجاء.
والرابع: أن المتشابه ما اشتبهت معانيه قاله مجاهد. وهذا يوافق قول أكثر العلماء وكلهم يتكلم في تفسير هذا المتشابه ويبين معناه.
والخامس: أن المتشابه ما تكررت ألفاظه، قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: " المحكم: ما ذكر الله في كتابه من قصص الأنبياء ففصله وبينه، والمتشابه: هو ما اختلفت ألفاظه في قصصهم عند التكرير، كما قال في موضع من قصة نوح:
{ احمل فيها } [هود: 40] وقال في موضع آخر: { فاسلك فيها } [المؤمنون: 27] وقال في عصا موسى: { فإذا هي حية تسعى } [طه: 20] وفي موضع: { فإذا هي ثعبان مبين } [الأعراف: 107] " وصاحب هذا القول جعل المتشابه اختلاف اللفظ مع اتفاق المعنى كما يشتبه على حافظ القرآن هذا اللفظ بذاك اللفظ، وقد صنف بعضهم في هذا المتشابه؛ لأن القصة الواحدة يتشابه معناها في الموضعين، فاشتبه على القارئ أحد اللفظين بالآخر، وهذا المتشابه لا ينفي معرفة المعاني بلا ريب، ولا يقال في مثل هذا: إن الراسخين يختصون بعلم تأويله. فهذا القول إن كان صحيحا كان حجة لنا وإن كان ضعيفا لم يضرنا.
والسادس: أنه ما احتاج إلى بيان كما نقل عن أحمد.
والسابع: أنه ما احتمل وجوها كما نقل عن الشافعي وأحمد، وقد نقل عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنه قال: " إنك لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوها " وقد صنف الناس كتب الوجوه والنظائر، فالنظائر: اللفظ الذي اتفق معناه في الموضعين وأكثر، والوجوه: الذي اختلف معناه، كما يقال الأسماء المتواطئة والمشتركة وإن كان بينهما فرق - لبسطه موضع آخر - وقد قيل هي نظائر في اللفظ ومعانيها مختلفة، فتكون كالمشتركة، وليس كذلك، بل الصواب أن المراد بالوجوه والنظائر هو الأول، وقد تكلم المسلمون سلفهم وخلفهم في معاني الوجوه وفيما يحتاج إلى بيان وما يحتمل وجوها، فعلم يقينا أن المسلمين متفقون على أن جميع القرآن مما يمكن للعلماء معرفة معانيه. واعلم أن من قال إن من القرآن كلاما لا يفهم أحد معناه ولا يعرف معناه إلا الله فإنه مخالف لإجماعه الأمة مع مخالفته للكتاب والسنة.
والثامن: أن المتشابه هو القصص والأمثال، وهذا أيضا يعرف معناه.
والتاسع: أنه ما يؤمن به ولا يعمل به. وهذا أيضا مما يعرف معناه.
والعاشر: قول بعض المتأخرين: إن المتشابه آيات الصفات وأحاديث الصفات، وهذا أيضا مما يعلم معناه فإن أكثر آيات الصفات اتفق المسلمون على أنه يعرف معناها والبعض الذي تنازع الناس في معناه إنما ذم السلف منه تأويلات الجهمية ونفوا علم الناس بكيفيته كقول مالك: "الاستواء معلوم والكيف مجهول " وكذلك قال سائر أئمة السنة وحينئذ ففرق بين المعنى المعلوم وبين الكيف المجهول، فإن سمي الكيف تأويلا ساغ أن يقال هذا التأويل لا يعلمه إلا الله كما قدمناه أولا. وأما إذا جعل المعنى وتفسيره تأويلا كما يجعل معرفة سائر آيات القرآن تأويلا، وقيل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- وجبريل والصحابة والتابعين ما كانوا يعرفون معنى قوله:
{ الرحمن على العرش استوى } [طه: 5] ولا يعرفون معنى قوله: { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } [ص: 75] ولا معنى قوله: { وغضب الله عليهم } [الفتح: 6] بل هذا عندهم بمنزلة الكلام العجمي الذي لا يفهمه العربي، وكذلك إذا قيل كان عندهم قوله -تعالى-: { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } [الزمر: 67] وقوله: { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } [الأنعام: 103] وقوله: { وكان الله سميعا بصيرا } [النساء: 134] وقوله: { رضي الله عنهم ورضوا عنه } [البينة: 8] وقوله: { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه } [محمد: 28] وقوله: { وأحسنوا إن الله يحب المحسنين } [البقرة: 195]. وقوله: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } [التوبة: 105] وقوله: { إنا جعلناه قرآنا عربيا } [الزخرف: 3] وقوله: { فأجره حتى يسمع كلام الله } [التوبة: 6] وقوله: { فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها } [النمل: 8] وقوله: { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } [البقرة: 210] وقوله: { وجاء ربك والملك صفا صفا } [الفجر: 22]. { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } [الأنعام: 158] { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } [فصلت: 11] { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } [يس: 82] إلى أمثال هذه الآيات فمن قال عن جبريل ومحمد - صلوات الله عليهما - وعن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين والجماعة أنهم كانوا لا يعرفون شيئا من معاني هذه الآيات، بل استأثر الله بعلم معناها كما استأثر بعلم وقت الساعة، وإنما كانوا يقرءون ألفاظا لا يفهمون لها معنى؛ كما يقرأ الإنسان كلاما لا يفهم منه شيئا فقد كذب على القوم. والنقول المتواترة عنهم تدل على نقيض هذا، وأنهم كانوا يفهمون هذا كما يفهمون غيره من القرآن، وإن كان كنه الرب -عز وجل- لا يحيط به العباد ولا يحصون ثناء عليه فذلك لا يمنع أن يعلموا من أسمائه وصفاته ما علمهم - سبحانه وتعالى -، كما أنهم إذا علموا أنه بكل شيء عليم وأنه على كل شيء قدير لم يلزم أن يعرفوا كيفية علمه وقدرته، وإذا عرفوا أنه حق موجود لم يلزم أن يعرفوا كيفية ذاته. وهذا مما يستدل به على أن الراسخين يعلمون التأويل فإن الناس متفقون على أنهم يعرفون تأويل المحكم، ومعلوم أنهم لا يعرفون كيفية ما أخبر الله به عن نفسه في الآيات المحكمات، فدل ذلك على أن عدم العلم بالكيفية لا ينفي العلم بالتأويل الذي هو تفسير الكلام وبيان معناه، بل يعلمون تأويل المحكم والمتشابه ولا يعرفون كيفية الرب لا في هذا ولا في ذاك.
فإن قيل: هذا يقدح فيما ذكرتم من الفرق بين التأويل الذي يراد به التفسير وبين التأويل الذي في كتاب الله -تعالى-. قيل: لا يقدح في ذلك؛ فإن معرفة تفسير اللفظ ومعناه وتصور ذلك في القلب غير معرفة الحقيقة الموجودة في الخارج المرادة بذلك الكلام، فإن الشيء له وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البيان، فالكلام لفظ له معنى في القلب ويكتب ذلك اللفظ بالخط، فإذا عرف الكلام وتصور معناه في القلب وعبر عنه باللسان فهذا غير الحقيقة الموجودة في الخارج، وليس كل من عرف الأول عرف عين الثاني. مثال ذلك: أن أهل الكتاب يعلمون ما في كتبهم من صفة محمد -صلى الله عليه وسلم- وخبره ونعته، وهذا معرفة الكلام ومعناه وتفسيره، وتأويل ذلك هو نفس محمد المبعوث، فالمعرفة بعينه معرفة تأويل ذلك الكلام، وكذلك الإنسان قد يعرف الحج والمشاعر كالبيت والمساجد ومنى وعرفة ومزدلفة ويفهم معنى ذلك ولا يعرف الأمكنة حتى يشاهدها فيعرف أن الكعبة المشاهدة هي المذكورة في قوله:
{ ولله على الناس حج البيت } [آل عمران: 97] وكذلك أرض عرفات هي المذكورة في قوله: { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله } [البقرة: 198] وكذلك المشعر الحرام هي المزدلفة التي بين مأزمي عرفة ووادي محسر يعرف أنها المذكورة في قوله: { فاذكروا الله عند المشعر الحرام } [البقرة: 198] وكذلك الرؤيا يراها الرجل ويذكر له العابر تأويلها فيفهمه ويتصوره مثل أن يقول: هذا يدل على أنه كان كذا ويكون كذا وكذا، ثم إذا كان ذلك فهو تأويل الرؤيا، ليس تأويلها نفس علمه وتصوره وكلامه؛ ولهذا قال يوسف الصديق: { هذا تأويل رؤياي من قبل } [يوسف: 100] وقال: { لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما } [يوسف: 37] فقد أنبأهما بالتأويل قبل أن يأتي التأويل وإن كان التأويل لم يقع بعد وإن كان لا يعرف متى يقع، فنحن نعلم تأويل ما ذكر الله في القرآن من الوعد والوعيد، وإن كنا لا نعرف متى يقع هذا التأويل المذكور في قوله -سبحانه- وتعالى: { هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله } [الأعراف: 53] " الآية ".
(أقول) ثم إنه -رحمه الله- أطال في البيان والشواهد واحتج بالآيات الكثيرة التي تحث على فهم القرآن وتدبره وعلى العلم والعقل والفقه فيه، وذكر أن بعضهم استدل بأن الله -تعالى- لم ينف عن غيره علم شيء إلا إذا كان منفردا به، وذكر الآيات الشاهدة بذلك. ومنه علم الساعة والغيب فمن أراد التفصيل فليرجع إليه.
(آيات وأحاديث الصفات)
اعلم أن ما تلقيناه في كتب العقائد التي تقرأ للمبتدئين من طلاب العلم في ديار مصر والشام كالجوهرة والسنوسية الصغرى وما كتب عليهما من شروح وحواش هو أن للمسلمين في الآيات والأحاديث المتشابهات في الصفات مذهبين: مذهب السلف وهو الإيمان بظاهرها مع تنزيه الله -تعالى- عما يوهمه ذلك الظاهر وتفويض الأمر فيه إلى الله -تعالى-، ومذهب الخلف وهو تأويل ما ورد من النصوص في ذلك بحمله على المجاز أو الكتابة ليتفق النقل مع العقل. وقالوا: إن مذهب السلف أسلم لجواز أن يكون ما حمل عليه اللفظ المتشابه غير مراد الله -تعالى-، ومذهب الخلف أعلم لأنه يفسر النصوص جميعها ويحمل بعضها على بعض، فلا يكون صاحبه مضطربا في شيء من دينه. وقالوا: إن الخلاف في التأويل والتفويض مبني على الخلاف في قوله -تعالى-: {والراسخون في العلم} هل هو معطوف على ما قبله أم الواو للاستئناف والراسخون مبتدأ خبره {يقولون آمنا به} إلخ هذا ملخص ما يلقن الطلاب في هذا العصر، كتبناه من غير مراجعة لهذه الكتب القاصرة التي اعتمد عليها بعض الدارسين فليراجعها من شاء في حاشية الجوهرة للباجوري عند قول المتن:

وكل نص أوهم التشبيها أوله أو فوض ورم تنزيها

وكنا نظن في أوائل الطلب أن مذهب السلف ضعيف وأنهم لم يأولوا كما أول الخلف لأنهم لم يبلغوا مبلغهم من العلم والفهم لا سيما الحنابلة كلهم أو بعضهم. ولما تغلغلنا في علم الكلام وظفرنا بعد النظر في الكتب التي هي منتهى فلسفة الأشاعرة في الكلام بالكتب التي تبين مذهب السلف حق البيان لا سيما كتب ابن تيمية علمنا علم اليقين أن مذهب السلف هو الحق الذي ليس وراءه غاية ولا مطلب وأن كل ما خالفه فهو ظنون وأوهام لا تغني من الحق شيئا.
وذهب بعض العلماء إلى مذهب بين المذهبين، ففرق بين النص المتشابه الذي إذا صرف عن ظاهره يتعين فيه معنى واحد من المجاز وبين ما يحتمل أكثر من معنى، فأوجب تأويل الأول دون الثاني. والمشهور أن الناس قسمان: مثبتون للصفات ونافون لها، وأكثر المحدثين وأهل الأثر مثبتون مفوضون، وأكثر المتكلمين نفاة مؤولون. قال السعد التفتازاني في مبحث الصفات المختلف فيها من شرح المقاصد: " ومنها ما ورد به ظاهر الشرع وامتنع حملها على معانيها الحقيقية مثل الاستواء في قوله -تعالى-:
{ الرحمن على العرش استوى } [طه: 5] واليد في قوله -تعالى-: { يد الله فوق أيديهم } [الفتح: 10]، { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } [ص: 75] والوجه في قوله -تعالى-: { ويبقى وجه ربك } [الرحمن: 27] والعين في قوله: { ولتصنع على عيني } [طه: 39]، و { تجري بأعيننا } [القمر: 14] فعن الشيخ أن كلا منها صفة زائدة، وعن الجمهور وهو أحد قولي الشيخ أنها مجازات، فالاستواء مجاز عن الاستيلاء أو تمثيل وتصوير لعظمة الله -تعالى-، واليد مجاز عن القدرة، والوجه عن الوجود، والعين عن البصر. فإن قيل: جملة المكونات مخلوقة بقدرة الله -تعالى- فما وجه تخصيص خلق آدم -صلى الله عليه وسلم- سيما بلفظ المثنى؟ وما وجه الجمع في قوله: {بأعيننا}؟ أجيب بأنه أريد كمال القدرة وتخصيص آدم تشريف له وتكريم. ومعنى {تجري بأعيننا} أنها تجري بالمكان المحيط بالكلاءة والحفظ والرعاية، يقال: فلان بمرأى من الملك ومسمع إذا كان بحيث تحوطه عنايته وتكتنفه رعايته، وقيل: المراد الأعين التي انفجرت من الأرض وهو بعيد. وفي كلام المحققين من علماء البيان أن قولنا الاستواء مجاز عن الاستيلاء، واليد واليمين عن القدرة، والعين عن البصر ونحو ذلك، إنما هو لنفي وهم التشبيه والتجسيم بسرعة وإلا فهي تمثيلات وتصويرات للمعاني العقلية بإبرازها في الصور الحسية وقد بينا ذلك في شرح التلخيص " اهـ. كلام السعد ونحوه في المواقف وشرحه.
ومثل هذه الصفات التي هي في الحادث أعضاء وحركات أعضاء الصفات التي هي في الحادث انفعالات نفسية كالمحبة والرحمة والرضا والغضب والكراهة، فالسلف يجرونها على ظاهرها مع تنزيه الله -تعالى- عن انفعالات المخلوقين، فيقولون: إن لله -تعالى- محبة تليق بشأنه ليست انفعالا نفسيا كمحبة الناس. والخلف يؤولون ما ورد من النصوص في ذلك فيرجعونه إلى القدرة أو إلى الإرادة فيقولون: الرحمة هي الإحسان بالفعل أو إرادة الإحسان. ومنهم من لا يسمي هذا تأويلا بل يقولون: إن الرحمة تدل على الانفعال الذي هو رقة القلب المخصوصة على الفعل الذي يترتب على ذلك الانفعال، وقالوا: إن هذه الألفاظ إذا أطلقت على البارئ -تعالى- يراد بها غايتها التي هي أفعال دون مباديها التي هي انفعالات.
وإنما يردون هذه الصفات إلى القدرة والإرادة بناء على أن إطلاق لفظ القدرة والإرادة وكذا العلم على صفات الله إطلاق حقيقي لا مجازي، والحق أن الجميع ما أطلق على الله -تعالى- فهو منقول مما أطلق على البشر، ولما كان العقل والنقل متفقين على تنزيه الله -تعالى- عن مشابهة البشر تعين أن نجمع بين النصوص فنقول: إن لله -تعالى- قدرة حقيقة ولكنها ليست كقدرة البشر، وإن له رحمة ليست كرحمة البشر، وهكذا نقول في جميع ما أطلق عليه -تعالى- جمعا بين النصوص، ولا ندعي
أن إطلاق بعضها حقيقي وإطلاق البعض الآخر مجازي، فكما أن القدرة شأن من شئونه لا يعرف كنهه ولا يجهل أثره كذلك الرحمة شأن من شئونه لا يعرف كنهه ولا يخفى أثره، وهذا هو مذهب السلف فهم لا يقولون إن هذه الألفاظ لا يفهم لها معنى بالمرة، ولا يقولون إنها على ظاهرها، بمعنى أن رحمة الله كرحمة الإنسان ويده كيده، وإن ظن ذلك في الحنابلة بعض الجاهلين، ومحققو الصوفية لا يفرقون بين صفات الله -تعالى-، ولا يجعلون بعضها محكما إطلاق اللفظ عليه حقيقي، وبعضها متشابها إطلاقه عليه مجازي، بل كل ما أطلق عليه -تعالى- فهو مجاز.
قال الإمام أبو حامد الغزالي في بيان معنى محبة الله للعبد من الإحياء بعد كلام: " وقد ذكرنا أن محبة الله -تعالى- حقيقة وليست بمجاز؛ إذا المحبة في وضع اللسان عبارة عن ميل النفس إلى الشيء الموافق، والعشق عبارة عن الميل الغالب المفرط، وقد بينا أن الإحسان موافق للنفس، والجمال موافق أيضا، وأن الجمال والإحسان تارة يدرك بالبصر، وتارة يدرك بالبصيرة، والحب يتبع كل واحد منهما فلا يخص بالبصر، فأما حب الله للعبد فلا يمكن أن يكون بهذا المعنى أصلا، حتى إن اسم الوجود الذي هو أعم الأسماء اشتراكا لا يشمل الخالق والخلق على وجه واحد، بل كل ما سوى الله -تعالى- فوجوده مستفاد من وجود الله-تعالى -، فالوجود التابع لا يكون مساويا للوجود المتبوع، وإنما الاستواء في إطلاق الاسم نظير اشتراك الفرس والشجر في اسم الجسم إذ معنى الجسمية وحقيقتها متشابه فيهما من غير استحقاق أحدهما لأن يكون فيه أصلا. فليست الجسمية لأحدهما مستفادة من الآخر، وليس كذلك اسم الوجود له ولخلقه، وهذا التباعد في سائر الأسامي أظهر كالعلم والإرادة والقدرة وغيرها، فكل ذلك لا يشبه فيه الخالق الخلق، وواضع اللغة إنما وضع هذه الأسامي أولا للخلق فإن الخلق أسبق إلى العقول والأفهام من الخالق، فكان استعمالها في حق الخالق بطريق الاستعارة والتجوز والنقل " اهـ. ما نريده. ثم فسر محبة الله للعبد بكلام طويل فيه مجال للبحث والنظر.
وقال في كتاب الشكر من الإحياء: " إن لله -عز وجل- في جلاله وكبريائه صفة عنها يصدر الخلق والاختراع، وتلك الصفة أعلى وأجل من أن تلمحها عين واضع اللغة حتى يعبر عنها بعبارة تدل على كنه جلالها وخصوص حقيقتها، فلم يكن لها في العالم عبارة لعلو شأنها وانحطاط رتبة واضعي اللغات عن أن يمتد فهمهم إلى مبادئ إشراقها، فانخفضت عن ذروتها أبصارهم كما تنخفض أبصار الخفافيش عن نور الشمس لا لغموض في نور الشمس ولكن لضعف في أبصار الخفافيش، فاضطر الذين فتحت أبصارهم لملاحظة جلالها إلى أن يستعيروا من حضيض عالم المتناطقين باللغات عبارة تفهم من مبادئ حقائقها شيئا ضعيفا جدا، فاستعاروا لها اسم القدرة فتجاسرنا بسبب استعارتهم على النطق فقلنا لله -تعالى- صفة هي القدرة عنها يصدر الخلق والاختراع.
" ثم الخلق ينقسم في الوجود إلى أقسام وخصوص صفات، ومصدر انقسام هذه الأقسام واختصاصها بخصوص صفاتها صفة أخرى استعير لها بمثل الضرورة التي سبقت عبارة " المشيئة " فهي توهم منها أمرا مجملا عند المتناطقين باللغات التي هي حروف وأصوات للمتفاهمين بها، وقصور لفظ المشيئة عن الدلالة على كنه تلك الصفة وحقيقتها كقصور لفظ القدرة.
" ثم انقسمت الأفعال الصادرة من القدرة إلى ما ينساق إلى المنتهى الذي هو غاية حكمتها وإلى ما يقف دون الغاية، وكان لكل واحد نسبة إلى صفة المشيئة لرجوعها إلى الاختصاصات التي بها تتم القسمة والاختلافات، فاستعير لنسبة البالغ غايته عبارة " المحبة " واستعير لنسبة الواقف دون غايته عبارة " الكراهة ". وقيل: إنهما داخلان في وصف المشيئة، ولكن لكل واحد خاصية أخرى في النسبة يوهم لفظ المحبة والكراهة منهما أمرا مجملا عند طالبي الفهم من الألفاظ واللغات " اهـ. المراد. ثم ذكر نحو ذلك في الرضا والغضب والكفر والشكر وبين أن المرضي عنه من كان في عمله متمما لحكمة الله -تعالى- في عباده؛ أي بالقيام بسنته الكونية والشرعية. وهو الشاكر لله أو الشكور، والمغضوب عليه ضده وهو الكافر أو الكفور، وليس في هذا البيان العجيب من منازع المتكلمين إلا جعل المحبة والكرامة والرضا والكراهة داخلة في وصف المشيئة على تردد في ذلك، والأشبه بمذهب السلف أن يقال إنها شئون خاصة لله -تعالى- ظهر أثرها في خلقه بما ذكر.
وقال في كتابه المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى: " وكأنا إذا عرفنا أن الله -تعالى- حي قادر عالم فلم نعرف أولا إلا أنفسنا. ولم نعرفه إلا بأنفسنا إذ الأصم لا يتصور معنى قولنا إن الله سميع والأكمه لا يعرف معنى قولنا إنه بصير، وكذلك إذ قال القائل: كيف يكون الله -تعالى- عالما بالأشياء؟ فنقول له: كما تعلم أنت أشياء. فإذا قال كيف يكون قادرا؟ فنقول: كما تقدر أنت، فلا يمكنه أن يفهم شيئا إلا إذا كان فيه ما يناسبه، فيعلم أولا ما هو متصف به ثم يعلم غيره بالمناسبة إليه، فإذا كان لله وصف وخاصية ليس فينا ما يناسبه ويشاركه ولو في الاسم لم يتصور فهمه ألبتة فما عرف أحد إلا نفسه. ثم قايس بين صفات الله -تعالى- وبين صفات نفسه وتتعالى صفات الله -تعالى- وتتقدس عن أن تشبه صفاتنا " اهـ.
فحاصل ما تقدم أن جميع ما أطلق على الله -تعالى- من الأسماء والصفات هو مما أطلق قبل ذلك على الخلق؛ إذ لو وضع لصفات الله -تعالى- ألفاظ خاصة وخوطب بها الناس لما فهموا منها شيئا قال -تعالى-:
{ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } [إبراهيم: 4] وقد جاء الرسل - عليهم الصلاة والسلام - بما دل عليه العقل من تنزيهه -تعالى- عن صفات المخلوقين وكونه لا يماثل شيئا ولا يماثله شيء. فعلم أن جميع ما أطلقوه عليه من الألفاظ الدالة على الصفات كالقدرة والرحمة، وعلى الأفعال والحركات كالخلق والرزق والاستواء على العرش، وعلى الإضافة ككونه فوق عباده لا ينافي أصل التنزيه، بل يجب الإيمان بها وبما تدل عليه مع التنزيه فنقول: إن له قدرة ليست كقدرتنا ورحمة ليست كرحمتنا وخلقا ليس كخلقنا. فإن الخلق في اللغة التقدير المعروف من الناس للأشياء وهو -تعالى- أحسن الخالقين، لا يخلق كخلقه أحد كما قال: { أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار } [الرعد: 16]. وليس استواؤه على عرشه كاستواء الملوك على عروشهم، كما أن عرشه ليس كعروشهم، ولا علوه على خلقه كعلو بعض الأجسام على بعض، كما أنه -تعالى- ليس جسما مماثلا لهم. والسلف والخلف أو الأثريون والمتكلمون كلهم متفقون على تنزيه الله -تعالى- عن مماثلة خلقه وعلى أن جميع ما جاء على ألسنة الرسل في وصفه -تعالى- والحكاية عنه خلق إلا أن المتكلمين يقولون: إن العقل دل على أن لهذا العالم خالقا عالما مريدا قادرا، فهذه الصفات ثابتة له عقلا، وعليها مدار إثبات الألوهية بالبرهان، لأن جميع الكائنات دالة عليها. فما يرد من الصفات السمعية يجب إرجاعه إليها ولا نعده صفة زائدة. والسلف الأثريون يقولون: لا نفرق بين صفات الله -تعالى- الذي أثبتها لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله. وإنما هذا خلاف في التنزيه وفي كون كل ما جاء عن الله في ذلك حق، ولولا أن المسلمين انقسموا إلى مذاهب عنى أهل كل مذهب منها بإثبات مذهبهم وتأييده وإبطال مخالفه وتفنيده لزال هذا الخلاف وعرف الأكثرون الحق صورة ومعنى حتى لا يشنع أشعري على حنبلي ولا أثري على نظري؛ ولذلك ترى محققي المتكلمين رجعوا في آخر عهدهم إلى مذهب السلف. وبذلك صرح الشيخ أبو الحسن الأشعري في (الإبانة) وأبو حامد الغزالي في (إلجام العوام عن علم الكلام) وغيره من كتبه التي ألفها في آخر حياته.
هذا ولا ننكر أن الأثريين من الحنابلة وغيرهم قد وقع لبعضهم ما يكاد يكون نصا في التجسيم، أو جعل كل ما ورد في صفات الله وأفعاله صفات لا تفهم وإنما تؤخذ بالتسليم، وإنما العبرة بما كتبه علماؤهم المحققون كابن تيمية وابن القيم، وقد قال ابن تيمية: إن خطأ المتكلمين في نفي الصفات أكثر وخطأ الأثريين في الإثبات أكثر. أقول: ومن عجيب صنع بعضهم أنهم ذكروا السمع والبصر والكلام وعدوها من الصفات التي عليها مدار الإيمان بالألوهية على أنهم سموها صفات سمعية، ولم يذكروا الحكمة والرحمة والمحبة مع أن السمع ورد بها والدلائل العقلية عليها أظهر، إذ العقل يجيز أن يقال: إن صفة العلم الإلهي محيطة بالمسموعات والمبصرات، وبذلك يسمى سميعا بصيرا، ولا حاجة إلى القول بأن السمع والبصر صفتان زائدتان من صفات الألوهية، ولا يظهر مثل هذا القول في إدراج الحكمة والرحمة والمحبة ونحوها في صفتي الإرادة والقدرة.
وإنني أنقل في هذا المقام جملة من كلام أهل الأثر وتابعي السلف في معنى ما تقدم من عدم التفرقة بين صفات الله -تعالى- ليعلم الجامدون على ما في كتب الكلام والتفسير التي ألفها الأشاعرة أنهم كتبوا بعقل، وهم أجود الناس فهما للنقل، جاء في شرح عقيدة السفاريني الحنبلي في هذا المبحث ما نصه:
" قال شيخ الإسلام في التدمرية: القول في بعض الصفات كالقول في بعض، فإن كان المخاطب ممن يقر بأن الله -تعالى- حي بحياة عليم بعلم قدير بقدرة سميع بسمع بصير ببصر متكلم بكلام مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة وينازع في محبته -تعالى- ورضاه وغضبه وكراهته فيجعل ذلك مجازا ويفسره إما بالإرادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات، قيل له: لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر. فإن قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل. وإن قلت: له إرادة تليق به كما أن للمخلوق إرادة تليق به. قيل ذلك: وكذلك له محبة تليق به وللمخلوق محبة تليق به، وله -تعالى- رضا وغضب يليقان به كما للمخلوق رضا وغضب يليقان به، فإن قال: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، قيل له: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة. فإن قلت: هذه إرادة المخلوق. قيل لك: وهذا غضب المخلوق. وكذلك يلزم بالقول في علمه وسمعه وبصره وقدرته ونحو ذلك، فهذا الفرق بين بعض الصفات وبعض ما يقال له فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته. فإن قال: تلك الصفات أثبتها بالعقل لأن الفعل دل على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة، والإحكام دل على العلم وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك، قال له سائر أهل الإثبات لك جوابان: (أحدهما) أن يقال: عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، فهب أن ما سلكته من الدليل العقلي لا يثبت ذلك فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه من غير دليل لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت، والسمع قد دل عليه ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي. فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم.
(الثاني) أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات، فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم وما يوجد في المخلوقات من المنافع للمحتاجين وكشف الضر عن المضرورين، وأنواع الرزق والهدى والمسرات دليل على رحمة الخالق كدلالة التخصيص على الإرادة والمشيئة، والقرآن يثبت دلائل الربوبية بهذه الطريق، تارة يدلهم بالآيات المخلوقة على وجود الخالق ويثبت علمه وقدرته وحياته، وتارة يدلهم بالنعم والآيات على وجود بره وإحسانه المستلزم رحمته، وهذا كثير في القرآن، وإن لم يكن مثل الأول أو أكثر منه لم يكن أقل منه بكثير، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكفار يدل على بغضهم كما قد ثبت بالشاهد والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات الموجودة في مفعولاته ومأموراته وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة تدل على حكمته البالغة كما يدل التخصيص على الإرادة وأولى لقوة العلة الغائية؛ ولهذا كان ما في القرآن من بيان مخلوقاته من النعم والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة.
" قال شيخ الإسلام - طيب الله مضجعه -: ومما يوضح ذلك أن وجوب تصديق كل مسلم بما أخبر به الله ورسوله من صفاته -تعالى- ليس موقوفا على أن يقوم دليل عقلي على تلك الصفة بعينها، فإن مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول إذا أخبرنا بشيء من صفات الله -تعالى- وجب علينا التصديق به وإن لم نعلم ثبوته بعقولنا، ومن لم يقر بما جاء به الرسول حتى يعلمه بعقله فقد أشبه الذين قال الله عنهم:
{ قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته } [الأنعام: 124] ومن سلك هذا السبيل فليس في الحقيقة مؤمنا بالرسول ولا متلقيا عنه الأخبار بشأن الربوبية، ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيء من ذلك أو لم يخبر به، فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به بل يتأوله أو يفوضه، وما لم يخبر به إن علمه بعقله آمن به فلا فرق عند من سلك هذه السبيل بين وجود الرسول وإخباره وبين عدم الرسول وإخباره، وكان ما يذكر من القرآن والحديث والإجماع عديم الأثر عنده.
قال شيخ الإسلام في شرح الأصفهانية وقد صرح بهذا أئمة هذا الطريق، قال: ثم أهل الطريق الثبوتية فيهم من يحيل على الكشف، وكل من الطريقين فيها من الاضطراب والاختلاف ما لا ينضبط، وليست واحدة منهما تحصل المقصود بدون الطريق النبوية، والطريق النبوية بها يحصل الإيمان النافع في الآخرة، ثم إن حصل قياس أو كشف يوافق ما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان حسنا مع أن القرآن قد نبه على الطريق الاعتبارية التي بها يستدل على مثل ما في القرآن كما قال -تعالى-:
{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } [فصلت: 53] فأخبر أنه يري عباده من الآيات المشهودة التي هي أدلة عقلية ما يبين أن القرآن حق، وليس لقائل أن يقول: إنما خصت هذه الصفات بالذكر لأن السمع موقوف عليها دون غيرها، فإن الأمر ليس كذلك، لأن التصديق بالسمعيات ليس موقوفا على إثبات السمع والبصر ونحو ذلك.
ثم قال شيخ الإسلام قدس الله روحه: والمقصود هنا التنبيه على أن ما يجب إثباته لله -تعالى- من الصفات ليس مقصورا على ما ذكره هؤلاء مع إثباتهم بعض صفاته بالعقل وبعضها بالسمع، فإن من عرف حقائق أقوال الناس بطرقهم التي دعتهم إلى تلك الأقوال حصل له العلم والرحمة فعلم الحق ورحم الخلق، وكان مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وهذه خاصة أهل السنة المتبعين للرسول -صلى الله عليه وسلم- فإنهم يتبعون الحق ويرحمون من خالفهم باجتهاده حيث عذره الله ورسوله، وأما أهل البدع فيبتدعون بدعة باطلة ويكفرون من خالفهم فيها. انتهى وبالله التوفيق.
أقول: وقد اشتهر عن الحنابلة وغيرهم من أهل الأثر إثبات صفة العلو لله -تعالى- حتى رماهم بعض المتكلمين بالقول بالتجسيم، لأن ذلك قول بالجهة وهو يستلزم الحد والجسمية فآخذوهم بلازم المذهب وهم يجهلون مذهبهم وهم لم يقولوا إلا بالنقل الموافق للعقل، وهاك كلام واحد منه نقلا عن شرح عقيدة السفاريني وهو:
" ذكر الإمام أبو العباس عماد الدين أحمد الواسطي الصوفي المحقق العارف تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله سرهما - الذي قال فيه شيخ الإسلام: إنه جنيد زمانه في رسالته (نصيحة الإخوان) ما حاصله في مسألة العلو والفوقية والاستواء: هو أن الله -عز وجل- كان ولا مكان ولا عرش ولا ماء ولا فضاء ولا هواء ولا خلاء ولا ملاء، وأنه كان منفردا في قدمه وأزليته متوحدا في فردانيته لا يوصف بأنه فوق كذا إذ لا شيء غيره هو -تعالى- سابق التحت والفوق اللذين هما جهتا العالم، وهو لا زمان له -تعالى-، وهو -تعالى- في تلك الفردانية منزه عن لوازم الحدث وصفاته، فلما اقتضت الإرادة أن يكون الكون له جهات من العلو والسفل وهو -سبحانه- منزه عن صفات الحدث، فكون الأكوان وجعل جهتي العلو والسفل، واقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الكون في جهة التحت لكونه مربوبا مخلوقا، واقتضت العظمة الربانية أن يكون باعتبار الكون لا باعتبار فردانيته إذ لا فوق فيها ولا تحت، والرب - سبحانه وتعالى - كما كان في قدمه وأزليته وفردانيته لم يحدث له في ذاته ولا في صفاته ما لم يكن له في قدمه وأزليته فهو الآن كما كان. لما أحدث المربوب المخلوق ذا الجهات والحدود والملأ ذا الفوقية والتحتية كان مقتضى حكم العظمة الربوبية أن يكون فوق ملكه، وأن تكون المملكة تحته باعتبار الحدوث من الكون لا باعتبار القدم المكون، فإذا أشير إليه بشيء يستحيل أن يشار إليه من جهة التحتية أو من جهة اليمنة أو من جهة اليسرة بل لا يليق أن يشار إليه إلا من جهة العلو والفوقية، ثم الإشارة هي بحسب الكون وحدوثه وأسفله، فالإشارة تقع على أعلى جزء من الكون حقيقة وتقع على عظمة الله -تعالى- كما يليق به، لا كما يقع على الحقيقة المحسوسة عندنا في أعلى جزء من الكون فإنها إشارة إلى جسم وتلك إلى إثبات.
إذا علم ذلك فالاستواء صفة كانت له - سبحانه وتعالى - في قدمه لكن لم يظهر حكمها إلا في خلق العرش كما أن الحساب صفة قديمة لا يظهر حكمها إلا في الآخرة، وكذلك التجلي في الآخرة لا يظهر حكمه إلا في محله،
قال: فإذا علم ذلك فالأمر الذي تهرب المتأولة منه حيث أولوا الفوقية بفوقية المرتبة والاستواء بالاستيلاء فنحن أشد الناس هربا من ذلك وتنزيها للباري -تعالى- عن الحد الذي لا يحصره، فلا يحد بحد يحصره، بل بحد تتميز به عظمة ذاته عن مخلوقاته، والإشارة إلى الجهة إنما هو بحسب الكون وسفله إذ لا تمكن الإشارة إليه إلا هكذا وهو في قدسه -سبحانه- منزه عن صفات الحدث، وليس في القدم فوقية ولا تحتية، وإنما من هو محصور في التحت لا يمكنه معرفة بارئه إلا من فوقه، فتقع الإشارة إلى العرش حقيقة إشارة معقولة، وتنتهي الجهات عند العرش ويبقى ما وراءه لا يدركه العقل ولا يكفيه الوهم فتقع الإشارة عليه كما يليق به مجملا مثبتا مكيفا لا ممثلا،
(قال): فإذا علمنا ذلك واعتقدناه تخلصا من شبهة التأويل وعماوة التعطيل وحماقة التشبيه والتمثيل وأثبتنا علو ربنا وفوقيته واستواءه على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته والحق واضح في ذلك، والصدر ينشرح له، فإن التحريف تأباه العقول الصحيحة مثل تحريف الاستواء بالاستيلاء وغيره، والوقوف في ذلك جهل وغي مع كون الرب وصف نفسه بهذه الصفات لنعرفه بها، فوقوفنا عن إثباتها ونفيها عدول عن المقصود منه في تعريفنا إياها، فما وصف لنا نفسه بها إلا لنثبت ما وصف به نفسه ولا نقف في ذلك. قال: وكذلك التشبيه والتمثيل حماقة وجهالة، فمن وفقه الله للإثبات فلا تحريف ولا تكييف ولا وقوف فقد وقع على الأمر المطلوب منه إن شاء الله -تعالى- والله أعلم اهـ.
أقول: ولأستاذه ابن تيمية نحو ذلك في بيان معنى ما ورد من أن الله -تعالى- هو القاهر فوق عباده، ذاته في السماء فلا يعنون بشيء مما ورد أن ذات الله القديم محصورة في السماء أو العرش أو محدودة في الجهة التي فوق رءوسنا، بل صرح ابن تيمية وابن القيم وغيرهما بأن جهة الرأس كسائر الجهات من اليمين والشمال وغيرهما هي من الأمور النسبية التي لا حقيقة لها في نفسها وإنما يفسرون ذلك بما علمت. فإن قلت: إن ما ذكر آنفا يشبه تأويل المتكلمين في قولهم إن العلو علو المرتبة أو هو هو أقل: إنه يتفق معه في تنزيه الباري -تعالى- عن مماثلة الأجسام المحدودة والمحدثات المقهورة الخاضعة لإرادة القاهر فوق عباده، ولكنه يفارقه بعدم حظر استعمال ما جاءت به النصوص للعامة والخاصة مع اعتقاد التنزيه لا مع ملاحظة ما قيل في التأويل، فأهل التأويل يحظرون أن يقول الناس في مخاطباتهم مثل إن الله في السماء لئلا يوهم ذلك أن ذات الخالق القديم محصور في هذا المخلوق الذي فوق رءوسنا فهم يريدون المبالغة في التنزيه، والأثريون يجيزون استعمال كل ما ورد محتجين بنصوص الكتاب والسنة، وما كان لبشر أن يدعي أنه أحرص على تنزيه الله من الله ورسوله، وقد يبالغ هؤلاء فيستعملون من ذلك ما لم يرد به نص، أو النص في غير ما ورد فيه، أو على غير الوجه الذي ورد فيه توسعا وعملا بالقياس. والقياس في هذا ممنوع المقام، وللإمام الغزالي تفصيل في كيفية الاستعمال، وتحقيق في هذا البحث قاله بعد الرجوع إلى مذهب السلف، فننقله هنا من كتابه (إلجام العوام عن علم الكلام) وهو:
الباب الأول
(في شرح اعتقاد السلف في هذه الأخبار)
اعلم أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر هو مذهب السلف، أعني مذهب الصحابة والتابعين وها أنا أورد بيانه وبيان برهانه
(فأقول): حقيقة مذهب السلف - وهو الحق عندنا - أن كل من بلغه حديث من هذه الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه فيه سبعة أمور: التقديس. ثم التصديق، ثم الاعتراف بالعجز. ثم السكوت. ثم الإمساك. ثم الكف؟ ثم التسليم لأهل المعرفة، (أما التقديس) فأعني به تنزيه الرب -تعالى- عن الجسمية وتوابعها. (وأما التصديق) فهو الإيمان بما قاله -صلى الله عليه وسلم- وأن ما ذكره حق، وهو فيما قاله صادق، وأنه حق على الوجه الذي قاله وأراده. (وأما الاعتراف بالعجز) فهو أن يقر بأن معرفة مراده ليست على قدر طاقته، وأن ذلك ليس من شأنه وحرفته.(وأما السكوت) فألا يسأل عن معناه ولا يخوض فيه ويعلم أن سؤاله عنه بدعة، وأنه في خوضه فيه مخاطر بدينه. وأنه يوشك أن يكفر لو خاض فيه من حيث لا يشعر. (وأما الإمساك) فألا يتصرف في تلك الألفاظ بالتصريف والتبديل بلغة أخرى. والزيادة فيه والنقصان منه والجمع والتفريق، بل لا ينطق إلا بذلك اللفظ وعلى ذلك الوجه من الإيراد والإعراب والتصريف والصيغة. (وأما الكف) فأن يكف باطنه عن البحث عنه والتفكر فيه. (وأما التسليم لأهله) فألا يعتقد أن ذلك إن خفي عليه لعجزه فقد خفي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو على الأنبياء أو على الصديقين والأولياء، فهذه سبع وظائف اعتقد كافة السلف وجوبها على كل العوام، لا ينبغي أن يظن بالسلف الخلاف في شيء منها، فلنشرحها وظيفة وظيفة إن شاء الله -تعالى-.
(الوظيفة الأولى التقديس)
ومعناه: أنه إذا سمع اليد والإصبع، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله خمر طينة آدم بيده و إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن فينبغي أن يعلم أن اليد تطلق لمعنيين؛ أحدهما: هو الوضع الأصلي وهو عضو مركب من لحم وعظم وعصب، واللحم والعظم والعصب جسم مخصوص وصفات مخصوصة، أعني بالجسم عبارة عن مقدار له طول وعرض وعمق يمنع غيره من أن يوجد بحيث هو إلا بأن يتنحى عن ذلك المكان، وقد يستعار هذا اللفظ أعني اليد لمعنى آخر ليس ذلك المعنى بجسم أصلا، كما يقال: البلدة في يد الأمير، فإن ذلك مفهوم وإن كان الأمير مقطوع اليد مثلا، فعلى العامي وغير العامي أن يتحقق قطعا ويقينا أن الرسول - عليه السلام - لم يرد بذلك جسما هو عضو مركب من لحم ودم وعظم، وأن ذلك في حق الله -تعالى- محال وهو عنه مقدس، فإن خطر بباله أن الله جسم مركب من أعضاء فهو عابد صنم. فإن كل جسم فهو مخلوق وعبادة المخلوق كفر، وعبادة الصنم كانت كفرا لأنه مخلوق وكان مخلوقا لأنه جسم، فمن عبد جسما فهو كافر بإجماع الأئمة السلف منهم والخلف، سواء كان ذلك الجسم كثيفا كالجبال الصم الصلاب، أو لطيفا كالهواء والماء، وسواء كان مظلما كالأرض أو مشرقا كالشمس والقمر والكواكب، أو مشفا لا لون له كالهواء، أو عظيما كالعرش والكرسي والسماء، أو صغيرا كالذرة والهباء أو جمادا كالحجارة، أو حيوانا كالإنسان. فالجسم صنم، فبأن يقدر حسنه وجماله أو عظمه أو صغره أو صلابته وبقاؤه لا يخرج عن كونه صنما، ومن نفى الجسمية عنه وعن يده وأصبعه فقد نفى العضوية واللحم والعصب، وقدس الرب - جل جلاله - عما يوجب الحدوث ليعتقد بعده أنه عبارة عن معنى من المعاني ليس بجسم ولا عرض في جسم يليق ذلك المعنى بالله -تعالى-، فإن كان لا يدري ذلك المعنى ولا يفهم كنه حقيقته فليس عليه في ذلك تكليف أصلا، فمعرفة تأويله ومعناه ليس بواجب عليه بل واجب عليه ألا يخوض فيه كما سيأتي.
مثال آخر: إذا سمع الصورة في قوله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله خلق آدم على صورته و إني رأيت ربي في أحسن صورة فينبغي أن يعلم أن الصورة اسم مشترك قد يطلق ويراد به الهيئة الحاصلة في أجسام مؤلفة مولدة مرتبة ترتيبا مخصوصا مثل الأنف والعين والفم والخد التي هي أجسام وهي لحوم وعظام، وقد يطلق ويراد به ما ليس بجسم ولا هيئة في جسم، ولا هو ترتيب في أجسام، كقولك عرف صورته وما يجري مجراه، فليتحقق كل مؤمن أن الصورة في حق الله لم تطلق لإرادة المعنى الأول الذي هو جسم لحمي وعظمي مركب من أنف وفم وخد، فإن جميع ذلك أجسام وهيئات في أجسام، وخالق الأجسام والهيئات كلها منزه عن مشابهتها أو صفاتها، وإذا علم هذا يقينا فهو مؤمن فإن خطر له أنه إن لم يرد هذا المعنى الذي أراده فينبغي أن يعلم أن ذلك لم يؤمر به بل أمر بألا يخوض فيه، فإنه ليس على قدر طاقته، لكن ينبغي أن يعتقد أنه أريد به معنى يليق بجلال الله وعظمته مما ليس بجسم ولا عرض في جسم.
مثال آخر: إذا قرع سمعه النزول في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ينزل الله -تعالى- في كل ليلة إلى السماء الدنيا فالواجب عليه أن يعلم أن النزول اسم مشترك، قد يطلق إطلاقا يفتقر فيه إلى ثلاثة أجسام: جسم عال هو مكان لساكنه، وجسم سافل كذلك، وجسم منتقل من السافل إلى العالي ومن العالي إلى السافل، فإن كان من أسفل إلى علو سمي صعودا وعروجا ورقيا، وإن كان من علو إلى أسفل سمي نزولا وهبوطا، وقد يطلق على معنى آخر ولا يفتقر فيه إلى تقدير انتقال وحركة في جسم، كما قال الله -تعالى-:
{ وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [الزمر: 6] وما رؤي البعير والبقر نازلا من السماء بالانتقال، بل هي مخلوقة في الأرحام، ولإنزالها معنى لا محالة كما قال الشافعي -رضي الله عنه-: " دخلت مصر فلم يفهموا كلامي، فنزلت ثم نزلت ثم نزلت ". فلم يرد به انتقال جسده إلى أسفل، فتحقق المؤمن قطعا أن النزول في حق الله -تعالى- ليس بالمعنى الأول وهو انتقال شخص وجسد من علو إلى أسفل فإن الشخص والجسد أجسام، والرب - جل جلاله - ليس بجسم، فإن خطر له أنه إن لم يرد هذا فما الذي أراد؟ فيقال له: أنت إذا عجزت عن فهم نزول البعير من السماء فأنت عن فهم نزول الله -تعالى- أعجز، فليس هذا بوسعك فاتركه، واشتغل بعبادتك أو حرفتك واسكت، واعلم أنه أريد به معنى من المعاني التي يجوز أن تراد بالنزول في لغة العرب ويليق ذلك المعنى بجلال الله -تعالى- وعظمته، وإن كنت لا تعلم حقيقته وكيفيته.
مثال آخر: إذا سمع لفظ الفوق في قوله -تعالى-:
{ وهو القاهر فوق عباده } [الأنعام: 18] وفي قوله -تعالى-: { يخافون ربهم من فوقهم } [النحل: 5] فليعلم أن الفوق اسم مشترك يطلق لمعنيين؛ أحدهما: نسبة جسم إلى جسم بأن يكون أحدهما أعلى والآخر أسفل، يعني: أن الأعلى من جانب رأس الأسفل، وقد يطلق لفوقية الرتبة، وبهذا المعنى يقال: الخليفة فوق السلطان والسلطان فوق الوزير، وكما يقال العلم فوق العلم، والأول: يستدعي جسما ينسب إلى جسم. والثاني: لا يستدعيه، فليعتقد المؤمن قطعا أن الأول غير مراد، وأنه على الله -تعالى- محال، فإنه من لوازم الأجسام أو لوازم أعراض الأجسام، وإذا عرف نفي هذا المحال فلا عليه إن لم يعرف أنه لماذا أطلق وماذا أريد؟ فقس على ما ذكرناه ما لم نذكره.
(الوظيفة الثانية - الإيمان والتصديق)
وهو أنه يعلم قطعا أن هذه الألفاظ أريد بها معنى يليق بجلال الله وعظمته، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صادق في وصف الله -تعالى- به، فليؤمن بذلك وليوقن بأن ما قاله صدق وما أخبر عنه حق لا ريب فيه، وليقل آمنا وصدقنا، وأن ما وصف الله -تعالى- به نفسه أو وصفه به رسوله فهو كما وصفه، وحق بالمعنى الذي أراده وعلى الوجه الذي قاله وإن كنت لا تقف على حقيقته، فإن قلت: التصديق إنما يكون بعد التصور، والإيمان إنما يكون بعد التفهم، فهذه الألفاظ إذا لم يفهم العبد معانيها كيف يعتقد صدق قائلها فيها؟ فجوابك أن التصديق بالأمور الجملية ليس بمحال، وكل عاقل يعلم أنه أريد بهذه الألفاظ معان، وأن كل اسم فله مسمى إذا نطق به من أراد مخاطبة قوم قصد ذلك المسمى فيمكنه أن يعتقد كونه صادقا مخبرا عنه على ما هو عليه، فهذا معقول على سبيل الإجمال، بل يمكن أن يفهم من هذه الألفاظ أمور جملية غير مفصلة ويمكن التصديق، كما إذا قال في البيت حيوان أمكن أن يصدق دون أن يعرف أنه إنسان أو فرس أو غيره، بل لو قال فيه شيء أمكن تصديقه وإن لم يعرف ما ذلك الشيء، فكذلك من سمع الاستواء على العرش فهم على الجملة أنه أريد بذلك نسبة خاصة إلى العرش فيمكنه التصديق قبل أن يعرف أن تلك النسبة هي نسبة الاستقرار عليه أو الإقبال على خلقه أو الاستيلاء عليه بالقهر أو بمعنى آخر من معاني النسبة فأمكن التصديق به، وإن قلت: فأي فائدة في مخاطبة الخلق بما لا يفهمون؟ فجوابك: أنه قصد بهذا الخطاب تفهيم من هو أهله، وهم الأولياء والراسخون في العلم وقد فهموا، وليس من شرط من خاطب العقلاء بكلام أن يخاطبهم بما يفهم الصبيان والعوام بالإضافة إلى العارفين كالصبيان بالإضافة إلى البالغين، ولكن على الصبيان أن يسألوا البالغين عما لا يفهمونه، وعلى البالغين أن يجيبوا الصبيان بأن هذا ليس من شأنكم ولستم من أهله فخوضوا في حديث غيره فقد قيل للجاهلين:
{ فاسألوا أهل الذكر } [الأنبياء: 7] فإن كانوا يطيقون فهمه فهموهم وإلا قالوا لهم: { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } [الإسراء: 85] فلا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، ما لكم ولهذا السؤال؟ هذه معان الإيمان بها واجب والكيفية مجهولة أي مجهولة لكم، والسؤال عنه بدعة كما قال مالك: " الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب ". فإذن الإيمان بالجمليات التي ليست مفصلة في الذهن ممكن، ولكن تقديسه الذي هو نفي للمحال عنه ينبغي أن يكون مفصلا فإن المنفي هي الجسمية ولوازمها ونعني بالجسم هاهنا الشخص المقدر الطويل العريض العميق الذي يمنع غيره من أن يوجد بحيث هو الذي يدفع ما يطلب مكانه وإن كان قويا، ويندفع ويتنحى عن مكانه بقوة دافعة إن كان ضعيفا، وإنما شرحنا هذا اللفظ مع ظهوره لأن العامي ربما لا يفهم المراد به.
(الوظيفة الثالثة - الاعتراف بالعجز)
ويجب على كل من لا يقف على كنه هذه المعاني وحقيقتها ولم يعرف تأويلها والمعنى المراد به أن يقر بالعجز، فإن التصديق واجب وهو عن دركه عاجز، فإن ادعى المعرفة فقد كذب، وهذا معنى قول مالك: الكيفية مجهولة؛ يعني: تفصيل المراد به غير معلوم، بل الراسخون في العلم والعارفون من الأولياء إن جاوزوا في المعرفة حدود العوام وجالوا في ميدان المعرفة وقطعوا من بواديها أميالا كثيرة، فما بقي لهم مما لم يبلغوه - وهو بين أيديهم - أكثر، بل لا نسبة لما طوي عنهم إلى ما كشف لهم لكثرة المطوي وقلة المكشوف بالإضافة إليه وبالإضافة إلى المطوي المستور. قال سيد الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليه -:
"لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" وبالإضافة إلى المكشوف قال - صلوات الله عليه -: "أعرفكم بالله أخوفكم لله، وأنا أعرفكم بالله" ولأجل كون العجز والقصور ضروريا في آخر الأمر بالإضافة إلى منتهى الحال، قال سيد الصديقين: " العجز عن درك الإدراك إدراك " فأوائل حقائق هذه المعاني بالإضافة إلى عوام الخلق كأواخرها بالإضافة إلى خواص الخلق فكيف لا يجب عليهم الاعتراف بالعجز؟
(الوظيفة الرابعة - السكوت عن السؤال)
وذلك واجب على العوام لأنه بالسؤال متعرض لما لا يطيقه وخائض فيما ليس أهلا له، فإن سأل جاهلا زاده جوابه جهلا، وربما ورطه في الكفر من حيث لا يشعر، وإن سأل عارفا عجز العارف عن تفهيمه، بل عجز عن تفهيم ولده مصلحته في خروجه إلى المكتب، بل عجز الصائغ عن تفهيم النجار صناعته، فإن النجار - وإن كان بصيرا بصناعته - فهو عاجز عن دقائق الصياغة؛ لأنه إنما يعلم دقائق النجر لاستغراقه العمر في تعلمه وممارسته، فكذلك يفهم الصائغ أيضا لصرف العمر إلى تعلمه وممارسته، وقبل ذلك لا يفهمه، فالمشغولون بالدنيا وبالعلوم التي ليست من قبيل معرفة الله عاجزون عن معرفة الأمور الإلهية عجز كافة المعرضين عن الصناعات عن فهمها، بل عجز الصبي الرضيع عن الاغتذاء بالخبز واللحم لقصور في فطرته لا لعدم الخبز واللحم، ولا لأنه قاصر على تغذية الأقوياء، لكن طبع الضعفاء قاصر عن التغذي به، فمن أطعم الصبي الضعيف اللحم والخبز أو مكنه من تناوله فقد أهلكه، وكذلك العامة إذا طلبوا بالسؤال هذه المعاني يجب زجرهم ومنعهم وضربهم بالدرة، كما كان يفعله عمر -رضي الله عنه- بكل من سأل عن الآيات المتشابهات وكما فعله -صلى الله عليه وسلم- في الإنكار على قوم رآهم خاضوا في مسألة القدر وسألوا عنه: فقال - عليه السلام -:
"أفبهذا أمرتم؟ وقال: إنما هلك من كان قبلكم بكثرة السؤال" أو لفظ هذا معناه كما اشتهر في الخبر.
ولهذا أقول: يحرم على الوعاظ على رءوس المنابر الجواب على هذه المسألة بالخوض في التأويل والتفصيل، بل الواجب عليهم الاقتصار على ما ذكرناه وذكره السلف، وهو المبالغة في التقديس ونفي التشبيه وأنه -تعالى- عن الجسمية وعوارضها، وله المبالغة في هذا بما أراد حتى يقول: كل ما خطر ببالكم وهجس في ضميركم وتصور في خاطركم، فالله -تعالى- خالقها وهو منزه عنها وعن مشابهتها، وأن ليس المراد بالإخبار شيئا من ذلك. وأما حقيقة المراد فلستم من أهل معرفتها والسؤال عنها فاشتغلوا بالتقوى، فما أمركم الله -تعالى- به فافعلوه وما نهاكم عنه فاجتنبوه، وهذا قد نهيتم عنه فلا تسألوا عنه، ومهما سمعتم شيئا من ذلك فاسكتوا، وقولوا آمنا وصدقنا وما أوتيتم من العلم إلا قليلا، وليس هذا من جملة ما أوتينا.
(الوظيفة الخامسة - الإمساك عن التصرف في ألفاظ واردة)
ويجب على عموم الخلق الجمود على ألفاظ هذه الأخبار والإمساك عن التصرف فيها من ستة أوجه: التفسير والتأويل والتصريف والتفريع... إلخ.
(الأول التفسير) وأعني به تبديل اللفظ بلغة أخرى يقوم مقامها في العربية أو معناها بالفارسية أو التركية، بل لا يجوز النطق إلا باللفظ الوارد؛ لأن من الألفاظ العربية ما لا يوجد لها فارسية تطابقها، ومنها ما يوجد لها فارسية تطابقها لكن ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعاني التي جرت عادة العرب باستعارتها منها، ومنها ما يكون مشتركا في العربية ولا يكون في العجمية كذلك (أما الأول) فمثاله لفظ الاستواء فإنه ليس له في الفارسية لفظ مطابق يؤدي بين الفرس من المعنى الذي يؤديه لفظ الاستواء بين العرب بحيث لا يشتمل على مزيد إبهام إذ فارسيته أن يقال: راست بايستاد، وهذان لفظان: (الأول) ينبئ عن انتصاب واستقامة فيما يتصور أن ينحني ويعوج (والثاني) ينبئ عن سكون وثبات فيما يتصور أن يتحرك ويضطرب، وإشعاره بهذه المعاني وإشارته إليها في العجمية أظهر من إشعار لفظ الاستواء وإشارته إليها، فإذا تفاوت في الدلالة والإشعار لم يكن هذا مثل الأول، وإنما يجوز تبديل اللفظ بمثله المرادف له الذي لا يخالفه بوجه من الوجوه إلا بما لا يباينه ولا يخالفه ولو بأدنى شيء وأدقه وأخفاه (مثال الثاني) أن الإصبع يستعار في لسان العرب للنعمة، يقال: لفلان عندي إصبع: أي نعمة، ومعناها بالفارسية انكشت، وما جرت عادة العجم بهذه الاستعارة، وتوسع العرب في التجوز والاستعارة أكثر من توسع العجم، بل لا نسبة لتوسع العرب إلى جمود العجم، فإذا حسن إيراد المعنى المستعار له في العرب وسمج ذلك في العجم نفر القلب عما سمج ومجه السمع ولم يمل إليه، فإذا تفاوتا لم يكن التفسير تبديلا بالمثل بل بالخلاف، ولا يجوز التبديل إلا بالمثل (مثال الثالث) العين، فإن من فسره فإنما يفسره بأظهر معانيه فيقول: هو جسم - وهو مشترك - في لغة العرب بين العضو الباصر وبين الماء والذهب والفضة، وليس للفظ جسم - وهو مشترك - هذا الاشتراك وكذلك لفظ الجنب والوجه يقرب منه، فلأجل هذا نرى المنع من التبديل والاقتصار على العربية. فإن قيل: هذا التفاوت إن ادعيتموه في جميع الألفاظ فهو غير صحيح، إذ لا فرق بين قولك خبز ونان، وبين قولك لحم و كوشت، وإن اعترف بأن ذلك في البعض فامنع من التبديل عند التفاوت لا عند التماثل، فالجواب الحق أن التفاوت في البعض لا في الكل، فلعل لفظ اليد ولفظ دست يتساويان في اللغتين وفي الاشتراك والاستعارة وسائر الأمور، ولكن إذا انقسم إلى ما يجوز وإلى ما لا يجوز - وليس إدراك التمييز بينهما والوقوف على دقائق التفاوت جليا سهلا يسيرا على كافة الخلق، بل يكثر فيه الإشكال ولا يتميز محل التفاوت عن محل التعادل - فنحن بين أن نحسم الباب احتياطا إذ لا حاجة ولا ضرورة إلى التبديل وبين أن نفتح الباب ونقحم عموم الخلق ورطة الخطر، فليت شعري أي الأمرين أحزم وأحوط، والمنظور فيه ذات الإله وصفاته؟ وما عندي أن عاقلا متدينا لا يقر بأن هذا الأمر مخطر، فإن الخطر في الصفات الإلهية يجب اجتنابه، كيف وقد أوجب الشرع على الموطوءة العدة لبراءة الرحم وللحذر من خلط الأنساب احتياطا لحكم الولاية والوراثة وما يترتب على النسب، فقالوا مع ذلك تجب العدة على العقيم والآيسة والصغيرة وعند العزل؛ لأن باطن الأرحام إنما يطلع عليه علام الغيوب فإنه يعلم ما في الأرحام، فلو فتحنا باب النظر إلى التفصيل كنا راكبين متن الخطر، فإيجاب العدة حيث لا علوق أهون من ركوب هذا الخطر، فكما أن إيجاب العدة حكم شرعي فتحريم تبديل العربية حكم شرعي ثبت بالاجتهاد وترجيح طريق الأولى، ويعلم أن الاحتياط في الخبر عن الله وعن صفاته وعما أراده بألفاظ القرآن أهم وأولى من الاحتياط في العدة ومن كل ما احتاط به الفقهاء من هذا القبيل.
(أما التصرف الثاني بالتأويل) وهو بيان معناه بعد إزالة ظاهره، وهذا إما أن يقع من العامي نفسه، أو من العارف مع العامي، أو من العارف مع نفسه بينه وبين ربه، فهذه ثلاثة مواضع (الأول) تأويل العامي على سبيل الاشتغال بنفسه وهو حرام يشبه خوض البحر المغرق ممن لا يحسن السباحة، ولا شك في تحريم السباحة، ولا شك في تحريم ذلك، وبحر معرفة الله أبعد غورا وأكثر معاطب ومهالك من بحر الماء؛ لأن هلاك هذا البحر لا حياة بعده، وهلاك بحر الدنيا لا يزيل إلا الحياة الفانية وذلك يزيل الحياة الأبدية فشتان بين الخطرين. (الموضع الثاني) أن يكون ذلك من العالم مع العامي وهو أيضا ممنوع. ومثاله أن يجر السباح الغواص في البحر مع نفسه آخر عاجزا عن السباحة مضطرب القلب والبدن. وذلك حرام " لأنه عرضه لخطر الهلاك؛ فإنه لا يقوى على حفظه في لجة البحر، وإن قدر على حفظه في القرب من الساحل، ولو أمره بالوقوف بقرب الساحل لا يطيعه، وإن أمره بالسكوت عند التطام الأمواج وإقبال التماسيح وقد فغرت فاها للانتقام، اضطرب قلبه وبدنه ولم يسكن على حسب مراده لقصور طاقته وهذا هو المثال الحق للعالم إذا فتح للعامي باب التأويلات والتصرف في خلاف الظواهر. وفي معنى العوام الأديب والنحوي والمحدث والمفسر والفقيه والمتكلم، بل كل عالم سوى المتجردين لتعلم السباحة في بحار المعرفة، القاصرين أعمارهم عليه، الصارفين وجوههم عن الدنيا والشهوات المعرضين عن المال والجاه والخلق وسائر اللذات، والمخلصين لله -تعالى- في العلوم والأعمال العاملين بجميع حدود الشريعة وآدابها في القيام بالطاعات وترك المنكرات المفرغين قلوبهم بالجملة عن غير الله -تعالى- لله، المستحقرين للدنيا بل الآخرة والفردوس الأعلى في جنب محبة اللهتعالى، فهؤلاء هم أهل الغوص في بحر المعرفة وهم مع ذلك كله على خطر عظيم، يهلك من العشرة تسعة إلى أن يسعد واحد بالدر المكنون والسر المخزون، أولئك الذين سبقت لهم من الله الحسنى فهم الفائزون، وربك أعلم بما تكن صدورهم وما يعلنون (الموضع الثالث) تأويل العارف مع نفسه في سر قلبه بينه وبين ربه. وهو على ثلاثة أوجه، فإن الذي انقدح في سره أنه المراد من لفظ الاستواء والفوق مثلا، إما أن يكون مقطوعا به أو مشكوكا فيه أو مظنونا ظنا غالبا، فإن كان قطعيا فليعتقده وإن كان مشكوكا فليجتنبه، ولا يحكمن على مراد الله -تعالى- ومراد رسوله -صلى الله عليه وسلم- من كلامه باحتمال يعارضه مثله من غير ترجيح، بل الواجب على الشاك التوقف. وإن كان مظنونا فاعلم أن للظن متعلقين: (أحدهما) أن المعنى الذي انقدح عنده هل هو جائز في حق الله -تعالى- أو هو محال؟.(والثاني) أن يعلم قطعا جوازه لكن تردد في أنه هل هو مراد أم لا (مثال الأول) تأويل لفظ الفوق بالعلو المعنوي الذي هو المراد بقولنا السلطان فوق الوزير، فإنا لا نشك في ثبوت معناه لله -تعالى-، لكنا ربما نتردد في أن لفظ الفوق في قوله:
{ يخافون ربهم من فوقهم } [النحل: 50] هل أريد به العلو المعنوي أم أريد به معنى آخر يليق بجلال الله -تعالى- دون العلو بالمكان الذي هو محال على ما ليس بجسم ولا هو صفة في جسم (ومثال الثاني) تأويل لفظ الاستواء على العرش بأنه أراد به النسبة الخاصة التي للعرش، ونسبته أن الله -تعالى- يتصرف في جميع العالم ويدبر الأمر من السماء إلى الأرض بواسطة العرش فإنه لا يحدث في العالم صورة ما لم يحدثه في العرش، كما لا يحدث النقاش والكاتب صورة وكلمة على البياض ما لم يحدثه في الدماغ، بل لا يحدث البناء صورة الأبنية ما لم يحدث صورتها في الدماغ؛ فبواسطة الدماغ يدبر القلب أمر عالمه الذي هو بدنه فربما نتردد في أن إثبات هذه النسبة للعرش إليه -تعالى- هل هو جائز إما لوجوبه في نفسه، أو لأنه أجرى به سنته وعادته، وإن لم يكن خلافه محالا كما أجرى عادته في حق قلب الإنسان بألا يمكنه التدبير إلا بواسطة الدماغ، وإن كان في قدرة الله -تعالى- تمكينه منه دون الدماغ لو سبقت به إرادته الأزلية، وحقت به الكلمة القديمة التي هي علمه، فصار خلافه ممتنعا لا القصور في ذات القدرة لكن لاستحالة ما يخالف الإرادة القديمة والعلم السابق الأزلي؛ ولذلك قال: { ولن تجد لسنة الله تبديلا } [الأحزاب: 62] وإنما لا تتبدل لوجوبها وإنما وجوبها لصدورها عن إرادة أزلية واجبة، ونتيجة الواجب واجبة ونقيضها محال وإن لم يكن محالا في ذاته ولكنه محال لغيره وهو إفضاؤه إلى أن ينقلب العلم الأزلي جهلا، ويمتنع نفوذ المشيئة الأزلية، فإذن إثبات هذه النسبة لله -تعالى- مع العرش في تدبير المملكة بواسطته إن كان جائزا عقلا فهل هو واقع وجودا؟ هذا مما قد يتردد فيه الناظر، وربما يظن وجود هذا مثال الظن في نفس المعنى والأول مثال الظن في كون المعنى مرادا باللفظ، مع كون المعنى في نفسه صحيحا جائزا وبينهما فرقان، لكن كل واحد من الظنين إذا انقدح في النفس وحاك في الصدر فلا يدخل تحت الاختيار دفعه عن النفس ولا يمكنه ألا يظن؛ فإن للظن أسبابا ضرورية لا يمكن دفعها ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها لكن عليه وظيفتان: (إحداهما) ألا يدع نفسه تطمئن إليه جزما من غير شعور بإمكان الغلط فيه ولا ينبغي أن يحكم مع نفسه بموجب ظنه حكما جازما. (والثانية): أنه إن ذكره لم يطلق القول بأن المراد بالاستواء كذا أو المراد بالفوق كذا لأنه حكم بما لا يعلم وقد قال الله -تعالى-: { ولا تقف ما ليس لك به علم } [الإسراء: 36] لكن يقول: أنا أظن أنه كذا فيكون صادقا في خبره عن نفسه وعن ضميره ولا يكون حكما على صفة الله ولا على مراده بكلامه، بل حكما على نفسه ونبأ عن ضميره.
فإن قيل: وهل يجوز ذكر هذا الظن مع كافة الخلق والتحدث به كما اشتمل عليه ضميره؟ وكذلك لو كان قاطعا فهل له أن يتحدث به؟ قلنا: تحدثه به إنما يكون على أربعة أوجه: فإما أن يكون مع نفسه أو مع من هو مثله في الاستبصار، أو مع من هو مستعد للاستبصار بذكائه وفطنته وتجرده لطلب معرفة الله -تعالى- أو مع العامي، فإن كان قاطعا فله أن يحدث نفسه به ويحدث من هو مثله في الاستبصار أو من هو متجرد لطلب المعرفة مستعد له خال عن الميل إلى الدنيا والشهوات والتعصبات للمذاهب وطلب المباهاة بالمعارف والتظاهر بذكرها مع العوام، فمن اتصف بهذه الصفات فلا بأس بالتحدث معه؛ لأن الفطن المتعطش إلى المعرفة للمعرفة لا لغرض آخر يحيك في صدره إشكال الظواهر وربما يلقيه في تأويلات فاسدة لشدة شرهه على الفرار عن مقتضى الظواهر، ومنع العلم أهله ظلم كبثه إلى غير أهله.
وأما العامي فلا ينبغي أن يحدث به، وفي معنى العامي كل من لا يتصف بالصفات المذكورة، بل مثاله ما ذكرناه من إطعام الرضيع الأطعمة القوية التي لا يطيقها،
وأما المظنون فتحدثه مع نفسه اضطرار، فإن ما ينطوي عليه الذهن من ظن وشك وقطع لا تزال النفس تتحدث به ولا قدرة على الخلاص منه فلا منع منه، فلا شك في منع التحدث به مع العوام، بل هو أولى بالمنع من المقطوع، أما تحدثه مع من هو في مثل درجته في المعرفة أو مع المستعد له ففيه نظر، فيحتمل أن يقال: هو جائز، ولا يزيد على أن يقول: أظن كذا، وهو صادق، ويحتمل المنع؛ لأنه قادر على تركه وهو بذكره متصرف بالظن في صفة الله -تعالى- أو في مراده من كلامه وفيه خطر، وإباحته تعرف بنص أو إجماع أو قياس على منصوص، ولم يرد شيء من ذلك، بل ورد قوله -تعالى-:
{ ولا تقف ما ليس لك به علم } [الإسراء: 36]
فإن قيل: يدل على الجواز ثلاثة أمور:
(الأول) الدليل الذي دل على إباحة الصدق وهو صادق فإنه ليس يخبر إلا عن ظنه وهو ظان
(والثاني) أقاويل المفسرين في القرآن بالحدس والظن، إذ كل ما قالوه غير مسموع من الرسول - عليه السلام -، بل هو مستنبط بالاجتهاد؛ ولذلك كثرت الأقاويل وتعارضت
(والثالث) إجماع التابعين على نقل الأخبار المتشابهة التي نقلها آحاد الصحابة ولم تتواتر وما اشتمل عليه الصحيح الذي نقله العدل عن العدل، فإنهم جوزوا روايته ولا يحصل بقول العدل إلا الظن.
(والجواب عن الأول) أن المباح صدق لا يخشى منه ضرر، وبث هذه الظنون لا يخلو عن ضرر، فقد يسمعه من يسكن إليه ويعتقده جزما فيحكم في صفات الله -تعالى- بغير علم وهو خطر، والنفوس نافرة عن إشكال الظواهر، فإذا وجد مستروحا من المعنى ولو كان مظنونا سكن إليه واعتقده جزما، وربما يكون غلطا، فيكون قد اعتقد في صفات الله -تعالى- بما هو الباطل أو حكم عليه في كلامه بما لم يرد به
(وأما الثاني) وهو أقاويل المفسرين بالظن فلا نسلم ذلك فيما هو من صفات الله -تعالى- كالاستواء والفوق وغيره، بل لعل ذلك في الأحكام الفقهية أو في حكايات أحوال الأنبياء والكفار والمواعظ والأمثال وما لا يعظم خطر الخطأ فيه (وأما الثالث) فقد قال قائلون: لا يجوز أن يعتمد في هذا الباب إلا ما ورد في القرآن أو تواتر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تواترا يفيد العلم، فأما أخبار الآحاد فلا يقبل فيه ولا نشتغل بتأويله عند من يميل إلى التأويل ولا بروايته عند من يقتصر على الرواية؛ لأن ذلك حكم بالمظنون واعتماد عليه، وما ذكروه ليس ببعيد، لكنه مخالف لظاهر ما درج عليه السلف، فإنهم قبلوا هذه الأخبار من العدول ورووها وصححوها. فالجواب من وجهين: (أحدهما) أن التابعين كانوا قد عرفوا من أدلة الشرع أن لا يجوز اتهام العدل بالكذب لا سيما في صفات الله -تعالى-، فإذا روى الصديق -رضي الله عنه- خبرا وقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول كذا، فرد روايته تكذيب له ونسبة له إلى الوضع أو إلى السهو، فقبلوه وقالوا: قال أبو بكر قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال أنس: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكذا في التابعين، فالآن إذا ثبت عندهم بأدلة الشرع أنه لا سبيل إلى اتهام العدل التقي من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - فمن أين يجب ألا يتهم ظنون الآحاد، وأن ينزل الظن منزلة نقل العدل مع أن بعض الظن إثم؟ فإذا قال الشارع: ما أخبركم به العدل فصدقوه واقبلوه وانقلوه وأظهروه فلا يلزم من هذا أن يقال: ما حدثتكم به نفوسكم من ظنونكم فاقبلوه وأظهروه، وارووا عن ظنونكم وضمائركم ونفوسكم ما قالته، فليس هذا في معنى المنصوص؛ ولهذا نقول: ما رواه غير العدل من هذا الجنس ينبغي أن يعرض عنه ولا يروى، ويحتاط في المواعظ والأمثال وما يجري مجراها. (والجواب الثاني) أن تلك الأخبار روتها الصحابة لأنهم سمعوها يقينا، فما نقلوا إلا ما تيقنوه، والتابعون قبلوه ورووه، وما قالوا: قال رسول الله - عليه السلام - كذا، بل قالوا: قال فلان قال رسول الله - عليه السلام - كذا وكانوا صادقين، وما أهملوا روايته لاشتمال كل حديث على فوائد سوى اللفظ الموهم عند العارف معنى حقيقيا يفهمه منه ليس ذلك ظنيا في حقه: مثاله رواية الصحابي عن رسول الله - عليه السلام - قوله:
"ينزل الله -تعالى- كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول: هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟" الحديث فهذا الحديث سيق لنهاية الترغيب في قيام الليل،وله تأثير عظيم في تحريك الدواعي للتهجد الذي هو أفضل العبادات، فلو ترك هذا الحديث لبطلت هذه الفائدة العظيمة ولا سبيل إلى إهمالها، وليس فيه إلا إبهام لفظ النزول عند الصبي والعامي الجاري مجرى الصبي، وما أهون على البصير أن يغرس في قلب العامي التنزيه والتقديس عن صورة النزول بأن يقول له: إن كان نزوله إلى السماء الدنيا ليسمعنا نداءه وقوله فما أسمعنا، فأي فائدة في نزوله؟ ولقد كان يمكنه أن ينادينا كذلك وهو على العرش أو على السماء العليا، فهذا القدر يعرف العامي أن ظاهر النزول باطل، بل مثاله أن يريد من في المشرق إسماع شخص في المغرب ومناداته فتقدم إلى المغرب بأقدام معدودة وأخذ يناديه وهو يعلم أن لا يسمع فيكون نقله الأقدام عملا باطلا وفعلا كفعل المجانين، فكيف يستقر مثل هذا في قلب عاقل؟ بل يضطر بهذا القدر كل عامي إلى أن يتيقن نفي صورة النزول، وكيف وقد علم استحالة الجسمية عليه، واستحالة الانتقال على غير الأجسام كاستحالة النزول من غير انتقال، فإذن الفائدة في نقل هذه الأخبار عظيمة، والضرر يسير، فأنى يساوي هذا حكاية الظنون المنقدحة في الأنفس؟
فهذه سبل تجاذب طرق الاجتهاد في إباحة ذكر التأويل المظنون أو المنع، ولا يبعد ذكر وجه ثالث وهو أن ينظر إلى قرائن حال السائل والمستمع، فإن علم أنه ينتفع به ذكره، وإن علم أنه يتضرر تركه، وإن ظن أحد الأمرين كان ظنه كالعلم في إباحة الذكر، وكم من إنسان لا تتحرك داعيته باطنا إلى معرفة هذه المعاني، ولا يحيك في نفسه إشكال من ظواهرها، فذكر التأويل معه مشوش، وكم من إنسان يحيك في نفسه إشكال الظاهر حتى يكاد أن يسوء اعتقاده في الرسول - عليه السلام - وينكر قوله الموهم، فمثل هذا لو ذكر معه الاحتمال المظنون، بل مجرد الاحتمال الذي ينبو عنه اللفظ انتفع به ولا بأس بذكره معه، فإنه دواء لدائه، وإن كان داء في غيره، ولكن لا ينبغي أن يذكر على رءوس المنابر؛ لأن ذلك يحرك الدواعي الساكنة من أكثر المستمعين، وقد كانوا عنه غافلين وعن إشكاله منفكين، ولما كان زمان السلف الأول زمان سكون القلب بالغوا في الكف عن التأويل خيفة من تحريك الدواعي وتشويش القلوب، فمن خالفهم في ذلك الزمان فهو الذي حرك الفتنة، وألقى هذه الشكوك في القلوب مع الاستغناء عنه فباء بالإثم، أما الآن وقد فشا ذلك في بعض البلاد، فالعذر في إظهار شيء من ذلك رجاء لإماطة الأوهام الباطلة عن القلوب أظهر، واللوم عن قائله أقل.
فإن قيل: فقد فرقتم بين التأويل المقطوع والمظنون، فبماذا يحصل القطع بصحة التأويل؟ قلنا بأمرين: (أحدهما) أن يكون المعنى مقطوعا ثبوته لله -تعالى- كفوقية المرتبة (والثاني) ألا يكون اللفظ إلا محتملا لأمرين، وقد بطل أحدهما وتعين الثاني، مثاله قوله -تعالى-:
{ وهو القاهر فوق عباده } [الأنعام: 18] فإنه إن ظهر في وضع اللسان أن الفوق لا يحتمل إلا فوقية المكان أو فوقية الرتبة، ولما بطل فوقية المكان لمعرفة التقديس لم يبق إلا فوقية الرتبة، كما يقال: السيد فوق العبد والزوج فوق الزوجة، والسلطان فوق الوزير، فالله فوق عباده بهذا المعنى، وهذا كالمقطوع به في لفظ الفوق، وأنه لا يستعمل في لسان العرب إلا في هذين المعنيين. أما لفظ الاستواء إلى السماء وعلى العرش ربما لا ينحصر مفهومه في اللغة هذا الانحصار، وإذا تردد بين ثلاثة معان: معنيان جائزان على الله -تعالى-، ومعنى واحد هو الباطل، فتنزيله على أحد المعنيين الجائزين أن يكون بالظن وبالاحتمال المجرد، وهذا تمام النظر في الكف عن التأويل.
(التصرف الثالث الذي يجب الإمساك عنه: التصريف) ومعناه أنه إذا ورد قوله -تعالى-:
{ استوى على العرش } [الرعد: 2] فلا ينبغي أن يقال مستو ويستوي؛ لأن دلالة قوله هو مستو على العرش على الاستقرار أظهر من قوله: { رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش } [الرعد: 2] الآية، بل هو كقوله: { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء } [البقرة: 29] فإن هذا يدل على استواء قد انقضى من إقبال على خلقه أو على تدبير المملكة بواسطته، ففي تغيير التصاريف ما يوثق في تغيير الدلالات والاحتمالات، فليجتنب التصريف كما يجتنب الزيادة، فإن تحت التصريف الزيادة والنقصان.
(التصريف الرابع الذي يجب الإمساك عنه: القياس والتفريع) مثل أن يرد لفظ اليد فلا يجوز إثبات الساعد والعضد والكف مصيرا إلى أن هذا من لوازم اليد، وإذا ورد الأصبع لم يجز ذكر اللحم والعظم والعصب وإن كانت اليد المشهورة لا تنفك عنه. وأبعد من هذه الزيادة إثبات الرجل عند ورود اليد، وإثبات الفم عند ورود العين أو عند ورود الضحك، وإثبات الأذن والعين عند ورود السمع والبصر، وكل ذلك محال وكذب وزيادة، وقد يتجاسر عليه بعض الحمقى من المشبهة الحشوية؛ فلذلك ذكرناه.
(التصرف الخامس: لا يجمع بين متفرق) ولقد بعد عن التوفيق من صنف كتابا في جمع هذه الأخبار ورسم في كل عضو بابا، فقال: باب في إثبات الرأس وباب في اليد إلى غير ذلك، وسماه كتاب الصفات، فإن هذه كلمات متفرقة صدرت من رسول الله - عليه السلام - في أوقات متفرقة متباعدة اعتمادا على قرائن مختلفة تفهم السامعين معاني صحيحة، فإذا ذكرت مجموعة على مثال خلق الإنسان صار جمع تلك المتفرقات في السمع دفعة واحدة قرينة عظيمة في تأكيد الظاهر وإيهام التشبيه، وصار الإشكال في أن الرسول - عليه السلام - لما نطق بما يوهم خلاف الحق أعظم في النفس وأوقع، بل الكلمة الواحدة يتطرق إليها الاحتمال، فإذا اتصل به ثانية وثالثة ورابعة من جنس واحد صار متواليا بضعف الاحتمال بالإضافة إلى الجملة؛ ولذلك يحصل من الظن بقول المخبرين الثلاثة ما لا يحصل بقول الواحد، بل يحصل من العلم القطعي بخبر التواتر ما لا يحصل بالآحاد، ويحصل من العلم القطعي باجتماع التواتر ما لا يحصل بالآحاد. وكل ذلك نتيجة الاجتماع إذ يتطرق الاحتمال إلى قول كل عدل وإلى كل واحدة من القرائن، فإذا انقطع الاحتمال أو ضعف فلذلك لا يجوز جمع المتفرقات.
(التصرف السادس: التفريق بين المجتمعات) فكما لا يجمع بين متفرقة فلا يفرق بين مجتمعة، فإن كل كلمة سابقة على كلمة أو لاحقة لها مؤثرة في تفهيم معناه مطلقا ومرجحة الاحتمال الضعيف فيه، فإذا فرقت سقطت دلالتها، مثاله قوله -تعالى-:
{ وهو القاهر فوق عباده } [الأنعام: 18] لا تسلط على أن يقول القائل: هو فوق، لأنه إذا ذكر القاهر قبله ظهرت دلالة الفوق على الفوقية التي لقاهر مع المقهور، وهي فوقية الرتبة، ولفظ (القاهر) يدل عليه، بل لا يجوز أن يقول وهو القاهر فوق غيره، بل ينبغي أن يقول فوق عباده؛ لأن ذكر العبودية في وصفه في الله فوقه يؤكد احتمال فوقية السيادة، إذ يحسن أن يقال: زيد فوق عمرو قبل أن يتبين تفاوتهما في معنى السيادة والعبودية أو غلبة القهر أو نفوذ الأمر بالسلطة أو بالأبوة أو بالزوجية فهذه الأمور يغفل عنها العلماء فضلا عن العوام، فكيف يسلط العوام في مثل ذلك على التصرف بالجمع والتفريق والتأويل والتفسير وأنواع التغيير، ولأجل هذه الدقائق بالغ السلف في الجمود والاقتصار على موارد التوقيف كما ورد على الوجه الذي ورد، وباللفظ الذي ورد، والحق ما قالوه والصواب ما رأوه، فأهم المواضع بالاحتياط ما هو تصرفه في ذات الله وصفاته وأحق المواضع بإلجام اللسان وتقييده عن الجريان فيما يعظم فيه الخطر، وأي خطر أعظم من الكفر؟
(الوظيفة السادسة في الكف بعد الإمساك)
وأعني بالكف كف الباطن عن التفكير في هذه الأمور، فذلك واجب عليه كما وجب عليه إمساك اللسان عن السؤال والتصرف، وهذا أثقل الوظائف وأشدها، وهو واجب كما وجب على العاجز الزمن ألا يخوض غمرة البحار وإن كان يتقاضاه طبعه أن يغوص في البحار ويخرج دررها وجواهرها، ولكن لا ينبغي أن يغره نفاسة جواهرها مع عجزه عن نيلها، بل ينبغي أن ينظر إلى عجزه وكثرة معاطبها ومهالكها ويتفكر أنه إن فاته نفائس البحار فما فاته إلا زيادات وتوسعات في المعيشة وهو مستغن عنها، فإن غرق أو التقمه تمساح فاته أصل الحياة، فإن قلت: إن لم ينصرف قلبه من التفكير والتشوف إلى البحث فما طريقه؟ قلت: طريقه أن يشغل نفسه بعبادة الله وبالصلاة وبقراءة القرآن والذكر، فإن لم يقدر فبعلم آخر لا يناسب هذا الجنس من لغة أو نحو أو خط أو طب أو فقه، فإن لم يمكنه فبحرفة أو صناعة ولو الحراثة والحياكة، فإن لم يقدر فبلعب ولهو، وكل ذلك خير له من الخوض في هذا البحر البعيد غوره وعمقه، العظيم خطره وضرره، بل لو اشتغل العامي بالمعاصي البدنية ربما كان أسلم له من أن يخوض في البحث عن معرفة الله -تعالى-، فإن ذلك غايته الفسق، وهذا عاقبته الشرك. و
{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [النساء: 48] فإن قلت: العامي إذا لم تسكن نفسه إلى الاعتقادات الدينية إلا بدليل، فهل يجوز أن يذكر له الدليل، فإن جوزت ذلك فقد رخصت له في التفكير والنظر، وأي فرق بينه وبين غيره؟ الجواب: أني أجوز له أن يسمع الدليل على معرفة الخالق ووحدانيته وعلى صدق الرسول وعلى اليوم الآخر، ولكن بشرطين: (أحدهما) ألا يزاد معه على الأدلة التي في القرآن (والآخر) ألا يماري فيه إلا مراء ظاهرا ولا يتفكر فيه إلا تفكيرا سهلا جليا ولا يمعن في التفكر، ولا يوغل غاية الإيغال في البحث. وأدلة هذه الأمور الأربعة ما ذكر في القرآن، أما الدليل على معرفة الخالق فمثل قوله -تعالى-: { قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله } [يونس: 31] وقوله: { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد } [ق: 6-10] وكقوله: { فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا } [عبس: 24 - 31] وقوله: { ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا } إلى قوله: { وجنات ألفافا } [النبأ: 6 - 16] وأمثال ذلك، وهي قريب من خمسمائة آية جمعناها في كتاب جواهر القرآن، بها ينبغي أن يعرف الخلق جلال الله الخالق وعظمته لا بقول المتكلمين: إن الأغراض حادثة، وإن الجواهر لا تخلو عن الأغراض الحادثة فهي حادثة، ثم الحادث يفتقر إلى محدث، فإن تلك التقسيمات والمقدمات وإثباتها بأدلتها الرسمية يشوش قلوب العوام، والدلالات الظاهرة القريبة من الأفهام على ما في القرآن تنفعهم وتسكن نفوسهم وتغرس في قلوبهم الاعتقادات الجازمة، وأما الدليل على الوحدانية فيقنع فيه بما في القرآن من قوله: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [الأنبياء: 22] فإن اجتماع المدبرين سبب إفساد التدبير، وبمثل قوله: { قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } [الإسراء: 42] وقوله -تعالى-: { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } [المؤمنون: 91]
وأما صدق الرسول فيستدل عليه بقوله -تعالى-:
{ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } [الإسراء: 88] وبقوله: { فأتوا بسورة من مثله } [البقرة: 23] وقوله: { قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } [هود: 13] وأمثاله.
وأما اليوم الآخر فيستدل عليه بقوله:
{ قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } [يس: 78، 79] وبقوله: { أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى } [القيامة] إلى قوله: { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } [القيامة: 36 - 40] وبقوله: { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب } [الحج] إلى قوله: { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } [الحج: 5] وقوله: { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى } [فصلت: 39] وأمثال ذلك كثير في القرآن، فلا ينبغي أن يزاد عليه، فإن قيل: فهذه الأدلة التي اعتمدها المتكلمون وقرروا وجه دلالتها فما بالهم يمتنعون عن تقرير هذه الأدلة ولا يمنعون عنها، وكل ذلك مدرك بنظر العقل وتأمله؟ فإن فتح للعامي باب النظر فليفتح مطلقا أو ليسد عليه طريق النظر رأسا وليكلف التقليد من غير دليل. (الجواب) أن الأدلة تنقسم إلى ما يحتاج فيه إلى تفكر وتدقيق خارج عن طاقة العامي وقدرته، وإلى ما هو جلي سابق إلى الأفهام ببادي الرأي من أول النظر مما يدركه كافة الناس بسهولة، فهذا لا خطر فيه، وما يفتقر إلى التدقيق فليس على حد وسعه؛ فأدلة القرآن مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان، وأدلة المتكلمين مثل الدواء ينتفع به آحاد الناس، ويستضر به الأكثرون، بل أدلة القرآن كالماء الذي ينتفع به الصبي الرضيع والرجل القوي، وسائر الأدلة كالأطعمة التي ينتفع بها الأقوياء مرة ويمرضون بها أخرى ولا ينتفع بها الصبيان أصلا؛ ولهذا قلنا: أدلة القرآن أيضا ينبغي أن يصغي إليها إصغاءه إلى كلام جلي، ولا يماري فيه إلا مراء ظاهرا، ولا يكلف نفسه تدقيق الفكر وتحقيق النظر، فمن الجلي أن من قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر كما قال: { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } [الروم: 27] وأن التدبير لا ينتظم في دار واحدة بمدبرين فكيف ينتظم في كل العالم؟ وأن من خلق علم، كما قال -تعالى-: { ألا يعلم من خلق } [الملك: 14] فهذه الأدلة تجري للعوام مجرى الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي، وما أخذه المتكلمون وراء ذلك من تنقير وسؤال وتوجيه إشكال ثم اشتغال بحله فهو بدعة وضرره في حق أكثر الخلق ظاهر، فهو الذي ينبغي أن يتوقى، والدليل على تضرر الخلق به المشاهدة والعيان والتجربة، وما ثار من الشر منذ نبغ المتكلمون وفشت صناعة الكلام مع سلامة العصر الأول من الصحابة عن مثل ذلك. ويدل عليه أيضا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والصحابة بأجمعهم ما سلكوا في المحاجة مسلك المتكلمين في تقسيماتهم وتدقيقاتهم لا لعجز منهم عن ذلك، فلو علموا أن ذلك نافع لأطنبوا فيه، ولخاضوا في تحرير الأدلة خوضا يزيد على خوضهم في مسائل الفرائض، فإن قيل: إنما أمسكوا عنه لقلة الحاجة فإن البدع إنما نبعت بعدهم فعظم حاجة المتأخرين وعلم الكلام راجع إلى علم معالجة المرضى بالبدع، فلما قلت في زمانهم أمراض البدع قلت عنايتهم بجميع طرق المعالجة، فالجواب من وجهين: (أحدهما) أنهم في مسائل الفرائض ما اقتصروا على بيان حكم الوقائع، بل وضعوا المسائل وفوضوا فيها ما تنقضي الدهور ولا يقع مثله؛ لأن ذلك ما أمكن وقوعه فصنفوا علمه ورتبوه قبل وقوعه، إذ علموا أنه لا ضرر في الخوض فيه، وفي بيان حكم الواقعة قبل وقوعها، والعناية بإزالة البدع ونزعها عن النفوس أهم، فلم يتخذوا ذلك صناعة لأنهم عرفوا أن الاستضرار بالخوض فيه أكثر من الانتفاع، ولولا أنهم كانوا قد حذروا من ذلك وفهموا تحريم الخوض لخاضوا فيه. (والجواب الثاني) أنهم كانوا محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وإلى إثبات البعث مع منكريه، ثم ما زادوا في هذه القواعد التي هي أمهات العقائد على أدلة القرآن، فمن أقنعه ذلك قبلوه ومن لم يقنع قتلوه، وعدلوا إلى السيف والسنان بعد إفشاء أدلة القرآن وما ركبوا ظهر اللجاج في وضع المقاييس العقلية وترتيب المقدمات وتحرير طريق المجادلة، وتذليل طرقها ومنهاجها، كل ذلك لعلمهم بأن ذلك مثار الفتن ومنبع التشويش، ومن لا يقنعه أدلة القرآن لا يقمعه إلا السيف والسنان، فما بعد بيان الله بيان، على أننا ننصف ولا ننكر أن حاجة المعالجة تزيد بزيادة المرض، وأن لطول الزمان وبعد العهد عن عصر النبوة تأثيرا في إثارة الإشكالات، وأن للعلاج طريقين: (أحدهما): الخوض في البيان والبرهان إلى أن يصلح واحد يفسد به اثنان، فإن صلاحه بالإضافة إلى الأكياس وفساده بالإضافة إلى البله، وما أقل الأكياس وما أكثر البله والعناية بالأكثرين أولى. (والطريق الثاني): طريق السلف في الكف والسكوت والعدول إلى الدرة والسوط والسيف، وذلك مما يقنع الأكثرين وإن كان لا يقنع الأقلين، وآية إقناعه أن من يسترق من الكفار من العبيد والإماء تراهم يسلمون تحت ظلال السيوف، ثم يستمرون عليه حتى يصير طوعا ما كان في البداية كرها، ويصير اعتقاده جزما ما كان في الابتداء مراء وشكا، وذلك بمشاهدة أهل الدين والمؤانسة بهم وسماع كلام الله ورؤية الصالحين وخبرهم وقرائن من هذا الجنس تناسب طباعهم مناسبة أشد من مناسبة الجدل والدليل؛ فإذا كان كل واحد من العلاجين يناسب قوما دون قوم وجب ترجيح الأنفع في الأكثر، فالمعاصرون للطبيب الأول المؤيد بروح القدس المكاشف من الحضرة الإلهية الموحى إليه من الخبير البصير بأسرار عباده وبواطنهم أعرف بالأصوب والأصلح قطعا، فسلوك سبيلهم لا محالة أولى.
(الوظيفة السابعة التسليم لأهل المعرفة)
وبيانه أنه يجب على العامي أن يعتقد أن ما انطوى عنه من معاني هذه الظواهر وأسرارها ليس منطويا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن الصديق وعن أكابر الصحابة وعن الأولياء والعلماء الراسخين، وأنه إنما انطوى عنه لعجزه وقصور معرفته، فلا ينبغي أن يقيس بنفسه غيره ولا تقاس الملائكة بالحدادين، وليس ما تخلو عنه مخادع العجائز يلزم منه أن تخلو عنه خزائن الملوك، فقد خلق الناس أشتاتا ومتفاوتين كمعادن الذهب والفضة وسائر الجواهر فانظر إلى تفاوتها وتباعد ما بينهما صورة ولونا وخاصية ونفاسة، فكذلك القلوب معادن لسائر جواهر المعارف فبعضها معدن للنبوة والولاية والعلم ومعرفة الله -تعالى-، وبعضها معدن للشهوات البهيمية والأخلاق الشيطانية، بل ترى الناس يتفاوتون في الحرف والصناعات، فقد يقدر الواحد بخفة يده، وحذاقة صناعته على أمور لا يطمع الآخر في بلوغ أوائلها فضلا عن غايتها، ولو اشتغل بتعلمها جميع عمره فكذلك معرفة الله -تعالى-، بل كما ينقسم الناس إلى جبان عاجز لا يطيق النظر إلى التطام أمواج البحر وإن كان على ساحله، وإلى من يطيق ذلك ولكن لا يمكنه الخوض في أطرافه وإن كان قائما في الماء على رجله، وإلى من يطيق ذلك لكن لا يطيق رفع الرجل عن الأرض اعتمادا على السباحة، وإلى من يطيق السباحة إلى حد قريب من الشط لكن لا يطيق خوض البحر إلى لجته والمواضع المغرقة المخطرة، وإلى من يطيق ذلك لكن لا يطيق الغوص في عمق البحر إلى مستقره الذي فيه نفائسه وجواهره، فهكذا مثال بحر المعرفة وتفاوت الناس فيه مثله (حذو القذة بالقذة من غير فرق) (فإن قيل) فالعارفون محيطون بكمال معرفة الله -سبحانه- حتى لا ينطوي عنهم شيء قلنا: هيهات، فقد بينا بالبرهان القطعي في كتاب (المقصد الأسنى في معاني أسماء الله الحسنى) أنه لا يعرف الله كنه معرفته إلا الله، وأن الخلائق وإن اتسعت معرفتهم وغزر علمهم - فإذا أضيف ذلك إلى علم الله -سبحانه- فما أوتوا من العلم إلا قليلا، لكن ينبغي أن يعلم أن الحضرة الإلهية محيطة بكل ما في الوجود، إذ ليس في الوجود إلا الله وأفعاله، فالكل من الحضرة الإلهية كما أن جميع أرباب الولايات في المعسكر حتى الحراس هم من المعسكر، فهم من جملة الحضرة السلطانية، وأنت لا تفهم الحضرة الإلهية إلا بالتمثيل إلى الحضرة السلطانية، فاعلم أن كل ما في الوجود داخل في الحضرة الإلهية، ولكن كما أن السلطان له في مملكته قصر خاص وفي فناء قصره ميدان واسع، ولذلك الميدان عتبة يجتمع عليها جميع الرعايا ولا يمكنون من مجاوزة العتبة ولا إلى طرف الميدان ثم يؤذن لخواص المملكة في مجاوزة العتبة، ودخول الميدان والجلوس فيه على تفاوت في القرب والبعد بحسب مناصبهم، وربما لم يطرق إلى القصر الخاص إلا الوزير وحده، ثم إن الملك يطلع الوزير من أسرار ملكه على ما يريد، ويستأثر عنه بأمور لا يطلعه عليها فكذلك فافهم على هذا المثال تفاوت الخلق في القرب والبعد من الحضرة الإلهية، فالعتبة التي هي آخر الميدان موقف جميع العوام ومردهم لا سبيل لهم إلى مجاوزتها، فإن جاوزوا حدهم استوجبوا الزجر والتنكيل، وأما العارفون فقد جاوزوا العتبة وانسرحوا في الميدان، ولهم فيه جولان على حدود مختلفة في القرب والبعد، وتفاوت ما بينهم كثير، وإن اشتركوا في مجاوزة العتبة وتقدموا على العوام المفترشين، وأما حظيرة القدس في صدر الميدان فهي أعلى من أن تطأها أقدام العارفين، وأرفع من أن تمتد إليها أبصار الناظرين، بل لا يلمح ذلك الجناب الرفيع صغير أو كبير إلا غض من الدهشة والحيرة طرفه فانقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير؛ فهذا ما يجب على العامي أن يؤمن به جملة وإن لم يحط به تفصيلا، فهذه هي الوظائف السبع الواجبة على عوام الخلق في هذه الأخبار التي سألت عنها. وهي حقيقة مذهب السلف، وأما الآن فنشتغل بإقامة الدليل على أن الحق هو مذهب السلف. اهـ.
أقول: ثم إن الغزالي أورد بعد هذا فصلا في الاحتجاج على أن مذهب السلف هو الحق، وقد علمت صفوة المذهب مما سلف. ونعود إلى تفسير باقي الآيات.
{ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.}
لما كان المتشابه مزلة الأقدام ومدرجة الزائغين إلى الفتنة وصل الراسخون الإقرار بالإيمان به بالدعاء بالحفظ من الزيغ بعد الهداية، فإنهم لرسوخهم في العلم يعرفون ضعف البشر وكونهم عرضة للتقلب والنسيان والذهول، ويعرفون أن قدرة الله فوق كل شيء، وعلمه لا يحاط به، وهو المحيط بكل شيء، فيخافون أن يستزلوا فيقعوا في الخطأ والخطأ في هذا المقام قرين الخطر، وليس للإنسان بعد بذل جهده في إحكام العلم في مسائل الاعتقاد وإحكام العمل بحسن الاهتداء إلا اللجأ إلى الله -تعالى- بأن يحفظه من الزيغ العارض، ويهبه الثبات على معرفة الحقيقة، والاستقامة على الطريقة، فالرحمة في هذا المقام هي الثبات والاستقامة واختاره الأستاذ الإمام. أقول: ولا تلتفت في معنى الآية إلى مجادلة الأشعرية للمعتزلة في إسناد الإزاغة إلى الله -تعالى-، فإنه -تعالى- يسند إليه كل شيء في مقام تقرير الإيمان به، وذلك لا ينافي اختيار العبد في زيغه. فقد قال -تعالى- في سورة الصف:
{ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } [الصف: 5] ولكل مقام مقال.
ومن مباحث الألفاظ في الآية أن قوله -تعالى-: من لدنك معناه: من عندك فإن (لدن) تستعمل بمعنى (عند) وإن لم تكن مرادفة لها - بل هي أخص وأقرب مكانا - ولا لـ (لدى). فقد فرقوا بينهما بخمسة أمور، ولا تستعمل " لدن " إلا في الشيء الحاضر، فهي أدل على الاختصاص. فهذه الرحمة المطلوبة منه في هذا المقام هي العناية الإلهية والتوفيق الذي لا يناله العبد بكسبه. ولا يصل إليه بسعيه، ويؤيد ذلك التعبير بالهبة ووصفه -تعالى- بالوهاب، فإن الهبة عطاء بلا مقابل.
{ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد} جمع الناس وحشرهم واحد، وجمعهم لذلك اليوم للجزاء فيه وهو يوم القيامة، وكونه (لا ريب فيه) معناه: أننا موقنون به لا شك فيه؛ لأنك أخبرت به ووعدت وأوعدت بالجزاء فيه، وليس معناه كمعنى
{ ذلك الكتاب لا ريب فيه } [البقرة: 2] أي أنه ليس من شأنه أن يرتاب فيه؛ فإن الكلام هناك عن الكتاب في نفسه، والكلام هنا حكاية عن المؤمنين الراسخين في العلم؛ ولذلك علل نفي الريب بنفي إخلاف الميعاد، وجيء به على طريق الالتفات عن الخطاب إلى الغيبة للإشعار بهذا التعليل، هذا على قول الجمهور: أن الجملة كالدعاء من كلام الراسخين في العلم، وجوزوا أن تكون من كلامه -تعالى- لتقرير قولهم ودعائهم وهو خلاف المتبادر.
قال الأستاذ الإمام: إن مناسبة هذا الدعاء للإيمان بالمتشابه ظاهرة على القول بأن المتشابه هو الإخبار عن الآخرة، أي أنهم كما يؤمنون بمضمونه والمراد منه وما يئول إليه، وأما على القول بأنه لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم فوجهه أنهم يذكرون يوم الجمع؛ ليستشعروا أنفسهم الخوف من تسرب الزيغ الذي يبسلهم في ذلك اليوم. فهذا الخوف هو مبعث الحذر والتوقي من الزيغ. أعاذنا الله منه بمنه وكرمه.

تفسير سفيان الثوري

. سفيان عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُبَيْطٍ أَوْ جوبير عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيات محكمات قال الناسخ وأخر متشابهات قال المنسوخ [الآية: 7]

تفسير عبد الرزاق الصنعاني

.أخبرنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : نا مَعْمَرٌ ، عَنْ قَتَادَةَ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} قَالَ: الْمُحْكَمُ مَا يُعْمَلُ بِهِ ، {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} ، قَالَ مَعْمَرٌ: وَكَانَ قَتَادَةُ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قَالَ: إِنْ لَمْ تَكُنِ الْحَرُورِيَّةُ أَوِ السَّبَئِيَّةُ ، فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ وَلَعَمْرِي لَقَدْ كَانَ فِي أَصْحَابِ بَدْرٍ وَالْحُدَيْبِيَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ خَبَرٌ لِمَنِ اسْتَخْبَرَ ، وَعِبْرَةٌ لِمَنِ اعْتَبَرَ ، لِمَنْ كَانَ يَعْقِلُ أَوْ يُبْصِرُ ، إِنَّ الْخَوَارِجَ خَرَجُوا ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ ، بِالْمَدِينَةِ ، وَبِالشَّامِ ، وَبِالْعِرَاقِ ، وَأَزْوَاجُهُ يَوْمَئِذٍ أَحْيَاءٌ ، وَاللَّهِ إِنْ خَرَجَ مِنْهُمْ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى حَرُورِيًّا قَطُّ ، وَلَا رَضُوا الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ ، وَلَا مَالَؤُهُمْ فِيهِ ، بَلْ كَانُوا يُحَدِّثُونَ بِعَيْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ ، وَنَعْتِهِ الَّذِي نَعَتَهُمْ بِهِ ، وَكَانُوا يَبْغَضُونَهُمْ بِقُلُوبِهِمْ ، وَيُعَادُونَهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ ، وَتَشْتَدُّ وَاللَّهِ أَيْدِيهِمْ عَلَيْهِمْ إِذَا لَقُوهُمْ ، وَلَعَمْرِي لَوْ كَانَ أَمْرُ الْخَوَارِجِ هُدًى لَاجْتَمَعَ ، وَلَكِنَّهُ كَانَ ضَلَالَةً فَتَفَرَّقَ ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ إِذَا كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ وَجَدْتَ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ، فَقَدْ أَلَاصُوا هَذَا الْأَمْرَ مُنْذُ زَمَانٍ طَوِيلٍ ، فَهَلْ أَفْلَحُوا فِيهِ يَوْمًا قَطُّ ، أَوْ أَنْجَحُوا؟ يَا سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ لَا يَعْتَبِرُ آخِرُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بِأَوَّلِهِمْ؟ إِنَّهُمْ لَوْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ أَوْ هُدًى قَدْ أَظْهَرَهُ اللَّهُ وَأَفْلَجَهُ وَنَصَرَهُ ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى بَاطِلٍ ، فَأَكْذَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَدْحَضَهُ ، فَهُمْ كَمَا رَأَيْتُمْ كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُمْ قَرْنٌ أَدْحَضَ اللَّهُ حُجَّتَهُمْ ، وَأَكْذَبَ أُحْدُوثَتَهُمْ ، وَأْهَرَاقَ دِمَاءَهُمْ ، وَإِنْ كَتَمُوهُ كَانَ قَرْحًا فِي قُلُوبِهِمْ ، وَغَمًّا عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ أَظْهَرُوهُ أَهْرَاقَ اللَّهُ دِمَاءَهُمْ ، ذَاكُمْ وَاللَّهِ دِينُ سُوءٍ ، فَاجْتَنِبُوهُ ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الْيَهُودِيَّةَ لَبِدْعَةٌ ، وَإِنَّ النَّصْرَانِيَّةَ لَبِدْعَةٌ ، وَإِنَّ الْحَرُورِيَّةَ لَبِدْعَةٌ وَإِنَّ السَّبَئِيَّةَ لَبِدْعَةٌ ، مَا نَزَلَ بِهِنَّ كِتَابٌ وَلَا سَنَّهُنَّ نَبِيٌّ

أخبرنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَهَا فَقَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ ، فَاحْذَرُوهُمْ»

أخبرنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : نا مَعْمَرٌ ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُهَا: " {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: آمَنَّا بِهِ "

تفسير مجاهد

. أنبأ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: نا آدَمُ، قَالَ: نا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] يَقُولُ: «أُحْكِمَ مَا فِيهَا مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ» أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: نا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: نا آدَمُ، قَالَ: نا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] يَقُولُ: " يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، كَقَوْلِهِ {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] ، وَكَقَوْلِهِ {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125] ، وَكَقَوْلِهِ {زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] " أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: نا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: نا آدَمُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {زَيْغٌ} [آل عمران: 7] قَالَ: «شَكٌّ» أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: نا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: نا آدَمُ، قَالَ: نا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران: 7] ، يَعْنِي: «الْهَلَكَاتِ الَّتِي أُهْلِكُوا بِهَا» أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: نا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: نا آدَمُ، قَالَ: نا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قَالَ: " يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ , وَ {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] "

تفسير مقاتل بن سليمان

ثم قال- سبحانه-: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ يعمل بهن وهن الآيات التي فِي الأنعام قوله- سُبْحَانَهُ- قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [50 ب] إلى ثلاث آيات آخرهن لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . يَقُولُ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ يعنى أصل الكتاب لأنهن فِي اللوح المحفوظ مكتوبات وهن محرمات عَلَى الأمم كلها فِي كتابهم. وإنما تسمين أم الكتاب لأنهن مكتوبات فِي جميع الكتب التي أنزلها اللَّه- تبارك وتعالى- عَلَى جميع الْأَنْبِيَاء، وليس من أَهْل دين إِلَّا وَهُوَ يوصي بهن. ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ آلم. المص. المر. الر.
شَبَّه عَلَى اليهود كم تملك هَذِهِ الأمة من السنين والمتشابهات هَؤُلاءِ الكلمات الأربع فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يعني ميل عن الهدى وَهُوَ الشك فهم اليهود فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ يعني ابتغاء الكفر وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ يعني منتهى ما يَكُون وكم يَكُون يريد بِذَلِك الملك. يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ كم يملكون من السنين يعني أمة محمد يملكون إلى يوم الْقِيَامَة إِلَّا أياما يبتليهم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بالدجال. ثُمّ استأنف فَقَالَ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يعني المتدارسون علم التوراة فهم عَبْد الله بن سلام، وأصحابه [من] مؤمني أَهْل التوراة يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا يعني قليله وكثيره من عِنْد ربنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ فما يسمع إلا أولو الألباب يعني من كان لَهُ لب وعقل يعني ابْن سلام وأصحابه: فيعلمون أن كُلّ شيء من هَذَا وغيره من عِنْد اللَّه.

تيسير التفسير للقطان

هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ ٧

آيات محكمات: محكمة العبارة لا تقبل الصرف عن ظاهرها. أُم الكتاب: أصله الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود. وأخر متشابهات: محتملات لعدة معان لا يتضح المقصود فيها الا بتدقيق النظر. زيغ: عدول عن الحق. ابتغاء الفتنة: طلبا للفتنة. الراسخون في العلم: المتمكنون منه.
لقد أنزل الله عليك القرآن وجعل فيه آيات محكمات، محدّدة المعنى بينة المقاصد، هي الأصل واليها المرجع في الدين والفرائض والحدود. كما جعل فيه آيات متشابهات يدِقُّ معناها على كثير من الناس وتشتبه على غير الراسخين في العِلم. فأما الآيات المتشابهات فقد أُنزلت بحكمتهتعالى لتبعث العلماء على تدقيق النظر ودقة الفكر في الاجتهاد. لكن أهل الشك والذين في قلوبهم ميل عن الحق ـ يتّبعون ما تشابه من الآيات رغبةً في اثارة الفتنة.. يؤوّلونها حسب أهوائهم، فيُضلّون وراءهم خلقاً كثيرا.
ولا يعلم تأويل هذه الآيات المتشابهات الا الله والذين تثبتوا في العلم وتمكنوا منه، وهؤلاء يقولون: اننا نؤمن بالقرآن كاملاً، لا نفرق بين مُحكمة ومتشابهه. وما يعقل ذلك ويفقه حكمته الا ذوو البصائر المستنيرة، والعقول الراجحة.
هذا وقد استفاض الحديث حول أن في القرآن محكماً ومشابهاً، وان العلماء أمام هذه المتشابه فريقان: فريق السلف الذي يرى التفويض وعدم الخوض في معناه، وفريق الخلف الذي يرى التأويل وصرف اللفظ عن دلالته المعروفة الى معنى يتفق مع ما دل عليه المحكم. ويعتبرون من ذلك أمثال قولهتعالى "الرحمنُ على العرش استوى" "يد الله فوق أيديهم" "بل يداه مبسوطتان" "والارض جميعاً قبضتُهُ يوم القيامة والسّماواتُ مطويات بيمينه" فيقولون ان معنى الاستواء هو الاستيلاء. واليد بمعنى القدرة. واليمين بمعنى القوة. وبسطُ اليد بمعنى كثرة المنح والعطاء، الى غير ذلك.
وهناك أقوال كثيرة اختلافات كبيرة في هذا الموضوع لا طائل منها ولا فائدة.

جامع البيان للإيجي

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) القرآن (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) واضحات الدلالة (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) أصله يرد إلِيها غيرها، وهن ناسخ القرآن، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه، وما يؤمن به، ويعمل به أو قوله: " قل تعالوا "، والآيتان بعدها، وقوله: " وقضى ربك " (الإسراء: 23)، إلى ثلاث آيات بعدها، والآيات كلها في تكاملها كآية واحدة، أو كل واحدة منهن أم الكتاب.

 

(وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) فيها اشتباه في الدلالة لكثير من الناس إلا للمهرة من العلماء، وهذا يظهر فضلهم، وهن المنسوخة، والمقدم والمؤخر منه، والأمثال والأقسام، وما يؤمن به ولا يعمل به، أو الحروف التي فِي أوائل السور (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) عدول عن الحق، كاليهود، وقالت: الحروف المقطعة بيان مدة أجل هذه الأمة (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) يتعلقون به لينزلوه على مقاصدهم الفاسدة، وأما المحكم فتركوه لأنه لا نصيب لهم فيه. (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ): الإضلال. (وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) على ما يشتهونه أو بطلب حقيقته وما يئول أمره إليه. (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) أي ما هو
الحق، أو حقيقته. (إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) اختلفوا في الوقف على " الله " عند أكثر السلف أن تأويل بعض الآيات لا يعلمه أحد إلا الله، ومن القراء من يقف على قوله: " والراسخون في العلم "، وهو قول مجاهد وربيع بن أنس، وروي عن ابن عباس أنه قال: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله. (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) خبر الراسخون إن جعلته مبتدأ، وإلا فهو استئناف أو حال. (كُلٌّ): من المتشابه، والمحكم. (مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) وما يتعظ بالقرآن ولا يفهمه إلا ذوو العقول السليمة، وفي الحديث حين سئل عن الراسخين: " من برت يمينه وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين في العلم ".

روح المعاني

{هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ } استئناف لإبطال شبه الوفد وإخوانهم الناشئة عما نطق به القرآن في نعت المسيح عليه السلام إثر بيان اختصاص الربوبية ومناطها به سبحانه. قيل: إن الوفد قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست تزعم أن عيسى كلمة اللهتعالى وروح منه؟ قال: بلى قالوا: فحسبنا ذلك (فنعى سبحانه عليهم زيغهم) وفتنتهم وبين أن الكتاب مؤسس على أصول رصينة وفروع مبنية عليها ناطقة بالحق قاضية ببطلان ما هم عليه ـ كذا قيل ـ ومنه يعلم وجه مناسبة الآية لما قبلها، واعترض بأن هذا الأثر لم يوجد له أثر في "الصحاح" ولا سند يعول عليه في غيرها، وقصارى ما وجد عن الربيع أن المراد بالموصول الآتي الوفد، وفيه أن الأثر بعينه أخرجه في «الدر المنثور» عن أبـي حاتم وابن جرير عن الربيع، وعن بعضهم أن الآية نزلت في اليهود، وذلك حين مر أبو ياسر بن أخطب (فجاء رجل من يهود لرسول) الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة [1-2] { الۤمۤ * ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من يهود فقال: أتعلمون والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل عليه {الۤمۤ * ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ} فقال: أنت سمعته؟ قال: نعم فمشى حي وافى أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك {الۤمۤ * ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ }؟ فقال: بلى فقال: لقد بعث اللهتعالى قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبـي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة هل مع هذا غيره؟ قال: نعم { الۤمۤصۤ } [الأعراف: 1] قال: هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون فهذه مائة وإحدى وستون سنة هل مع هذا غيره؟ قال: نعم { الۤر } [يونس: 1] قال: هذه أثقل وأطول هل مع هذا غيره؟ قال: بلى { الۤمۤر } [الرعد: 1] قال: هذه أثقل وأطول ثم قال: لقد لبس علينا أمرك حتى ما ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً ثم قال: قوموا ثم قال أبو ياسر لأخيه ومن معه: وما يدريكم لعله لقد جمع هذا كله لمحمد؟ فقالوا: لقد تشابه علينا أمره». وقد أخرج ذلك البخاري في «التاريخ» وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضي اللهتعالى عنهما إلا أن فيه فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم وهو مؤذن بعدم الجزم بذلك ومع هذا يبعده ما تقدم من رواية «إن اللهتعالى أنزل في شأن أولئك الوفد من مصدر آل عمران إلى بضع وثمانين آية» وعلى تقدير الإغماض عن هذا يحتمل أن يكون وجه اتصال الآية بما قبلها أن في المتشابه خفاءاً كما أن تصوير ما في الأرحام كذلك أو أن في هذه تصوير الروح بالعلم وتكميله به وفيما قبلها تصوير الجسد وتسويته فلما أن في كل منهما تصويراً وتكميلاً في الجملة ناسب/ ذكره معه ولما أن بين التصوير الحقيقي الجسماني والذي ليس هو كذلك من الروحاني من التفاوت والتباين ترك العطف.

وقوله سبحانه: {مِنْهُ آيَـٰتٌ} الظرف فيه خبر مقدم، وآيات مبتدأ مؤخر أو بالعكس، ورجح الأوّل: بأنه الأوفق بقواعد الصناعة، والثاني: بأنه أدخل في جزالة المعنى إذ المقصود الأصلي انقسام الكتاب إلى القسمين المعهودين لا كونهما من الكتاب، والجملة إما مستأنفة أو في حيز النصب على الحالية من الكتاب أي هو الذي أنزل عليك الكتاب كائناً على هذه الحالة أي منقسماً إلى محكم وغيره أو الظرف وحده حال و (آيات) مرتفع به على الفاعلية {مُّحْكَمَـٰتٌ } صفة (آيات) أي واضحة المعنى ظاهرة الدلالة محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال والاشتباه {هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ } أي أصله والعمدة فيه يرد إليها غيرها والعرب تسمي كل جامع يكون مرجعاً ـ أماً ـ والجملة إما صفة لما قبلها أو مستأنفة وإنما أفرد ـ الأم ـ مع أن الآيات متعددة لما أن المراد بيان أصلية كل واحدة منها أو بيان أن الكل بمنزلة آية واحدة {وَأُخَرُ} نعت لمحذوف معطوف على (آيات) أي ـ وآيات أخر ـ وهي كما قال الرضيّ: جمع أخرى التي هي مؤنث آخر ومعناه في الأصل أشد تأخراً فمعنى ـ جاءني زيد، ورجل آخر ـ جاءني زيد، ورجل أشد تأخراً منه في معنى من المعاني، ثم نقل إلى معنى غيره فمعنى رجل آخر رجل غير زيد ولا يستعمل إلا فيما هو من جنس المذكور أولا فلا يقال: جاءني زيد وحمار آخر ولا امرأة أخرى، ولما خرج عن معنى التفضيل استعمل من دون لوازم أفعل التفضيل أعني ـ من ـ والإضافة واللام وطوبق بالمجرد عن اللام والإضافة ما هو له نحو رجلان آخران ورجال آخرون وامرأة أخرى وامرأتان أخريان ونسوة أخر.

وذهب أكثر النحويين إلى أنه غير منصرف لأنه وصف معدول عن الآخر قالوا: لأن الأصل في أفعل التفضيل أن لا يجمع إلا مقروناً بالألف واللام ـ كالكبر والصغر ـ فعدل عن أصله وأعطى من الجمعية مجرداً ما لا يعطي غيره إلا مقروناً، وقيل: الدليل على عدل (أخر) أنه لو كان مع من المقدرة كما في ـ الله أكبر ـ للزم أن يقال بنسوة آخر على وزن أفعل لأن أفعل التفضيل ما دام بمن ظاهرة أو مقدرة لا يجوز مطابقته لمن هو له بل يجب إفراده، ولا يجوز أن يكون بتقدير الإضافة لأن المضاف إليه لا يحذف إلا مع بناء المضاف، أو مع ساد مسد المضاف إليه، أو مع دلالة ما أضيف إليه تابع المضاف أخذاً من استقراء كلامهم فلم يبق إلا أن يكون أصله اللام، واعترض عليه أبو علي بأنه لو كان كذلك وجب أن يكون معرفة كسحر. وأجيب بأنه لا يلزم في المعدول عن شيء أن يكون بمعناه من كل وجه وإنما يلزم أن يكون قد أخرج عما يستحقه وما هو القياس فيه إلى صيغة أخرى، نعم قد تقصد إرادة تعريفه بعد النقل إما بألف ولام يضمن معناها فيبنى، أو إما بعلمية كما في سحر فيمنع من الصرف، ولما لم يقصد في (أخر) إرادة الألف واللام أعرب، ولا يصح إرادة العلمية لأنها تضاد الوصفية المقصودة منه. وقال ابن جني: إنه معدول عن آخر من، وزعم ابن مالك أنه التحقيق وظاهر كلام أبـي حيان اختياره ـ واستدلوا عليه بما لا يخلو عن نظر ـ.

ووصف آخر بقوله سبحانه: {مُتَشَـٰبِهَـٰتٌ } وهي في الحقيقة صفة لمحذوف أي محتملات لمعان متشابهات لا يمتاز بعضها عن بعض في استحقاق الإرادة ولا يتضح الأمر إلا بالنظر الدقيق، وعدم الاتضاح قد يكون للاشتراك أو للإجمال، أو لأن ظاهره التشبيه فالمتشابه في الحقيقة وصف لتلك المعاني وصف به الآيات على طريقة وصف الدال بما هو وصف للمدلول فسقط ما قيل: إن واحد متشابهات متشابهة، / وواحد (أخر) أخرى، والواحد هنا لا يصح أن يوصف بهذا الواحد فلا يقال: أخرى متشابهة إلا أن يكون بعض الواحدة يشبه بعضاً ـ وليس المعنى على ذلك ـ وإنما المعنى أن كل آية تشبه آية أخرى فكيف صح وصف الجمع بهذا الجمع ولم يصح وصف مفرده بمفرده؟! ولا حاجة إلى ما تكلف في الجواب عنه بأنه ليس من شرط صحة وصف المثنى والمجموع صحة بسط مفردات الأوصاف على أفراد الموصوفات كما أنه لا يلزم من الإسناد إليهما صحة إسناده إلى كل واحد كما في { فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ } [القصص: 15] إذ الرجل لا يقتتل، وقيل: إنه لما كان من شأن الأمور المتشابهة أن يعجز العقل عن التمييز بها سمي كل ما لا يهتدي العقل إليه متشابهاً وإن لم يكن ذلك بسبب التشابه كما أن المشكل في الأصل ما دخل في أشكاله وأمثاله ولم يعلم بعينه ثم أطلق على كل غامض وإن لم يكن غموضه من تلك الجهة وعليه يكون المتشابه مجازاً أو كناية عما لا يتضح معناه مثلاً فيكون السؤال مغالطة غير واردة رأساً وهذا الذي ذكره في تفسير المحكم والمتشابه هو مذهب كثير من الناس ـ وعليه الشافعية ـ.

وتقسيم الكتاب إليهما من تقسيم الكل إلى أجزائه بناءاً على أن المراد من الكتاب ما بين الدفتين ولامه لتعريف العهد، وحينئذ إما أن يراد بالكتاب الثاني المضاف إليه أم الأول الواقع مقسماً كما يشعر به حديث إعادة الشيء معرفة ويكون وضع المظهر موضع المضمر اعتناءاً بشأن المظهر وتفخيماً له والإضافة على معنى في ـ كما في واحد العشرة ـ فلا يلزم كون الشيء أصلاً لنفسه لأن المعنى على أن الآيات المحكمات التي هي جزء مما بين الدفتين أصل فيما بين الدفتين يرجع إليه المتشابه منه، واعتبار ظرفية الكل للجزء يدفع توهم لزوم ظرفية الشيء لنفسه ـ وهذا أولى من القول بتقدير مضاف بين المتضايفين ـ بأن يقال التقدير أم بعض الكتاب فإنه وإن بقي فيه الكتاب على حاله إلا أنه لا يخلو عن تكلف، وإما أن يراد به الجنس فإنه كالقرآن يطلق على القدر المشترك بين المجموع وبين كل بعض منه له به نوع اختصاص كما بين في الأصول، ويراد من هذا الجنس ما هو في ضمن الآيات المتشابهات فاللام حينئذ للجنس والإضافة على معنى اللام ولا يعارضه حديث الإعادة إذ هو أصل كثيراً ما يعدل عنه ولا يتوهم منه كون الشيء ـ أُمّاً ـ لنفسه أصلاً ولا أن المقام مقام الإضمار ليحتاج إلى الجواب عن ذلك، وبعض فضلاء العصر ـ العاصرين حميا العلم من كرم أذهانهم الكريمة أحسن عصر ـ جوز كون الإضافية ـ لامية ـ، و (الكتاب) المضاف إليه هو الكتاب الأول بعينه وليس في الكلام مضاف محذوف وما يلزم على ذلك من كون الشيء ـ أُمّاً ـ لنفسه وأصلاً لها لا يضر لاختلاف الاعتبار فإن ـ أمومته ـ لغيره من المتشابه باعتبار رده إليه وإرجاعه له ـ وأمومته ـ لنفسه باعتبار عدم احتياجه لظهور معناه إلى شيء سوى نفسه، ولا يخفى عليك أن ـ الأم ـ إن كانت في كلا الاعتبارين حقيقة لزم استعمال المشترك في معنييه وإن كانت في كليهما مجازاً لزم الجمع بين معنيين مجازيين، وإن كانت حقيقة في الأصل باعتبار ما يرجع إليه غيره كما يفهم من بعض عباراتهم مجازاً في الأصل بمعنى المستغني عن غيره لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ولا مخلص عن ذلك إلا بارتكاب عموم المجاز، هذا وجوز أن يكون التقسيم إلى القسمين المحكم والمتشابه من تقسيم الكلي إلى جزئياته فأل في ـ الكتاب ـ للجنس أولاً وآخراً إلا أن المراد من الكتاب في الأول الماهية من حيث هي كما هو الأمر المعروف في مثل هذا التقسيم، وفي الثاني الماهية باعتبار تحققها في ضمن بعض الأفراد وهو المتشابه، ويجوز أن يراد من الثاني أيضاً مجموع ما بين الدفتين والكلام فيه حينئذ على نحو ما سبق، قيل: وقصارى ما يلزم من هذا التقسيم بعد تحمل القول بأنه خلاف الظاهر صدق الكتاب على الأبعاض وهو/ مما لا يتحاشى منه بل هو غرض من فسر الكتاب بالقدر المشترك، وأنت تعلم أن فيه غير ذلك إلا أنه يمكن دفعه بالعناية فتدبر.

وذهب ساداتنا الحنفية إلى أن المحكم الواضح الدلالة الظاهر الذي لا يحتمل النسخ، والمتشابه الخفي الذي لا يدرك معناه عقلاً ولا نقلاً وهو ما استأثر اللهتعالى بعلمه كقيام الساعة والحروف المقطعة في أوائل السور؛ وقيل: المحكم الفرائض والوعد والوعيد، والمتشابه القصص والأمثال، أخرج ابن أبـي حاتم من طريق علي ابن أبـي طلحة عن ابن عباس قال ـ المحكمات ـ ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه، و ـ المتشابهات ـ ما يؤمن به ولا يعمل به، وأخرج الفريابـي عن مجاهد قال ـ المحكمات ـ ما فيه الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه، وأخرج عبيد بن عمير عن الضحاك قال ـ المحكمات ـ ما لم ينسخ ـ والمتشابهات ـ ما قد نسخ، وقال الماوردي: المحكم ما كان معقول المعنى، والمتشابه بخلافه كأعداد الصلوات، واختصاص الصيام برمضان دون شعبان، وقيل: المحكم ما لم يتكرر ألفاظه، والمتشابه ما يقابله، وقيل: غير ذلك، وهذا الخلاف في ـ المحكم والمتشابه ـ هنا وإلا فقد يطلق المحكم بمعنى المتقن النظم، والمتشابه على ما يشبه بعضه بعضاً في البلاغة، وهما بهذا المعنى يطلقان على جميع القرآن وعلى ذلك خرج قولهتعالى: { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَـٰتُهُ } [هود: 1] وقوله سبحانه: { كِتَـٰباً مُّتَشَـٰبِهاً مَّثَانِيَ } [الزمر: 23].

{فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } أي عدول عن الحق وميل عنه إلى الأهواء. وقال الراغب: ((الزيغ الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين)) ـ وزاغ وزال ومال ـ متقاربة لكن زاغ لا يقال إلا فيما كان عن حق إلى باطل ومصدره زيغاً وزيغوغة وزيغاناً وزيوغاً، والمراد بالموصول نصارى نجران أو اليهود ـ وإليه ذهب ابن عباس ـ وقيل: منكرو البعث، وقيل: المنافقون، وأخرج الإمام أحمد وغيره على أبـي أمامة عن النبـي صلى الله عليه وسلم أنهم الخوارج وظاهر اللفظ العموم لسائر من زاغ عن الحق فليحمل ما ذكر على بيان بعض ما صدق عليه العام دون التخصيص، وفي جعل قلوبهم مقراً للزيغ مبالغة في عدولهم عن سنن الرشاد وإصرارهم على الشر والفساد. وزيغ مبتدأ أو فاعل {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنْهُ } أي يتعلقون بذلك وحده بأن لا ينظروا إلى ما يطابقه من المحكم ويردوه إليه وهو إما بأخذ ظاهره الغير المراد لهتعالى أو أخذ أحد بطونه الباطلة وحينئذ يضربون القرآن بعضه ببعض ويظهرون التناقض بين معانيه إلحاداً منهم وكفراً ويحملون لفظه على أحد محتملاته التي توافق أغراضهم الفاسدة في ذلك وهذا هو المراد بقوله سبحانه: {ٱبْتِغَاء ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاء تَأْوِيلِهِ } أي طلب أن يفتنوا المؤمنين والمؤمنات عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه ـ كما نقل عن الواقدي ـ وطلب أن يؤولوه حسبما يشتهون، فالإضافة في {تَأْوِيلِهِ } للعهد أي بتأويل مخصوص وهو ما لم يوافق المحكم بل ما كان موافقاً للتشهي.

والتأويل التفسير ـ كما قاله غير واحد ـ وقال الراغب: ((إنه من الأول وهو الرجوع إلى الأصل ـ ومنه الموئل ـ للموضع الذي يرجع إليه وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه علماً كان أو فعلاً، ومن الأول ما ذكر هنا، ومن الثاني قوله:

وللنوى قبل يوم البين تأويل

وقولهتعالى: { يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ } [الأعراف: 53] أي بيانه الذي هو غايته المقصودة منه وقوله سبحانه: { ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [الإسراء: 35] قيل: أحسن ترجمة ومعنى، وقيل: أحسن ثواباً في الآخرة)) انتهى. وجوز في هاتين الطلبتين أن تكونا على سبيل التوزيع بأن يكون {ٱبْتِغَاء ٱلْفِتْنَةِ} طلبة بعض وابتغاء التأويل/ حسب التشهي طلبة آخرين، ويجوز أن يكون الاتباع لمجموع الطلبتين وهو الخليق بالمعاند لأنه لقوة عناده ومزيد فساده يتشبث بهما معاً وأن يكون ذلك لكل واحدة منهما على التعاقب وهو المناسب بحال الجاهل لأنه متحير تارة يتبع ظاهره وتارة يؤوله بما يشتهيه لكونه في قبضة هواه يتبعه كلما دعاه، ومن الناس من حمل الفتنة على المال فإن الله سبحانه قد سماه فتنة في مواضع من كلامه ولا يخفى أنه ليس بشيء مدعى ـ ودليلاً، وفي تعليل الاتباع ـ بابتغاء تأويله ـ دون نفس (تأويله) وتجريد ـ التأويل ـ عن الوصف بالصحة والحقية إيذان بأنهم ليسوا من التأويل ـ في عير ولا نفير، ولا قبيل ولا دبير ـ وأن ما يتبعونه ليس بتأويل أصلاً لا أنه تأويل غير صحيح قد يعذر صاحبه.

{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّسِٰخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } في موضع الحال من ضمير ـ يتبعون ـ باعتبار العلة الأخيرة أي يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله، والحال أن التأويل المطابق للواقع كما يشعر به التعبير بالعلم والإضافة إلى اللهتعالى مخصوص به سبحانه وبمن وفقه عز شأنه من عباده الراسخين في العلم أي الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ولم يتزلزلوا في مزال الأقدام ومداحض الأفهام دونهم حيث إنهم بمعزل عن تلك الرتبة هذا ما يقتضيه الظاهر في تفسير الراسخين، وأخرج ابن عساكر من طريق عبد الله بن يزيد الأزدي قال: «سمعت أنس بن مالك يقول: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الراسخين في العلم فقال: من صدق حديثه وبر في يمينه وعف بطنه وفرجه فذلك الراسخون في العلم" ولعل ذلك بيان علامتهم وما ينبغي أن يكونوا عليه، والمراد بالعلم العلم الشرعي المقتبس من مشكاة النبوة فإن أهله هم الممدوحون.

{يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ} استئناف موضح لحال الراسخين ولهذا فصل، والنحاة يقدرون له مبتدأ دائماً ـ أي هم يقولون ـ وقد قيل: إنه لا حاجة إليه ولم يعرف وجه التزامهم لذلك فلينظر، وجوز أن يكون حالاً من الراسخين ـ والضمير المجرور راجع إلى المتشابه وعدم التعريض لإيمانهم بالمحكم لظهوره وإن رجع إلى الكتاب فله وجه أيضاً لأن مآله كل من أجزاء الكتاب أو جزئياته وذلك لا يخلو عن الأمرين، ثم هذا القول وإن لم يخص ـ الراسخين ـ لكن فيه تعريض بأن مقتضى الإيمان به أن لا يسلك فيه طريق لا يليق من تأويله على ما مر فكأن غيرهم ليس بمؤمن.

{كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا } من تمام مقولهم مؤكد لما قبله ومقرر له أي كل واحد منه ومن المحكم ـ أو كل واحد من متشابهه ومحكمه منزل من عندهتعالى لا مخالفة بينهما، وفي التعبير بالرب إشارة إلى سر إنزال المتشابه، والحكمة فيه لما أنه متضمن معنى التربية والنظر في المصلحة والإيصال إلى معارج الكمال أولاً فأولاً، وقد قالوا: إنما أنزل المتشابه لذلك ليظهر فضل العلماء ويزداد حرصهم على الاجتهاد في تدبره وتحصيل العلوم التي نيط بها استنباط ما أريد به من الأحكام الحقيقية فينالوا بذلك وبإتعاب القرائح واستخراج المقاصد الرائقة والمعاني اللائقة المدارج العالية ويعرجوا بالتوفيق بينه وبين المحكم إلى رفرف الإيقان وعرش الاطمئنان ويفوزوا بالمشاهد السامية وحينئذ ينكشف لهم الحجاب ويطيب لهم المقام في رياض الصواب، وذلك من التربية والإرشاد أقصى غاية ونهاية في رعاية المصلحة ليس وراءها نهاية.

{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلالْبَـٰبِ } عطف على جملة {يَقُولُونَ } سيق من جهتهتعالى مدحاً للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر لما أنهم قد تجردت عقولهم عما يغشاها من الركون إلى الأهواء الزائغة المكدرة لها واستعدوا إلى الاهتداء إلى معالم الحق والعروج إلى معارج الصدق، وللإشارة إلى ذلك وضع الظاهر موضع/ الضمير هذا على تقدير أن يكون الوقف على (الراسخون) وهو الذي ذهب إليه الشافعية. وسائر من فسر المتشابه بما لم يتضح معناه، وأما على تقدير أن يكون الوقف على {إِلاَّ ٱللَّهُ } وهو الذي ذهب إليه الحنفية القائلون بأن المتشابه ما استأثر اللهتعالى بعلمه فالراسخون مبتدأ وجملة {يَقُولُونَ } خبر عنه، ورجح الأول بوجوه: أما أولاً: فلأنه لو أريد بيان حظ الراسخين مقابلاً لبيان حظ الزائغين لكان المناسب أن يقال وأما الراسخون فيقولون، وأما ثانياً: فلأنه لا فائدة حينئذ في قيد الرسوخ بل هذا حكم العالمين كلهم، وأما ثالثاً: فلأنه لا ينحصر حينئذ الكتاب في المحكم والمتشابه على ما هو مقتضى ظاهر العبارة حيث لم يقل ـ ومنه متشابهات ـ لأن ما لا يكون متضح المعنى ويهتدي العلماء ألى تأويله ورده إلى المحكم لا يكون محكماً ولا متشابهاً بالمعنى المذكور وهو كثير جداً، وأما رابعاً: فلأن المحكم حينئذ لا يكون ـ أمّ الكتاب ـ بمعنى رجوع المتشابه إليه إذ لا رجوع إليه فيما استأثر اللهتعالى بعلمه كعدد الزبانية مثلاً، وأما خامساً: فلأنه قد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" ولو كان التأويل مما لا يعلمه إلا اللهتعالى لما كان للدعاء معنى، وأما سادساً: فلأن ابن عباس رضي اللهتعالى عنه كان يقول: أنا ممن يعلم تأويله، وأما سابعاً: فلأنه سبحانه وتعالى مدح الراسخين بالتذكر في هذا المقام وهو يشعر بأن لهم الحظ الأوفر من معرفة ذلك، وأما ثامناً: فلأنّه يبعد أن يخاطب اللهتعالى عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته.

والقول بأن ـ أما ـ للتفصيل فلا بد في مقابلة الحكم على الزائغين من حكم على الراسخين ليتحقق التفصيل. غاية الأمر أنه حذفت ـ أما ـ والفاء، وبأن الآية من قبيل الجمع والتقسيم والتفريق فالجمع في قوله سبحانه: {أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ } والتقسيم في قولهتعالى: {مِنْهُ ءآيَـٰتٌ مُّحْكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتٌ } والتفريق في قوله عز شأنه: {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } الخ فلا بد في مقابلة ذلك من حكم يتعلق بالمحكم وهو أن الراسخين يتبعونه ويرجعون المتشابه إليه على ما هو مضمون قوله سبحانه: {وَٱلرٰسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } الخ مجاب عنه بأن كون ـ أما ـ للتفصيل أكثري لا كلي ولو سلم فليس ذكر المقابل في اللفظ بلازم. ثم لو سلم بأن الآية من قبيل الجمع والتقسيم والتفريق فذكر المقابل على سبيل الاستئناف أو الحال أعني: (يقولون) الخ كاف في ذلك، ورجح الثاني بأنه مذهب الأكثرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وأتباعهم خصوصاً أهل السنة، وهو أصح الروايات عن ابن عباس رضي اللهتعالى عنه، ولم يذهب إلى القول الأول إلا شرذمة قليلة بالنسبة إلى الأكثرين كما نص عليه ابن السمعاني وغيره ـ ويد اللهتعالى مع الجماعة.

ويدل على صحة مذهبهم أخبار كثيرة: الأول ما أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره». والحاكم في «مستدركه» عن ابن عباس أنه كان يقرأ ـ وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به ـ فهذا يدل على أن الواو للاستئناف لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها القراءة فأقل درجاتها أن تكون خبراً بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم كلامه على من دونه، وحكى الفراء أن في قراءة أبـيّ بن كعب أيضاً ـ ويقول الراسخون في العلم. وأخرج ابن أبـي داود في «المصاحف» من طريق الأعمش قال في قراءة ابن مسعود ـ وإن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ـ الثاني ما أخرج الطبراني في «الكبير» عن أبـي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وما يبتغي تأويله إلا اللهتعالى" . الحديث الثالث: ما أخرج ابن مردويه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رسول الله/ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به" . الرابع: ما أخرج الحاكم عن ابن مسعود عن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: "الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة: زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا" . وأخرج البيهقي في «الشعب» نحوه عن أبـي هريرة، الخامس: ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس مرفوعاً "أنزل القرآن على أربعة أحرف حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته وتفسير تفسره العلماء ومتشابه لا يعلمه إلا اللهتعالى ومن ادعى علمه سوى اللهتعالى فهو كاذب" إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على أن المتشابه مما لا يعلم تأويله إلا اللهتعالى.

وذهب بعض المحققين إلى أن كلاً من الوقف والوصل جائز ـ ولكل منهما وجه وجيه ـ وبين ذلك الراغب بأن القرآن عند اعتبار بعضه ببعض ثلاث أضرب ـ محكم على الإطلاق. ومتشابه على الإطلاق، ومحكم من وجه متشابه من وجه، فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب. متشابه من جهة اللفظ فقط. ومن جهة المعنى. ومن جهتهما معاً، فالأول: ضربان. أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة أما من جهة الغرابة نحو الأب ويزفون، أو الاشتراك كاليد والعين. وثانيهما يرجع إلى جملة الكلام المركب وذلك ثلاثة أضرب. ضرب لاختصار الكلام نحو { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ } [النساء: 3] وضرب لبسطه نحو { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء } [الشورى: 11] لأنه لو قيل: ليس مثله شيء كان أظهر للسامع. وضرب لنظم الكلام نحو { أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَـٰبَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً } [الكهف: 1-2] إذ تقديره ـ أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً ـ والمتشابه من جهة المعنى أوصاف اللهتعالى وأوصاف يوم القيامة فإن تلك الصفات لا تتصور لنا إذ لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه أو ليس من جنسه، والمتشابه من جهتهما خمسة أضرب. الأول: من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ } [التوبة: 5]. والثاني: من جهة الكيفية كالوجوب والندب في نحو { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء } [النساء: 3]. والثالث: من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران: 102]. والرابع: من جهة المكان والأمور التي نزلت فيه الآية نحو { وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } [البقرة: 189] و { إِنَّمَا ٱلنَّسِىء زِيَادَةٌ فِى ٱلْكُفْرِ } [التوبة: 37] فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه، والخامس: من جهة الشروط التي يصح بها الفعل ويفسد كشرط الصلاة والنكاح، ثم قال: وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم؛ ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب. ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة وخروج الدابة وغير ذلك. وقسم للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة. وضرب متردد بين الأمرين يختص بمعرفته بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم، وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي اللهتعالى عنه: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" . وإذا عرفت هذا ظهر لك جواز الأمرين الوقف على {إِلاَّ ٱللَّهُ } والوقف على {ٱلرَّاسِخُونَ }.

وقال بعض أئمة التحقيق: الحق أنه إن أريد بالمتشابه ما لا سبيل إليه للمخلوق فالحق الوقف على {إِلاَّ ٱللَّهُ } وإن أريد ما لا يتضح بحيث يتناول المجمل ونحوه فالحق العطف، ويجوز الوقف أيضاً لأنه لا يعلم جميعه أو لا يعلمه بالكنه إلا اللهتعالى، وأما إذا فسر بما دل القاطع أي النص النقلي أو الدليل الجازم العقلي على أن ظاهره غير مراد ولم يقم/ دليل على ما هو المراد ففيه مذهبان. فمنهم من يجوز الخوض فيه وتأويله بما يرجع إلى الجادة في مثله فيجوز عنده الوقف وعدمه. ومنهم من يمنع الخوض فيه فيمتنع تأويله ويجب الوقف عنده.

والذاهبون إلى الوقف من السادة الحنفية أجابوا عما ذكره غيرهم في ترجيح ما ذهبوا إليه من الوجوه، فعن الأول: بأنه أريد بيان حظ الراسخين مقابلاً لبيان حظ الزائغين إلا أنه لم يقل ـ وأما الراسخون ـ مبالغة في الاعتناء بشأن الراسخين حيث لم يسلك بهم سبيل المعادلة اللفظية لهؤلاء الزائغين وصينوا عن أن يذكروا معهم كما يذكر المتقابلان في الأغلب في مثل هذه المقامات وقريب من هذا قولهتعالى: { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ } [البقرة: 257] حيث لم يقل ـ والطاغوت أولياء الذين كفروا، ولا الذين آمنوا وليهم الله ـ تعظيماً لشأنهتعالى ورعاية للاعتناء بشأن المؤمنين، وعن الثاني: بأن فائدة قيد الرسوخ المبالغة في قصر علم تأويل المتشابه عليهتعالى لأنه إذا لم يعلموه هم كما يشعر به الحكم عليهم بأنهم يقولون آمنا به فغيرهم أولى بعدم العلم فلم يبق عالم به إلا اللهتعالى. وعن الثالث: بأنه يلتزم القول بعد الحصر، وفي «الاتقان» أن بعضاً قال: إن الآية لا تدل على الحصر في الشيئين إذ ليس فيها شيء من طرقه ولولا ذلك لأشكل قولهتعالى: { لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل: 44] لأن المحكم لا تتوقف معرفته على البيان والمتشابه لا يرجى بيانه فما هذا الذي يبينه النبـي صلى الله عليه وسلم؟ وعن الرابع: بالتزام أن إضافة ـ أم ـ إلى (الكتاب) على معنى في، والمحكم ـ أم ـ في (الكتاب) ولكن لا للمتشابه الذي استأثر اللهتعالى بعلمه بل هو ـ أم ـ وأصل في فهم العبادات الشرعية كوجوب معرفته وتصديق رسله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وعلى تقدير القول بأن الإضافة لامية يلتزم الأمومة للكتاب باعتبار بعضه وهو الواسطة بين القسمين لأن متضح الدلالة كثيراً ما يرجع إليه في خفيها مما لم يصل إلى حد الاستئثار، وعن الخامس: بأن التأويل الذي دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس لا يتعين حمله على تأويل ما اختص علمه بهتعالى بل يجوز حمله على تفسير ما يخفى تفسيره من القسم المتردد بين الأمرين اللذين ذكرهما الراغب كما ذكره. وعن السادس: بأن الرواية عن ابن عباس أنه قال: «أنا ممن يعلم تأويله» معارضة بما هو أصح منها بدرجات فتسقط عن درجة الاعتبار، وعلى تقدير تسليم اعتبارها يمكن أن يقال: مراده رضي اللهتعالى عنه ـ أنا ممن يعلم تأويله ـ أي المتشابه في الجملة حسبما دعا لي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا وإن قيل: إنه متشابه لكنه في الحقيقة واسطة بين المحكم والمتشابه بالمعنى المراد، وعن السابع: بأن مدح الراسخين بالتذكر ليس لأن لهم حظاً في معرفته بل لأنهم اتعظوا فخالفوا هواهم ووقفوا عند ما حدّ لهم مولاهم ولم يسلكوا مسلك الزائغين ولم يخوضوا مع الخائضين ويمكن على بعد أن يراد بالتذكر الانتفاع مجازاً أي إن الراسخين هم الذين ينتفعون به حيث يؤمنون به لخلوص عقولهم عن غشاوة الهوى كما أنهم آمنوا بالغيب وهذا بخلاف الزائغين حيث صار المتشابه ضرراً عليهم ووبالاً لهم إذ ضلوا فيه كثيراً وأضلوا عن سواء السبيل، وقد قال سبحانه من قبل فيما ضربه من المثل: { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَـٰسِقِينَ } [البقرة: 26] وعن الثامن: بأنه لا بعد في أن يخاطب اللهتعالى عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته ويكون ذلك من باب الابتلاء كما ابتلى سبحانه عباده بتكاليف كثيرة وعبادات وفيرة لم يعرف أحد حقيقة السر فيها، والسر في هذا الابتلاء قص جناح العقل وكسر سورة الفكر وإذهاب عجب طاوس النفس ليتوجه القلب بشراشره تجاه كعبة العبودية ويخضع تحت سرادقات الربوبية ويعترف بالقصور ويقر بالعجز عن الوصول إلى ما في هاتيك القصور وفي/ ذلك غاية التربية ونهاية المصلحة هذا إذا أريد بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته ما لا سبيل لأحد منهم إلى معرفته من طريق الفكر، وأما إذا أريد ما لا سبيل إلى معرفته مطلقاً سواء كانت على الإجمال أو التفصيل بالوحي أو بالإلهام لنبـي أو لوليّ فوجود مثل هذا المخاطب به في القرآن في حيز المنع، ولعل القائل بكون المتشابه مما استأثر اللهتعالى بعلمه لا يمنع تعليمه للنبـي صلى الله عليه وسلم بواسطة الوحي مثلا ولا إلقاءه في روع الوليّ الكامل مفصلاً لكن لا يصل إلى درجة الإحاطة ـ كعلم اللهتعالى ـ وإن لم يكن مفصلاً فلا أقل من أن يكون مجملاً ومنع هذا وذاك مما لا يكاد يقول به من يعرف رتبة النبـي صلى الله عليه وسلم ورتبة أولياء أمته الكاملين وإنما المنع من الإحاطة ومن معرفته على سبيل النظر والفكر وهو الطريق المعتاد والسبيل المسلوك في معرفة المشكلات واستحصال النظريات ولتبادر هذا المعنى من يعلم إذا أسند إلى الراسخين منع إسناده إليهم ومتى أريد منه العلم لا من طريق الفكر صح الإسناد وجاز العطف ولكن دون توهم هذه الإرادة من ظاهر الكلام خرط القتاد، فلهذا شاع القول بعدم العطف وكان القول به أسلم.

ويؤيد ما قلنا ما ذكره الإمام الشعراني قال: أخبرني شيخنا عليّ الخواص قدس سره إن اللهتعالى أطلعه على معاني سورة الفاتحة فخرّج منها مائتي ألف علم وأربعين ألف علم وتسعمائة وتسعين علماً وكان يقول: لا يسمى عالماً أي عند أهل اللهتعالى إلا من عرف كل لفظ جاءت به الشريعة، وقال في «الكشف» في نحو {ق } {ص } {حـم } {طس }: لعل إدراك ما تحته عند أهله كإدراكنا للأوليات ولا يستبعد، ففيض الباري عم نواله غير محصور؛ واستعداد الإنسان الكامل عن القبول غير محسور، ومن لم يصدق إجمالاً ـ بأن وراء مدركات الفكرة ومباديها طوراً أو أطواراً حظ العقل منها حظ الحس من المعقولات ـ فهو غير متخلص عن مضيق التعطيل أو التشبيه وإن لم يتدارك حاله بقي بعد كشف الغطاء في هذا التيه، ولتتحقق من هذا أن المراتب مختلفة وأن الإحاطة على الحقائق الإلهية كما هي مستحيلة إلا للباري جل ذكره وأنه لا بد للعارف وإن وصل إلى أعلى المراتب أن يبقى له ما يجب الإيمان به غيباً وهو من المتشابه الذي يقول الراسخون فيه: {ءامنّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا} فهذا ما يجب أن يعتقد كي لا يلحد.

ثم اعلم أن كثيراً من الناس جعل الصفات النقلية من الاستواء واليد والقدم والنزول إلى السماء الدنيا والضحك والتعجب وأمثالها من المتشابه، ومذهب السلف ـ والأشعريرحمه اللهتعالى من أعيانهم ـ كما أبانت عن حاله "الإبانة" ـ أنها صفات ثابتة وراء العقل ما كلفنا إلا اعتقاد ثبوتها مع اعتقاد عدم التجسيم والتشبيه لئلا يضاد النقل العقل، وذهب الخلف إلى تأويلها وتعيين مراد اللهتعالى منها فيقولون: الاستواء مثلاً بمعنى الاستيلاء والغلبة، وذلك أثر من آثار بعض الصفات الثمانية التي ليس للهتعالى عندهم وراءها صفة حتى ادعى السَّكوتي ـ وليته سكت ـ أن ما وراء ذلك ممتنع إذ لا يلزم من نفيه محال وكل ما لا يلزم من نفيه محال لا يكون واجباً، واللهتعالى لا يتصف إلا بواجب، وذكر الشعراني في «الدرر المنثورة» أن مذهب السلف أسلم وأحكم إذ المؤل انتقل عن شرح الاستواء الجسماني على العرش المكاني بالتنزيه عنه إلى التشبيه السلطاني الحادث وهو الاستيلاء على المكان فهو انتقال عن التشبيه بمحدث مّا إلى التشبيه بمحدث آخر فما بلغ عقله في التنزيه مبلغ الشرع فيه في قولهتعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء } [الشورى: 11] ألا ترى أنه استشهد في التنزيه العقلي في الاستواء بقول شاعر:

قد ـ استوى ـ بشر على العراق من غير حرب ودم مهراق

وأين استواء ـ بشر على العراق ـ من استواء الرحمن على العرش، ونهاية الأمر يحتاج إلى القول بأن المراد استيلاء يليق بشأن الرحمن جل شأنه فليقل من أول الأمر قبل تحمل مؤنة هذا التأويل استواء يليق بشأن من عز شأنه وتعالى عن إدراك العقول سلطانه، وهذا أليق بالأدب وأوفق بكمال العبودية وعليه درج صدر الأمة وساداتها ـ وإياها اختار أئمة الفقهاء وقاداتها ـ وإليها دعا أئمة الحديث في القديم والحديث حتى قال محمد بن الحسن كما أخرجه عنه اللالكائي: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه، وورد عن سليمان بن يسار أن رجلاً يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر بن الخطاب رضي اللهتعالى عنه وقد أعدّ له عراجين النخل فقال: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله صبيغ فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربه حتى أدمى رأسه ـ وفي رواية ـ فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دبرة ثم تركه حتى برىء ثم عاد إليه ثم تركه حتى برىء فدعا به ليعود فقال: إن كنت تريد قتلتي فاقتلني قتلاً جميلاً فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أبـي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين.

لا يقال إن تركت أمثال هذه المتشابهات على ظواهرها دلت على التجسيم وإن لم ترد ظواهرها فقد أولت لأن التأويل على ما قالوا: إخراج الكلام عن ظاهره لأنا نقول: نختار الشق الثاني ولا نسلم أن التأويل إخراج الكلام عن ظاهره مطلقاً بل إخراجه إلى معنى معين معلوم كما يقال الاستواء مثلا بمعنى الاستيلاء على أن للتأويل معنيين مشهورين لا يصدق شيء منهما على نفي الظاهر من غير تعيين للمراد، أحدهما: ترجمة الشيء وتفسيره الموضح له، وثانيهما: بيان حقيقته وإبرازها إما بالعلم أو بالعقل فإن من قال: بعد التنزيه لا أدري من هذه المتشابهات سوى أن اللهتعالى وصف بها نفسه وأراد منها معنى لائقاً بجلاله جل جلاله، ولا أعرف ذلك المعنى لم يقل في حقه أنه ترجم وأوضح ولا بين الحقيقة وأبرز المراد حتى يقال إنه أول، ومن أمعن النظر في مأخذ التأويل لم يشك في صحة ما قلنا، نعم ذهبت شرذمة قليلة من السلف إلى إبقاء نحو المذكورات على ظواهرها إلا أنهم ينفون لوازمها المنقدحة للذهن الموجبة لنسبة النقص إليه عز شأنه ويقولون: إنما هي لوازم لا يصح انفكاكها عن ملزوماتها في صفاتنا الحادثة، وأما في صفات من ليس كمثله شيء فليست بلوازم في الحقيقة ليكون القول بانفكاكها سفسطة ـ وأين التراب من رب الأرباب ـ وكأنهم إنما قالوا ذلك ظناً منهم أن قول الآخرين من السلف تأويل، و الراسخون في العلم لا يذهبون إليه أو أنهم وجدوا بعض الآثار يشعر بذلك مثل ما حكى مقاتل والكلبـي عن ابن عباس في { ٱسْتَوَىٰ } [طه: 5] أنه بمعنى استقر، وما أخرجه أبو القاسم من طريق قرة بن خالد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة في قولهتعالى: { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } [طه: 5] إنها قالت: الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإقرار به من الإيمان والجحود به كفر. وقريب من هذا القول ما يصرح به كلام كثير من ساداتنا الصوفية فإنهم قالوا: إن هذه المتشابهات تجرى على ظواهرها مع القول بالتنزيه الدال عليه قولهتعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء } [الشورى: 11] حيث إن وجود الحقتعالى شأنه لا تقيده الأكوان وإن تجلى فيما شاء منها إذ له كمال الإطلاق حتى عن قيد الإطلاق، ولا يخفى أن إجراء المتشابهات على ظاهرها مع التنزيه اللائق بجلال ذاته سبحانه طور ما وراء طور العقل وبحر لا يسبح فيه إلا من فاز بقرب النوافل.

وذكر بعض أئمة التدقيق أن العقل سبيله في العلم بالصفات الثمانية المشهورة كعلمه بتلك الصفات التي يدعي الخلف رجوعها إليها إذا أحد النظر، فقد قام البرهان وشاهد العيان على عدم المماثلة ذاتاً وصفات أيضاً/ لكن صفاته المتعالية وأسماؤه الحسنى قسمان، قسم يناسب ما عندنا من الصفات نوع مناسبة وإن كانت بعيدة، ولا يقال: فلا بد فيه في أفهامنا معاشر الناقصين من أن يسمى بتلك الأسماء المشتهرة عندنا فيسمى علماً مثلاً ـ لا دواة ولا قلماً ـ وقسم ليس كذلك وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم "أو استأثرت به في علم الغيب عندك" فقد يذكر له أسماء مشوقة لأن منه ما للإنسان الكامل منه نصيب بطريق التخلق والتحقق فيذكر تارة اليد والنزول والقدم ونحو ذلك من المخيلات مع العلم البرهاني والشهود الوجداني بتنزههتعالى عن كل كمال يتصوره الإنسان ويحيط به فضلاً عن النقصان، فيعلم أنه أشار إلى ذلك القسم الذي علم بالإجمال ويتوجه إذ ذاك بكليته شطر كعبة الجلال والجمال فيفاض عليه من ينبوع الكمال ما يستأنس عنده وينكشف له جلية الحال، وإذ ليس له مناسبة بما عندنا لا توجد عبارة يترجم عنها إلا على سبيل الخيال، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: "من عرف اللهتعالى كَلَّ لسانه" وأخرى بين مقصد الكل ومن أحبه سبحانه ما يصان عن تهمة إدراك الأغيار من نحو تلك الفواتح، ولعل إدراكها عند أهلها كإدراك الأوليات إلا أنه لا إحاطة بل لا بد من بقاء شيء كما أشير إليه، وعلى هذا أيضاً الأليق أن يوقف لأنه شعار من لنا فيهم الأسوة الحسنة مع ظهور وجهه لكن لا تجعل الآية حجة على من تأول نحو { وَٱلاْرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } [الزمر: 67] مثلاً إذ لا يسلم أنه داخل في ذلك المتشابه والحمل على المجاز الشائع في كلام العرب والكناية البالغة في الشهرة مبلغ الحقيقة أظهر من الحمل على معنى مجهول، نعم لو قيل: إن تصوير العظمة على هذا الوجه دال على أن العقل غير مستقل بإدراكها وأنها أجل من أن تحيط بها العقول فالكنه من المتشابه الذي دلت الآية عليه ويجب الإيمان به كان حسناً، وجمعاً بين ما عليه السلف ومشى عليه الخلف وهو الذي يجب أن يعتقد كيلاً يلزم ازدراء بأحد الفريقين كما فعل ابن القيم حتى قال: لام الأشعرية كنون اليهودية أعاذنا اللهتعالى من ذلك، وعلى هذا يجب أن يفسر المتشابه في الآية بما يعم القسمين، والمحكم (أُمٌّ) يرجع إليه في تمييز القسمين أحدهما: فرعه الإيماني والثاني: فرعه الإيقاني، وابن دقيق العيد توسط في مسألة التأويل، ويحتمل أنه لم يخرج ما قاله هذا المدقق أخيراً من المتشابه فقال: إذا كان التأويل قريباً من لسان العرب لم ينكر أو بعيداً توقفنا عنه وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهراً معهوداً من تخاطب العرب قلنا به من غير توقف كما في قولهتعالى: { يٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ ٱللَّهِ } [الزمر: 56] فنحمله على حق اللهتعالى وما يجب له فليفهم هذا المقام فكم زلت فيه أقوام بعد أقوام.

زاد المسير لابن الجوزي

.

‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏منه آيات محكمات‏}‏ المحكم‏:‏ المتقن المبيّن، وفي المراد به هاهنا ثمانية أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه الناسخ، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، والسدي في آخرين‏.‏ والثاني‏:‏ أنه الحلال والحرام، روي عن ابن عباس، ومجاهد‏.‏ والثالث‏:‏ أنه ما علم العلماء تأويله‏.‏ روي عن جابر بن عبد الله‏.‏ والرابع‏:‏ أنه الذي لم ينسخ، قاله الضحاك‏.‏ والخامس‏:‏ أنه مالم تتكرر ألفاظه، قاله ابن زيد‏.‏ والسادس‏:‏ أنه ما استقل بنفسه، ولم يحتج إلى بيان، ذكره القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد‏.‏ وقال الشافعي، وابن الأنباري‏:‏ هو ما لم يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً، والسابع‏:‏ أنه جميع القرآن غير الحروف المقطعة‏.‏ والثامن‏:‏ أنه الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والحلال والحرام، ذكر هذا والذي قبله القاضي أبو يعلى‏.‏ وأم الكتاب أصله‏.‏ قاله ابن عباس، وابن جبير، فكأنه قال‏:‏ هن أصل الكتاب اللواتي يعمل عليهن في الأحكام، ومجمع الحلال والحرام‏.‏ وفي المتشابه سبعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنه المنسوخ، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، والسدي في آخرين‏.‏ والثاني‏:‏ أنه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل، كقيام الساعة، روي عن جابر بن عبد الله‏.‏ والثالث‏:‏ أنه الحروف المقطعة كقوله‏:‏ «ألم» ونحو ذلك، قاله ابن عباس‏.‏ والرابع‏:‏ أنه ما اشتبهت معانيه، قاله مجاهد‏.‏ والخامس‏:‏ أنه ما تكررت ألفاظه، قاله ابن زيد‏.‏ والسادس‏:‏ أنه ما احتمل من التأويل وجوهاً‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ المحكم ما لا يحتمل التأويلات، ولا يخفى على مميّز، والمتشابه‏:‏ الذي تعتوره تأويلات‏.‏ والسابع‏:‏ أنه القصص، والأمثال، ذكره القاضي أبو يعلى‏.‏ فإن قيل‏:‏ فما فائدة إنزال المتشابه، والمراد بالقرآن البيان والهدى‏؟‏ فعنه أربعة أجوبة‏.‏ أحدها‏:‏ أنه لما كان كلام العرب على ضربين‏.‏ أحدهما‏:‏ الموجز الذي لا يخفى على سامعه، ولا يحتمل غير ظاهره‏.‏ والثاني‏:‏ المجاز، والكنايات، والإشارات، والتلويحات، وهذا الضرب الثاني هو المستحلى عند العرب، والبديع في كلامهم، أنزل الله تعالى القرآن على هذين الضربين، ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله، فكأنه قال‏:‏ عارضوه بأي الضربين شئتم، ولو نزل كله محكماً واضحاً، لقالوا‏:‏ هلا نزل بالضرب المستحسن عندنا‏.‏ ومتى وقع في الكلام إشارة أو كناية، أو تعريض أو تشبيه، كان أفصح وأغرب‏.‏

قال امرؤ القيس‏:‏

وما ذرفت عيناك إلا لنضر بي *** بسهميك في أعشار قلب مقتَّل

فجعل النظر بمنزلة السهم على جهة التشبيه، فحلا هذا عند كل سامع ومنشد، وزاد في بلاغته‏.‏ وقال امرؤ القيس أيضاً‏:‏

رمتني بسهم أصاب الفؤاد غداة الرحيل فلم أننصر *** وقال أيضاً‏:‏

فقلت له لما تمطى بصُلبه *** وأردف أعجازاً وناء بكلكل

فجعل لليل صلباً وصدراً على جهة التشبيه، فحسن بذلك شعره‏.‏ وقال غيره‏:‏

من كميت أجادها طابخاها لم تمت كل موتها في القدور‏.‏‏.‏‏.‏

أراد بالطابخين‏:‏ الليل والنهار على جهة التشبيه‏.‏ وقال آخر‏:‏

تبكي هاشماً في كل فجر *** كما تبكي على الفنن الحمام

وقال آخر‏:‏

عجبت لها أنى يكون غناؤها *** فصيحاً ولم تفتح بمنطقها فما

فجعل لها غناء وفماً على جهة الاستعارة‏.‏ والجواب الثاني‏:‏ أن الله تعالى أنزله مختبراً به عباده، ليقف المؤمن عنده، ويرده إلى عالمه، فيعظم بذلك ثوابه، ويرتاب به المنافق، فيداخله الزيغ، فيستحق بذلك العقوبة، كما ابتلاهم بنهر طالوت‏.‏ والثالث‏:‏ أن الله تعالى أراد أن يشغل أهل العلم بردّهم المتشابه إلى المحكم، فيطول بذلك فكرهم، ويتصل بالبحث عنه اهتمامهم، فيثابون على تعبهم، كما يثابون على سائر عباداتهم، ولو جعل القرآن كله محكماً لاستوى فيه العالم والجاهل، ولم يفضل العالم على غيره، ولماتت الخواطر، وإنما تقع الفكرة والحيلة مع الحاجة إلى الفهم‏.‏ وقد قال الحكماء‏:‏ عيب الغنى‏:‏ أنه يورث البلادة، وفضل الفقر‏:‏ أنه يبعث على الحيلة، لأنه إذا احتاج احتال‏.‏ والرابع‏:‏ أن أهل كل صناعة يجعلون في علومهم معاني غامضة، ومسائل دقيقة ليحرجوا بها من يعلَّمون، ويمرّنوهم على انتزاع الجواب، لأنهم إذا قدروا على الغامض، كانوا على الواضح أقدر، فلما كان ذلك حسناً عند العلماء، جاز أن يكون ما أنزل الله تعالى من المتشابه على هذا النحو، وهذه الأجوبة معنى ما ذكره ابن قتيبة، وابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما الذين في قلبوهم زيغ‏}‏ في الزيغ قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه الشك، قاله مجاهد، والسدي‏.‏ والثاني‏:‏ أنه الميل، قاله أبو مالك وعن ابن عباس كالقولين‏.‏ وقيل‏:‏ هو الميل عن الهدى‏.‏ وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنهم الخوارج، قاله الحسن‏.‏ والثاني‏:‏ المنافقون، قاله ابن جريج‏.‏ والثالث‏:‏ وفد نجران من النصارى، قاله الربيع‏.‏ والرابع‏:‏ اليهود، طلبوا معرفة بقاء هذه الأمة من حساب الجُمّل، قاله ابن السائب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيتبعون ما تشابه منه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يُحيلون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم، ويُلبسون‏.‏ وقال السدي‏:‏ يقولون‏:‏ ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا، ثم نسخت‏؟‏‏!‏ وفي المراد بالفتنة هاهنا، ثلاثة أقوال‏.‏ أحدها‏:‏ أنها الكفر، قاله السدي، والربيع، ومقاتل، وابن قتيبة‏.‏ والثاني‏:‏ الشبهات، قاله مجاهد‏.‏ والثالث‏:‏ إفساد ذات البين، قاله الزجاج‏:‏ وفي التأويل وجهان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه التفسير‏.‏ والثاني‏:‏ العاقبة المنتظرة‏.‏ والراسخ‏:‏ الثابت، يقال‏:‏ رسخ يرسخ رسوخاً‏.‏ وهل يعلم الراسخون تأويله أم لا‏؟‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنهم لا يعلمونه، وأنهم مستأنفون، وقد روى طاووس عن ابن عباس أنه قرأ ‏{‏ويقول الراسخون في العلم آمنّا به‏}‏ وإلى هذا المعنى ذهب ابن مسعود، وأبيّ بن كعب، وابن عباس، وعروة، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز، والفراء، وأبو عبيدة، وثعلب، وابن الأنباري، والجمهور‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ في قراءة عبد الله ‏{‏إِن تأويله، إِلا عند الله والراسخون في العلم‏}‏ وفي قراءة أُبيّ، وابن عباس ‏{‏ويقول الراسخون‏}‏ وقد أنزل الله تعالى في كتابه أشياء، استأثر بعلمها، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إنما علمها عند الله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقروناً بين ذلك كثيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 38‏]‏ فأنزل الله تعالى المجمل، ليؤمن به المؤمن، فيسعد، ويكفر به الكافر، فيشقى‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم يعلمون، فهم داخلون في الاستثناء‏.‏ وقد روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال‏:‏ أنا ممن يعلم تأويله، وهذا قول مجاهد، والربيع، واختاره ابن قتيبة، وأبو سليمان الدمشقي‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ الذي روى هذا القول عن مجاهد ابن أبي نجيح، ولا تصح روايته التفسير عن مجاهد‏.‏

زهرة التفاسير لأبي زهرة

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7))في الآيات السابقة ذكر سبحانه منزلة القرآن بين الكتب السماوية، وأنه فرقانُها وميزانها، وذكر أنه سبحانه وتعالى العليم بكل شيء، الذي لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو العليم بخلقه، والعليم بما ينزل عليهم من آيات بينات، والعليم بمداركهم البشرية، وطاقاتهم العقلية، يطالبهم بما يدركون ويكلفهم ما يستطيعون؛ وفي هذه الآية يبين أقسام القرآن من حيث قوة إدراكهم له، وتطلعهم لفهمه، وتباين مقاصدهم في طلب حقيقته ومعناه، وغايته ومرماه؛ وفيها بيان أنه قسمان: قسم لَا تدركه كل العقول، وقسم تدركه كل العقول الميزة، وأن ما يعلو على الإدراك، أصله ما أدركه كل الناس. ولذا قال سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) الضمير يعود إلى الذات العلية التي وصفت في الآيات السابقة، إذ قد وصف ذاته - جلت قدرته - بأنه الحي القائم على كل شيء، والذي به يقوم كل شيء، وبأنه منزل الكتب من السماء، وجاعل القرآن ميزانها، وأنه سبحانه لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه سبحانه الذي يعلم الإنسان منذ يكون نطفة في بطن أمه إلى أن يصير إنساناً مستويا كامل التكوين، وهو الذي يصوره ذلك التصوير، ويكونه ذلك التكوين، وهو العزيز الغالب المسيطر على كل شيء خلقه، ولا شيء في الوجود إلا كان خلقه، الذي يتصرف في هذا الكون بمقتضى حكمته وعلمه بكل شيء؛ فقوله تعالى:(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ) الضمير يعود إلى المتصف بهذه الصفات. وقوله: (الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) معناه أن هذا الكتاب العظيم الشأن الذي هو ميزان الكتب السابقة وفرقانها، أنزله الله العلي القدير المتصف بهذه الصفات عليك، وقد اختارك موضع رسالته، وأداء أمانته، و (اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ. . .). وهو أعلم بشأن الكتاب وما جاء فيه، وتلقي الناس له، ومقدار إدراكهم لما فيه، وقد شاء بحكمته الواسعة أن يجعله قسمين؛ أحدهما: يدركه كل الناس، والثاني: فوق مستوى عامة الناس، ولذا قال بعد ذلك: (مِنْهُ آيَات مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) أي أن القرآن من حيث بيانه وإدراك الناس له: محكم، ومتشابه؛ ولقد وجدنا القرآن الكريم وصف بأنه كله محكم في مثل قوله تعالى: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ. . .).أي أنها نزلت حكمة لَا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؛ ووصفه الله سبحانه وتعالى بأنه متشابه؛ فقد قال تعالى: (كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقلُوبُهمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. . .)، ومعنى التشابه هنا هو أنه على شاكلة واحدة من حيث قوة تأثيره، وتآخي معانيه، وإحكام نسقه، وفصاحة ألفاظه، وقوة تأثيره بألْفَاظه ومعانيه، فهو في هذا متشابه، أي يشبه بعضه بعضاً.وفى هذه الآية التي نتكلم في معانيها وُصف القرآن بأن منه آيات محكمات، وأخر متشابهات، فلا شك أن معنى مُحكم هنا غير معناها في قوله تعالى: (كتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ. . .) ومتشابه غير معناها في قوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أً حْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ. . .) وإن ذلك يتضح من تفسير كلمة محكم ومتشابه في أصل معناها اللغوي. وهذا ما جاء في كتب اللغة: العرب تقول: حاكمت وحكمت وأحكمت بمعنى رددت ومنعت، والحاكم يمنع الظالم من الظلم، وحكمة اللجام هي التي تمنع الفرس من الاضطراب.وروى إبراهيم النخعي: أَحْكِمْ اليتيمَ كما تُحْكِمْ ولدك. أي امنعه عن الفساد.وقال ابن جرير الطبري: أحْكموا سفهاءكم أي امنعوهم، وبناء محكم أي وثيق يمنع من تعرض له. وسميت الحِكمة حكمةً لأنها تمنع عما لَا ينبغي. وأما المتشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابها للآخر، بحيث يعجز الذهن عن التمييز؛ قال تعالى: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا. . .)، وقال في وصف ثمار الجنة (وَأُتوا به مُتَشَابِهًا. . .)، أي متفق المنظر مختلف الطعوم، وقال تعالى: (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ. . .). ومنه يقال: اشتبه عليَّ الأمران، إذا لم يفرق بينهما وقال عليه الصلاة والسلام: " الحلال بين، والحرام بيّن، وبينهما أمور متشابهات ". وفي رواية أخرى " مشتبهات " . ثم لما كان من شأن المتشابهين عجز الإنسان عن التمييز بينهما سمي كل ما لَا يهتدي الإنسان إليه بالمتشابه إطلاقا، سواء أكان له مشابه أم لم يكن له مشابه .وعلى هذا الأساس اللغوي، نقول: إن المتشابه في القرآن أطلق على ما لا يمكن فهمه مطلقا، أو ما لَا يمكن معرفة حقيقته على الوجه الأكمل، أو ما يدق ويختفي على العامة، ولا يستغلق على الخاصة. هذان هما الوجهان اللذان يحتملهما معنى المتشابه؛ فإما أن نقول إنه ما لَا يمكن معرفة حقيقته على الوجه الأكمل في هذه الدنيا، وإما أن نقول إنه ما يمكن معرفته ولكن لبعض الخاصة الراسخين في العلم، والمحكم هو ما يقابل المتشابه، وهو الواضح البين للعامة والخاصة الذي لَا تتفاوت في إدراكه الأنظار، وما يمكن معرفة حقيقته على الوجه الأكمل، وهو أم الكتاب، لأنه الأصل الذي يجب على كل مؤمن معرفته، والجزمُ بمعناه، والتصديق بمغزاه. فالآيات الحكمات أم الكتاب، أي أصله الذي يرجع إليه، ويحمل المتشابه عليه، ويخرج بتخريج لَا يناقضه إن كان ممكن الإدراك على الوجه الكامل. فالآيات المحكمات هي الحكم الذي يفصل بين التأويل الزائغ، والتأويل الصادق، فما شهدت له، فهو الصادق الذي يتفق مع أصل التنزيل، وما يخالفه فهو الزيغ في الدين، والخروج عن جادته.¬والمتشابه ينتهي كما ذكرنا إلى أحد معنيين؛ إما أن نقول إنه الغيب الذي لا يستطيع الإنسان معرفته، كحقيقة الروح، وحقيقة الجن والملائكة، وما يكون يوم القيامة، وكيف يكون نعيم الجنة الحسي، وعذاب الجحيم المادي، وكيف ينشئ الله الخلق، وكيف يعيده، وكيف يتجلى سبحانه يوم الحساب، وهكذا مما غيبه الله تعالى علينا؛ لأن عقولنا مأسورة بالحس الذي نحسه، وبالمادة التي ندركها، وعلم الغيب قد أخفاه الله سبحانه عنا؛ لأنه يعلو عن مداركنا في هذه الدنيا، وعلينا أن نؤمن بما أخبرنا به القرآن الكريم، وما جاءت به السنة الصحيحة؛ فإن من صفات أهل الإيمان الإيمان بالغيب، إذ قال سبحانه في أوصافهم: (الَّذينَ يُؤْمنُونَ بِالْغَيْب وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).هذا هو الوجه الأول الذي يحتمله تفسير كلمة المتشابه.أما الوجه الثاني فمعنى المتشابه أنه الذي يدق معناه إلا على طائفة خاصة من أهل العلم، كبعض العبارات القرآنية الخاصة بالكون وتكوين السماء والأرض، وبعض ما ذكر في القرآن من أوصاف لله سبحانه وتعالى، ونحو ذلك من الحقائق التي لَا يخوض فيها إلا أهل الذكر، وهي دقيقة في معناها.هذان هما الوجهان اللذان تحتملهما الآية الكريمة، ويدخل في عمومهما كل الأقوال التي قيلت في هذا المقام . ونرى أن كلا الوجهين تحتملهما الآية، من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، بل يصح لنا أن نقول:¬إن الوجهين معا مرادان، وسنختار ذلك، ونبين وجهه عندما نتكلم في تأويل المتشابه إن شاء الله تعالى.وإن وجود هذين القسمين في القرآن الكريم كان سببا في أن وَجَدَ الذين زاغوا وأضلهم الله على علم سبيلا لأن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم؛ وذلك بمحاولة تأويل المتشابه من غير أن يلاحظوا الموافقة بينه وبين الآيات المحكمات وهن أم الكتاب؛ ولذا قال سبحانه:(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ) في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه وتعالى أن الذين يتلقون هدى القرآن قسمان، كما أن آيات القرآن قسمان، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى؛ فالقسم الأول يتلقى الهدى القرآني مستضيئا بنوره آخذا بهديه؛ ما يعرفه يهتدي به، وما لَا يعرِفه يؤمن به، ويفوض فيه الأمر إلى ربه، ويقول: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ومَا أَنَا مِن الْمُتَكَلِّفِينَ). والقسم الثاني زاغ، فَأزاغه اللَّهُ عن الحق. وقد ذكر الله ذلك القسم، ويفهم القسم الأول من قوله تعالى في حق الراسخين في العلم أنهم يقولون:¬

صفوة التفاسير للصابوني

[الآيات : 1 إلى 9]
اللغَةَ: {الحي} الباقي الدائم الذي لا يفنى ولا يموت {القيوم} القائم على تدبير شئون العباد {يُصَوِّرُكُمْ} التصوير: جعل الشيء على صورة معينة أي يخلقكم كما يريد {الأرحام} جمع رحم وهو محل تكوّن الجنين {مُّحْكَمَاتٌ} المحكم: ما كان واضح المعنى قال القرطبي: المحكم ما عُرف تأويله وفهم معناه و وأصله المرجع والمصير من قولهم آل الأمر إِلى كذا إذا صار إِليه {والراسخون} الرسوخ: الثبوت في الشيء والتمكن منه قال الشاعر:
لقد رسخت في القلب مني مودّة ... لليلي أبت أيامُها أن تغَيّرا
سَبَبُ النّزول: نزلت هذه الآيات في وفد نصارى نجران وكانوا ستين راكباً، فيهم أربعة عشر من أشرافهم ثلاثة منهم أكابرهم عبد المسيح أميرهم و الأيهم مشيرهم و أبو حارثة بن علقمة حبرُهم، فقدموا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فتكلم منهم أولئك الثلاثة معه فقالوا تارةً عيسى هو الله لأنه كان يحيي الموتى، وتارةً هو ابن الله إِذ لم يكن له أب، وتارة إِنه ثالث ثلاثة لقوله تعالى فعلنا وقلنا ولو كان واحداً لقال فعلتُ وقلتُ فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ألستم تعلمون أن ربنا حيٍّ لا يموت وأن عيسى يموت! {قالوا: بلى، قال ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إِلا ويشبه أباه} {قالوا بلى، قال ألستم تعلمون أن ربنا قائم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه فهل يملك عيسى شيئاً من ذلك؟ قالوا: لا، قال ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهل يعلم عيسى شيئاً من ذلك إِلا ما علم؟ قالوا: لا، قال ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث وأن عيسى كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث} ! قالوا بلى فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكيف يكون كما زعمتم؟ فسكتوا وأبوا إِلا الجحود فأنزل الله من أول السورة إِلى نيفٍ وثمانين آية.
التفِسير: {الم} إِشارة إِلى إِعجاز القرآن وأنه منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية وقد تقدّم في أول البقرة {الله لا إله إِلاَّ هُوَ} أي لا ربَّ سواه ولا معبود بحقٍ غيره {الحي القيوم} أي الباقي الدائم الذي لا يموت، القائم على تدبير شئون عباده {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق} أي نزّل عليك يا محمد القرآن بالحجج والبراهين القاطعة {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتب المنزّلة قبله المطابقة لما جاء به القرآن {وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ} أي أنزل الكتابين العظيمين التوراة و الإِنجيل من قبل إِنزال هذا القرآن هداية لبني إِسرائيل {وَأَنزَلَ الفرقان} أي جني الكتب السماوية لأنها تفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وقيل: المراد بالفرقان القرآن وكرّر تعظيماً لشأنه {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله} أي جحدوا بها وأنكروها وردّوها بالباطل {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي عظيم أليم في الآخرة {والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} أي غالب على أمره لا يُغلب، منتقم ممن عصاه {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} أي لا يغيب ولا يغرب عن علمه أمرٌ من الأمور، فهو مطلع على كل ما في الكون لا تخفى عليه خافية {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} أي يخلقكم في أرحام أمهاتكم كما يشاء من ذكرٍ وأنثى، وحسن وقبيح {لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} أي لا ربّ سواه، متفردٌ بالوحدانية والألوهية، العزيز في ملكه الحكيم في صنعه، وفي الآية ردٌّ على النصارى حيث ادعوا ألوهية عيسى فنبّه تعالى بكونه مصوّراً في الرحم، وأنه لا يعلم الغيب على أنه عبد كغيره من العباد {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} أي أنزل عليك يا محمد القرآن العظيم {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب} أي فيه آيات بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها ولا غموض كآيات الحلال والحرام، هنَّ أصل الكتاب وأساسه {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أي وفيه آيات أُخَر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس، فمن ردّ المتشابه إِلى الواضح المحكم فقد اهتدى، وإِن عكس فقد ضلّ ولهذا قال تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أي فأمّا من كان في قلبه ميلٌ عن الهدى إِلى الضلال فيتبع المتشابه منه ويفسّره على حسب هواه {ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ} أي طلباً لفتنة الناس في دينهم، وإِيهاماً للأتباع بأنهم يبتغون كلام الله، كما فعل النصارى الضالون حيث احتجوا بقوله تعالى في شأن عيسى
{وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} [النساء: 171] على أن عيسى ابن الله أو هو جزء من الله فادعوا ألوهيته وتركوا المحكم وهو قوله تعالى {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59] الدالّ على أنه عبد من عباد الله ورسوله من رسله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} أي لا يعلم المتشابه ومعناه الحقيقي إِلا الله وحده {والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} أي الثابتون المتمكنون من العلم يؤمنون بالمتشابه وأنه من عند الله {كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} أي كلّ من المتشابه والمحكم حقٌ وصدق لأنه كلام الله، قال تعالى {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} أي ما يتعظ ويتدبر إِلا أصحاب العقول السليمة المستنيرة {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} أي لا تُمِلْها عن الحق ولا تضلنا {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} أي بعد أن هديتنا إِلى دينك القويم وشرعك المستقيم {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً} أي امنحنا من فضلك وكرمك رحمةً تثبتنا بها على دينك الحق {إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب} أي أنت يا رب المتفضل على عبادك بالعطاء والإِحسان {رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} أي جامع الخلائق في ذلك اليوم الرهيب يوم الحساب الذي لا شك فيه {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} أي وعدك حق وأنت يا رب لا تخلف الموعد، كقوله تعالى
{الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً} [النساء: 87] ؟!
البَلاَغَة: 1 {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} عبّر عن القرآن بالكتاب الذي هو اسم جنس إِيذاناً بكمال تفوقه على بقية الكتب السماوية كأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب.
2 {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} كناية عمّا تقدمه وسبقه من الكتب السماوية فسمى ما مضى بين يديه لغاية ظهوره واشتهاره.
3 {وَأَنزَلَ الفرقان} أي أنزل سائر ما يفرق بين الحق والباطل فهو من باب عطف العام على الخاص حيث ذكر أولاً الكتب الثلاثة ثم عمَّ الكتب كلها لإِفادة الشمول مع العناية بالخاص.
4 {هُنَّ أُمُّ الكتاب} قال الشريف الرضي: هذه استعارة والمراد بها أن هذه الآيات جماع الكتاب وأصله فهي بمنزلة الأم له، وكأنَّ سائر القرآن يتبعها أو يتعلق بها كما يتعلق الولد بأمه ويفزع إِليها في مهمة.
5 {والراسخون فِي العلم} وهذه استعارة المراد بها المتمكنون في العلم تشبيهاً برسوخ الشيء الثقيل في الأرض الوُّارة وهو أبلغ من قوله والثابتون في العلم.
الفوَائِد: الأولى: روى مسلم عن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلا {والراسخون فِي العلم} الآية ثم قال: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّاهم الله فاحذروهم .
الثانية: قال القرطبي: أحسن ما قيل في المتشابه والمحكم: أنَّ المحكم ما عُرف تأويله وفهم معناه وه، والمتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه دون خلقه ولم يكن لأحدٍ إِلى علمه سبيل، قال بعضهم: وذلك مثل وقت قيام الساعة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدجال، وعيسى، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور. الثالثة: آيات القرآن قسمان: محكمات ومتشابهات كما دلت عليه الآية الكريمة، فإِن قيل: كيف يمكن التوفيق بين هذه الآية وبين ما جاء في سورة هود أن القرآن كلَّه محكم {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [الآية: 1] وما جاء في الزمر أن القرآن كلَّه متشابهٌ {نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً}
[الآية: 23] ؟! فالجواب أنه لا تعارض بين الآيات إذ كل آية لها معنى خاص غير ما نحن في صدده فقوله {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] بمعنى أنه ليس به عيب، وأنه كلامٌ حق فصيح الألفاظ، صحيح المعاني وقوله {كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} [الزمر: 23] بمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحُسن ويصدق بعضه بعضاً، فلا تعارض بين الآيات.
الرابعة: روى البخاري عن سعيد بن جبير أن رجلاً قال لابن عباس: إِني أجد في القرآن أشياءً تختلف عليًّ، قال: ما هو؟ قال قوله تعالى: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} [المؤمنون: 101] وقال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الصافات: 27] وقال تعالى: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} [النساء: 42] وقال {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فقد كتموا في هذه الآية، وفي النازعات ذكرَ خلق السماء قبل خلق الأرض، وفي فصِّلت ذَكَر خلق الأرض قبل خلق السماء، وقال: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 96] {وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء: 158] {وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 134] فكأنه كان ثم مضى. . فقال ابن عباس: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} [المؤمنون: 101] في النفخة الأولى {فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله} [الزمر: 68] فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة قبل بعضهم على بعض يتساءلون، وأما قوله {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} [النساء: 42] فإٍِن الله يغفر لأهل الإِخلاص ذنوبهم فيقول المشركون تعالوا نقول: لم نكن مشركين، فختم الله على أفواههم جوارحهم بأعمالهم لهم فعند ذلك عُلاف أن الله لا يكتم حديثاً وعنده يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين، وخلق الله الأرض في يومين ثم استوى إِلى السماء فسواهنَّ سبع سماوات في يومين، ثم دحا الأرض أي بسطها فأخرج منها الماء والمرعى وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين فذلك قوله {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] فخلقت الأرض وما فيها في أربعة أيام وخلقت السماء في يومين، وقوله {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 96] فسمّى نفسه ذلك أي لم يزل ولا يزال كذلك، ويحكَ فلا يختلف عليك القرآن فإِن كلاً من عند الله.

فتح البيان لصديق حسن خان

[آية رقم :7]
(هو الذي أنزل عليك الكتاب) أي القرآن واللام للعهد وقدم الظرف وهو عليك لما يفيده من الاختصاص (منه آيات محكمات) أي بينات مفصلات أحكمت عبارتها من احتمال التأويل والاشتباه، كأنه تعالى أحكمها فمنع الخلق من التصرف فيها لظهورها ووضوح معناها. (هن أم الكتاب) أي أصله الذي يعول عليه في الأحكام ويعمل به في الحلال والحرام ويرد ما خالفه إليه، وهذه الجملة صفة لما قبلها، ولم يقل أمهات لأن الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة أو لأنه واقع موقع الجمع أو لأنه بمعنى أصل الكتب والأصل يوحد. (وأخر متشابهات) لا تفهم معانيها يعني أن لفظه يشبه لفظ غيره، ومعناه يخالف معناه، كأوائل السور، وأُخر جمع أخرى وإنما لم تنصرف لأنه عدل بها عن الآخر لأن أصلها أن يكون كذلك، وقال أبو عبيد لم تنصرف لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة وأنكر ذلك المبرد. وقد اختلف العلماء في تفسير المحكمات والمتشابهات على أقوال، فقيل أن المحكم ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره، والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، ومن القائلين بهذا جابر بن عبد الله والشعبي وسفيان الثوري، قالوا وذلك نحو الحروف المقطعة في أوائل السور. وقيل المحكم ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، والمتشابه ما يحتمل وجوهاً، فإذا ردت إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكماً. وقيل إن المحكم ناسخه وحرامه وحلاله وفرائضه وما يؤمن به ويعمل عليه، والمتشابه منسوخه وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل عليه روي هذا عن ابن عباس.وقيل المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ، روي هذا عن ابن مسعود وقتادة والربيع والضحاك. وقيل المحكم الذي ليس فيه تصريف ولا تحريف عما وضع له، والمتشابه ما فيه تصريف وتحريف وتأويل، قاله مجاهد وابن إسحق، قال ابن عطية وهذا أحسن الأقوال. وقيل المحكم ما كان قائماً بنفسه لا يحتاج إلى أن يرجع فيه إلى غيره، والمتشابه ما يرجع فيه إلى غيره، قال النحاس وهذا أحسن ما قيل في المحكمات والمتشابهات. قال القرطبي ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية وهو الجاري على وضع اللسان وذلك أن المحكم اسم مفعول من أحكم والإحكام الإتقان، ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته، واتقان تركيبها، ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال. وقال ابن خوازمنداد: للمتشابه وجوه ما اختلف فيه العلماء أي الآيتين نسخت الأخرى كما في الحامل المتوفى عنها زوجها فإن من الصحابة من قال: إن آية وضع الحمل نسخت آية الأربعة الأشهر والعشر. ومنهم من قال بالعكس، وكاختلافهم في الوصية للوارث وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن تقدم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه، وكتعارض الأخبار وتعارض الأقيسة، هذا معنى كلامه. والأولى أن يقال إن المحكم هو الواضح المعنى الظاهر الدلالة إما باعتبار نفسه أو باعتبار غيره، والمتشابه ما لا يتضح معناه أو لا يظهر دلالته لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره. وإذا عرفت أن الاختلاف الذي قدمناه ليس كما ينبغي، وذلك لأن أهل كل قول عرفوا المحكم ببعض صفاته، وعرفوا المتشابه بما يقابلها.وبيان ذلك أن أهل القول الأول جعلوا المحكم ما وجد إلى علمه سبيل. والمتشابه ما لا سبيل إلى علمه، ولا شك أن مفهوم المحكم والمتشابه أوسع دائرة مما ذكروه، فإن مجرد الخفاء أو عدم الظهور أو الاحتمال أو التردد يوجب التشابه. وأهل القول الثاني خصوا المحكم بما ليس فيه احتمال، والمتشابه بما فيه احتمال، ولا شك أن هذا بعض أوصاف المحكم والمتشابه لا كلها. وهكذا أهل القول الثالث فإنهم خصوا كل واحد من القسمين بتلك الأوصاف المعينة دون غيرها. وأهل القول الرابع خصوا كل واحد منهما ببعض الأوصاف التي ذكرها أهل القول الثالث، والأمر أوسع مما قالوه جميعاً. وأهل القول الخامس خصوا المحكم بوصف عدم التصريف والتحريف، وجعلوا المتشابه مقابله، وأهملوا ما هو أهم من ذلك مما لا سبيل إلى علمه من دون تصريف وتحريف كفواتح السور المقطعة. وأهل القول السادس خصوا المحكم بما يقوم بنفسه، والمتشابه بما لا يقوم بها، وأن هذا هو بعض أوصافهما. وصاحب القول السابع وهو ابن خوازمنداد عمد إلى صورة الوفاق فجعلها محكماً، وإلى صورة الخلاف والتعارض فجعلها متشابهاً فأهمل ما هو أخص أوصاف كل واحد منهما من كونه باعتبار نفسه مفهوم المعنى أو غير مفهوم. وعن ابن عباس قال المحكمات ثلاث آيات من آخر سورة الأنعام (قل تعالوا) والآيتان بعدها، وفي رواية عنه قال: من هنا (قل تعالوا) إلى ثلاث آيات، ومن هنا (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) إلى ثلاث آيات بعدها. وأقول: رحم الله ابن عباس ما أقل جدوى هذا الكلام المنقول عنه، فإن تعيين ثلاث آيات أو عشر أو مائة من جميع آيات القرآن ووصفها بأنها محكمة ليس تحته من الفائدة شيء فالمحكمات هي أكثر القرآن على جميع الأقوال حتىعلى قوله المنقول عنه قريباً من أن المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به، والمتشابه ما يقابله، فما معنى تعيين تلك الآيات من آخر سورة الأنعام. وقيل المحكمات ما أطلع الله عباده على معناه، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، فلا سبيل لأحد إلى معرفته نحو الخبر عن أشراط الساعة. وقيل المحكم سائر القرآن، والمتشابه هي الحروف المقطعة في أوائل السور، وقيل إن المحكم ما لم يتكرر ألفاظه، والمتشابه ما تكررت ألفاظه، وقيل غير ذلك وللسلف أقوال كثيرة هي راجعة إلى ما قدمنا في أول هذا البحث. (فأما الذين في قلوبهم زيغ) أي ميل عن الحق كوفد نجران وغيرهم، والزيغ الميل ومنه زاغت الشمس وزاغت الأبصار. ويقال زاغ يزيغ زيغاً إذا ترك القصد، ومنه قوله تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) وزاغ وزال ومال متقاربة لكن زاغ لا يقال إلا فيما كان من حق إلى باطل، وقال الراغب: الزيغ الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين. (فيتبعون ما تشابه منه) أي يحيلون المحكم على المتشابه والمتشابه على المحكم، وهذه الآية تعم كل طائفة من الطوائف الخارجة عن الحق، وسبب النزول نصارى نجران فيتعلقون بالمتشابه من الكتاب فيشككون به على المؤمنين ويجعلونه دليلاً على ما هم فيه من البدعة المائلة عن الحق كما تجده في كل طائفة من طوائف البدعة، فإنهم يتلاعبون بكتاب الله تلاعباً شديداً ويوردون منه لتنفيق جهلهم ما ليس من الدلالة في شيء. (ابتغاء الفتنة) أي طلباً منهم لفتنة الناس في دينهم والتلبس عليهم وإفساد ذوات بينهم لا تحرياً للحق (وابتغاء تأويله) أي تفسيره على الوجه الذي يريدونه ويوافق مذاهبهم الفاسدة.قال الزجاج المعنى أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم فأعلم الله عز وجل أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله، الدليل على ذلك قوله (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله) أي يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب (يقول الذين نسوه) أي تركوه (قد جاءت رسل ربنا بالحق) أي قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل. وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة قالت تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (هو الذي أنزل عليك الكتاب إلى قوله أولوا الألباب) قالت قال " إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم " وفي لفظ " فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك سماهم الله فاحذروهم " هذا لفظ البخاري . ولفظ ابن جرير وغيره فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه والذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله فلا تجالسوهم وأخرج الطبراني وأحمد والبيهقي وغيرهم عن أبي أمامة عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: هم الخوارج . وقال ابن القيم في الإعلام إذا سئل أحد عن تفسير آية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فليس له أن يخرجها عن ظاهرها بوجوه التأويلات الفاسدة لموافقة نحلته وهواه، ومن فعل ذلك استحق المنع من الإفتاء والحجر عليه وهذا الذي ذكرناه هو الذي صرح به أئمة الكلام قديماً وحديثاً. وقال أبو المعالي الجويني في الرسالة النظامية ذهب أئمة السلف إلى الإنكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى، والذي نرتضيه رأياً وندين لله به إتباع سلف الأمة. وقد درج صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام والمثقلون بأعباء الشريعة وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، ولو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محبوباً لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك قاطعاً بأنه الوجه المتبع، فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب تعالى. وقال الغزالي: الإيمان المستفاد من الكلام ضعيف والإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع وبعد البلوغ بقرائن يتعذر التعبير عنها، وقد اتفقت كلمة الأئمة الأربعة على ذم الكلام وأهله. وقال بعض أهل العلم كيف لا يخشى الكذب على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من يحمل كلامه على التأويلات المستنكرة والمجازات المستكرهة التي هي بالألغاز والأحاجي أولى منها بالبيان والهداية، وهل يأمن على نفسه أن يكون ممن قال الله فيهم (ولكم الويل مما تصفون) انتهى. ولو علم المتأولون كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بالتأويلات التي لم يردها ولم يدل عليها كلامه، أي باب شر فتحوا على الأمة بالتأويلات الفاسدة وأي بناء للإسلام هدموا بها وأي معاقل وحصون استباحوها، كان أحدهم لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه أن يتعاطى شيئاً من ذلك، فكل صاحب باطل قد جعل ما تأوله المتأولون عذراً له فيما تأوله هو وقال ما الذي حرم على التأويل وأباحه لكم؟ فتأولت الطائفة المنكرة للمعاد نصوص المعاد، وكان تأويلهم من جنس تأويل منكري الصفات بل أقوى منه لوجوه عديدة يعرفها من وازن بين التأويلين، وكذلك فعلت الرافضة في أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة، وكذلك فعلت المعتزلة في تأويل أحاديث الرؤية والشفاعة، وكذلكالقدرية في نصوص القدر، وكذلك الحرورية وغيرهم من الخوارج في النصوص التي تخالف مذاهبهم وكذلك القرامطة والباطنية والمتصوفة طردت الباب وحملت الوادي على القرى وتأولت الدين كله. فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو من التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه ولا دل عليه أنه مراده، وهل اختلف الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل، وهل وقعت في الأمة فتنة صغيرة أو كبيرة إلا بالتأويل، فمن بابه دخل إليها، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل، وليس هذا مختصاً بدين الإسلام فقط بل سائر أديان الرسل لم تزل على الإستقامة والسداد حتى دخلها التأويل، فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد. وقد تواترت البشارات بصحة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المتقدمة ولكن سلطوا عليها التأويلات فافسدوها كما أخبر سبحانه عنهم من التحريف والتبديل والكتمان، والتحريف: تحريف المعاني بالتأويلات التي لم يردها المتكلم، والتبديل تبديل لفظه بلفظ آخر والكتمان جحده، وهذه الأودات الثلاثة منها غيرت الأديان والملل. وإذا تأملت دين المسيح وجدت النصارى إنما تطرقوا إلى فساده بالتأويل بما لا يكاد يوجد مثله في شيء من الأديان. ودخلوا إلى ذلك من باب التأويل، وكذلك زنادقة الأمم جميعهم إنما تطرقوا إلى فساد ديانات الرسل بالتأويل، ومن بابه دخلوا وعلى أساسه بنوا وعلى نقطه حطوا. والمتأولون أصناف عديدة بحسب الباعث لهم على التأويل وبحسب قصور أفهامهم ورقودها وأعظمهم توغلاً في التأويل الباطل من قصد قصده وفهمه كما شاء قصده وقصر فهمه كان تأويله أشد إنحرافاً. وبالجملة فافتراق أهل الكتابين وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إنما أوجبه التأويل، وإنما أريقت دماء السلمين يوم الجمل وصفين والحرة وفتنة ابنالزبير وهلم جرا بالتأويل، وإنما دخل أعداء الإسلام من المتفلسفة والقرامطة والإسماعيلية والنصرية من باب التأويل. فما امتحن الإسلام بمحنة إلا وسببها التأويل، فإن محنته إما من المتأولين وإما أن تسلط عليهم الكفار بسبب ما ارتكبوا من التأويل أو خالفوا في ظاهر التنزيل، وتعللوا بالأباطيل. وما الذي أراق دماء بني جذيمة وقد أسلموا غير التأويل حتى رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه فتبرأ إلى الله من فعل المتأول لقتلهم وأخذ أموالهم. وما الذي أوجب تأخر الصحابة رضي الله عنهم يوم الحديبية عن موافقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير التأويل حتى اشتد غضبه لتأخرهم عن طاعته حتى رجعوا عن ذلك التأويل؟. وما الذي سفك في دم أمير المؤمنين عثمان ظلماً وعدواناً، وأوقع الأمة فيما أوقعها فيه حتى الآن غير التأويل؟. وما الذي سفك دم عمار بن ياسر وأصحابه غير التأويل. وما الذي أراق دم ابن الزبير وحجر بن عدي وسعيد بن جبير وغيرهم من سادات الأمة غير التأويل؟. وما الذي أريقت عليه دماء العرب في فتنة أبي مسلم غير التأويل. وما الذي جرد الإمام أحمد بين العقابين وضرب السياط حتى عجت الخليقة إلى ربها غير التأويل؟. وما الذي قتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي وخلد خلقاً من العلماء في السجون حتى ماتوا غير التأويل؟. وما الذي سلط سوق التتار على دار الإسلام حتى ردوا أهلها غير التأويل؟. وهل دخلت طائفة الإلحاد من أهل الحلول والاتحاد إلا من باب التأويل؟.وهل فتح باب التأويل إلا مضادة ومناقضة لحكم الله في تعليمه عباده البيان الذي امتن في كتابه على الإنسان بتعليمه إياه، فالتأويل بالألغاز والأحاجي والأغلوطات أولى منه بالبيان، وهو فرق بين دفع حقائق ما أخبرت به الرسل عن الله وأمرت به بالتأويلات الباطلة المخالفة له، وبين رده وعدم قبوله، ولكن هذا رد جحود ومعاندة وذاك رد خداع ومصانعة. قال أبو الوليد بن رشد المالكي في كتابه المسمى بالكشف عن مناهج الأدلة وقد ذكر التأويل وجنايته على الشريعة إلى أن قال: (وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) وهؤلاء أهل الجدل والكلام وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيراً مما ظنوه ليس على ظاهره وقالوا إن هذا التأويل هو المقصود به، وإنما أمر الله به في صورة المتشابه إبتلاء لعباده واختباراً لهم، ونعوذ بالله من هذا الظن بالله، بل نقول إن كتاب العزيز إنما جاء معجزاً من جهة الوضوح والبيان فما أبعد من مقصد الشارع من ْقال فيما ليس بمتشابه أنه متشابه، ثم أول ذلك المتشابه بزعمه، وقال لجميع الناس إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل مثل ما قالوه في آية الاستواء على العرش وغير ذلك مما قالوا إن ظاهره متشابه. قال فهذه هي حالة الفرق الحادثة في هذه الشريعة وذلك أن كل فرقة منهم تأولت غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى، وزعمت أنه هو الذي قصده الشرع حتى تمزق الشرع كل ممزق، وبعد جداً عن موضوعه الأول. ولما علم صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أن مثل هذا يعرض ولا بد في شريعته قال - صلى الله عليه وسلم - " ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة " يعني بالواحدة التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله. وأنت إذا تأملت ما عرض في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد والعارض فيها من قبل التأويل تبينت أن هذا المثال صحيح، وأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج ثم المعتزلة ثم الأشعرية ثم الصوفية ثم جاء أبو حامد فطم الوادي على القرى، هذا كلامه بلفظه. ولو ذهبنا نستوعب ما جناه التأويل على الدنيا والدين وما نال الأمم قديماً وحديثاً بسببه من الفساد لاستدعى ذلك عدة أسفار والله المستعان. (وما يعلم تأويله إلا الله) التأويل يكون بمعنى التفسير كقولهم تأويل هذه الكلمة على كذا أي تفسيرها ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه، واشتقاقه من آل الأمر إلا كذا يؤول إليه أي صار وأولته تأويلاً أي صيرته، وهذه الجملة حالية أي يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله، والحال أنه ما يعلم تأويله إلا الله. وقد اختلف أهل العلم في قوله (والراسخون في العلم يقولون آمنا به) هل هو كلام مقطوع عما قبله أو معطوف على ما قبله فتكون الواو للجمع، فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع عما قبله وأن الكلام تم عند قوله: (إلا الله) وهذا قول ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وأبي الشعثاء وأبي نهيك وغيرهم، وهو مذهب الكسائي والفراء والأخفش وأبي عبيد وحكاه ابن جرير الطبري عن مالك، واختاره، وحكاه الخطابي عن ابن مسعود وأبي بن كعب. قال: وإنما روي عن مجاهد أنه نسق الراسخين على ما قبله وزعم أنهم يعملونه، قال واحتج له بعض أهل اللغة فقال معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا به، وزعم أن موضع يقولون نصب على الحال، وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معاً، ولا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل، فإذا لم يظهر فعل لم يكن حالاً، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال عبد الله راكباً يعني أقبل عبد الله راكباً، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله عبد الله يتكلم يصلح بين الناس فكان يصلح حالاً، فقول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده.وأيضاً فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئاً عن الخلق وينسبه لنفسه فيكون له في ذلك شريك ألا ترى قوله عز وجل (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) وقوله: (لا يجليها لوقتها إلا هو) وقوله: (كل شيء هالك إلا وجهه) فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه به لا يشركه فيه غيره وكذلك قوله تعالى (وما يعلم تأويله إلا الله) ولو كانت الواو في قوله (والراسخون) للنسق لم يكن لقوله (كل من عند ربنا) فائدة انتهى. قال القرطبي ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره فقد روي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به، وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم ويقولون على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخين. ولا يخفاك أن ما قاله الخطابي في وجه امتناع كون قوله (يقولون آمنا به) حالاً من أن العرب لا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل إلى آخر كلامه لا يتم إلا على فرض أنه لا فعل هنا، وليس الأمر كذلك فالفعل مذكور وهو قوله (وما يعلم تأويله) ولكنه جاء الحال من المعطوف وهو قوله (الراسخون) دون المعطوف عليه وهو قوله (إلا الله) وذلك جائز في اللغة العربية وقد جاء مثله في الكتاب العزيز، ومنه قوله تعالى (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم) إلى قوله (والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا) الآية وكقوله (وجاء ربك والملك صفاً صفاً) أي وجاءت الملائكة صفاً صفاً. ولكن ههنا مانع آخر من جعل ذلك حالاً وهو أن تقييد علمهم بتأويله بحال كونهم قائلين آمنا به ليس بصحيح فإن الراسخين في العلم على القول بصحة العطف على الاسم الشريف يعلمونه في كل حال من الأحوال إلا في هذه الحالة الخاصة، فاقتضى هذا أن جعل قوله (يقولون آمنا به) حالاً غيرصحيح، فتعين المصير إلى الاستئناف والجزم بأن قوله (والراسخون في العلم) مبتدأ خبره يقولون. قال البغوي وهذا أقيس بالعربية وأشبه بظاهر الآية. ومن جملة ما استدل به القائلون بالعطف أن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم فكيف يمدحهم وهم لا يعلمون ذلك، ويجاب عن هذا بأن تركهم لطلب علم ما لم يأذن الله به ولا جعل لخلقه إلى علمه سبيلاً هو من رسوخهم، لأنهم علموا أن ذلك مما استأثر الله بعلمه، وأن الذين يتبعونه هم الذين في قلوبهم زيغ، وناهيك بهذا من رسوخ. وأصل الرسوخ في لغة العرب الثبوت في الشيء، وكل ثابت راسخ وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل أو الشجر في الأرض، فهؤلاء ثبتوا في امتثال ما جاءهم من الله من ترك اتباع المتشابه وإرجاع علمه إلى الله سبحانه. ومن أهل العلم من توسط بين المقالين فقال التأويل يطلق ويراد به في القرآن شيئان (أحدهما) التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤل أمره إليه ومنه قوله (هذا تأويل رؤياي) ومنه قوله (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله) أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمها إلا الله عز وجل، ويكون قوله (والراسخون في العلم) مبتدأ، ويقولون آمنا به خبره. وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله (نبئنا بتأويله) أي تفسيره فالوقف على (والراسخون في العلم) لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون (يقولون آمنا به) حالاً منهم. ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون تأويله، وأطنب في ذلك، وهكذا جماعة من محققي المفسرين رجحوا ذلك.قال القرطبي: قال شيخنا أحمد بن عمرو هو الصحيح فإن تسميتهم راسخين يقضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوى في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع، لكن المتشابه يتنوع فمنه ما لا يعلم البتة كأمر الروح والساعة مما استأثر الله بعلمه وهذا لا يتعاطى علمه أحد، فمن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون علم التشابه، فإنما أراد هذا النوع، وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة فيتأول ويعلم تأويله المستقيم ويزال ما فيه من تأويل غير مستقيم انتهى. وقال الرازي: لو كان الراسخون في العلم عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه فإنهم لما عرفوه بالدلائل صار الإيمان به كالإيمان بالمحكم، فلا يكون في الإيمان به بخصوصه مزيد مدح. وأقول هذا الاضطراب الواقع في مقالات أهل العلم أعظم أسبابه اختلاف أقوالهم في تحقيق معنى المحكم والمتشابه، وقد قدمنا ما هو الصواب في تحقيقهما ونزيدك ههنا إيضاحاً وبياناً فنقول: إن من جملة ما يصدق عليه تفسير المتشابه الذي قدمناه فواتح السور فإنها، غير متضحة المعنى ولا ظاهرة الدلالة، لا بالنسبة إلى أنفسها لأنه لا يدري من يعلم بلغة العرب ويعرف عرف الشرع ما معنى (الم، المر، حم، طس طسم) ونحوها لأنه لا يجد بيانها في شيء من كلام العرب ولا من كلام الشرع فهي غير متضحة المعنى لا باعتبارها في نفسها ولا باعتبار أمر آخر يفسرها ويوضحها، ومثل ذلك الألفاظ المنقولة عن لغة العجم والألفاظ العربية التي لا يوجد في لغة العرب ولا في عرف الشرع ما يوضحها، وهكذا ما استأثر الله بعلمه كالروح وما في قوله (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام) إلى آخر الآية ونحو ذلك. وهكذا ما كانت دلالته غير ظاهرة لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره كورودالشيء محتملاً لأمرين احتمالاً لا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك الشيء في نفسه، وذلك كالألفاظ المشتركة مع عدم ورود ما يبين المراد من معنى ذلك المشترك من الأمور الخارجة، وكذلك ورود دليلين متعارضين تعارضاً كلياً بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر باعتبار نفسه ولا باعتبار أمر آخر يرجحه. وأما ما كان واضح المعنى باعتبار نفسه بأن يكون معروفاً في لغة العرب أو في عرف الشرع أو باعتبار غيره وذلك كالأمور المجملة التي ورد بيانهما في موضع آخر في الكتاب العزيز أو السنة المطهرة، والأمور التي تعارضت دلالتها ثم ورد ما يبين راجحها من مرجوحها في موضع آخر من الكتاب أو السنة أو سائر المرجحات المعروفة عند أهل الأصول المقبولة عند أهل الإنصاف، فلا شك ولا ريب أن هذه من الحكم لا من المتشابه، ومن زعم أنها من المتشابه فقد اشتبه عليه الصواب. فاشدد يديك على هذا فإنك تنجو به من مضايق ومزالق وقعت للناس في هذا المقام، حتى صارت كل طائفة تسمى ما دلّ على ما تذهب إليه محكماً، وما دلّ على ما يذهب إليه ما يخالفها متشابها، سيما أهل علم الكلام، ومن أنكر هذا فعليه بمؤلفاتهم. واعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على أنه جميعه محكم، لكن لا بهذا المعنى الوارد في الآية هذه بل بمعنى آخر، ومن ذلك قوله تعالى (كتاب أحكمت آياته) وقوله (تلك آيات الكتاب الحكيم) والمراد بالمحكم بهذا المعنى أنه صحيح الألفاظ قويم المعنى، فائق في البلاغة والفصاحة على كل كلام. وورد أيضاً ما يدل على أنه جميعه متشابه لكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها، بل بمعنى آخر، ومنه قوله (كتاباً متشابهاً) والمراد بالمتشابه بهذا المعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الصحة والفصاحة والحسن والبلاغةوقد ذكر أهل العلم لورود المتشابه في القرآن فوائد منها أنه يكون في الوصول إلى الحق مع وجودها فيه مزيد صعوبة ومشقة، وذلك يوجب مزيد الثواب للمستخرجين للحق وهم الأئمة المجتهدون. وقد ذكر الزمخشري والرازي وغيرهما وجوهاً هذا أحسنها، وبقيتها لا تستحق الذكر ههنا. وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن على سبعة أحرف زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا آمنا به كل من عند ربنا . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " نزل القرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفر، ما عرفتم فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلا عالمه " ، وإسناده صحيح. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس: تفسير القرآن على أربعة وجوه، تفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعذر الناس بجهالته من حلال أو حرام، وتفسير تعرفه العرب بلغتها، وتفسير لا يعلم تأويله إلا الله، من ادعى علمه فهى كاذب. وأخرج الدارمي في مسنده ونصر المقدسي في الحجة عن سليمان بن يسار أن رجلاً يقال له ضبيع قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل فقال من أنت فقال أنا ضبيع فقال وأنا عبد الله عمر، فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربه حتى دمي رأسه فقال يا أمير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي، وأخرجه الدارمي أيضاً من وجه آخر وفيه أنه ضربه ثلاث مرات يتركه في كل مرة حتى يبرأ ثم يضربه وأصل القصة أخرجه ابن عساكر في تاريخه عن أنس. وأخرج الدارمي وابن عساكر أن عمر كتب إلى أهل البصرة أن لا تجالسوا ضبيعاً. وقد أخرج هذه القصة جماعة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أنس وأبي أمامة وواثلة ابن الأسقع وأبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الراسخين في العلم فقال: " من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين في العلم " . وأخرجه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الجدال في القرآن كفر " . وأخرج نصر المقدسي في الحجة عن ابن عمر قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن وراء حجرته قوم يتجادلون في القرآن فخرج محمرة وجنتاه كأنما تقطران دماً فقال: " يا قوم لا تجادلوا بالقرآن فإنما ضل من كان قبلكم بجدالهم. إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً ولكن نزل يصدق بعضه بعضاً فما كان من محكمه فاعملوا به، وما كان متشابهه فآمنوا به " . (كل من عند ربنا) فيه ضمير مقدر عائد على قسمي المحكم والمتشابه أي كله أو المحذوف غير ضمير أي كل واحد منهما، وهذا من تمام المقول المذكور قبله (وما يذَّكر إلا أولوا الألباب) أي العقول الخالصة وهم الراسخون في العلم الواقفون عند متشابهه العاملون بمحكمه بما أرشدهم الله إليه في هذه الآية. (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)

فتح القدير للشوكاني

الكتاب هو القرآن، فاللام للعهد، وقدم الظرف وهو عليك لما يفيده من الاختصاص. وقوله: 7- "منه آيات محكمات" الموافق لقواعد العربية أن يكون الظرف خبراً مقدماً، والأولى بالمعنى أن يكون مبتدأ تقديره من الكتاب آيات بينات على نحو ما تقدم في قوله: "ومن الناس من يقول" وإنما كان أولى، لأن المقصود انقسام الكتاب إلى قسمين المذكورين لا مجرد الإخبار عنهما بأنهما من الكتاب، والجملة حالية في محل نصب أو مستأنفة لا محل لها. وقد اختلف العلماء في تفسير المحكمات والمتشابهات على أقوال: فقيل إن المحكم ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، ومن القائلين بهذا جابر بن عبد الله والشعبي وسفيان الثوري، قالوا: وذلك نحو الحروف المقطعة في أوائل السور، وقيل: المحكم ما لا يحتمل وجهاً واحداً، والمتشابه ما يحتمل وجوهاً فإذا ردت إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكماً، وقيل: إن المحكم ناسخه وجرامه وحلاله وفرائضه وما نؤمن به ونعمل عليه، والمتشابه منسوخه وأمثاله وأقسامه وما نؤمن به ولا نعمل به. روي هذا عن ابن عباس، وقيل المحكم: الناسخ، والمتشابه: المنسوخ، روي عن ابن مسعود وقتادة والربيع والمتشابه: ما فيه تصريف وتحريم وتأويل قاله مجاهد وابن إسحاق. قال ابن عطية: وهذا أحسن الأقوال، وقيل المحكم: ما كان قائماً بنفسه لا يحتاج إلى أن يرجع إلى غيره، والمتشابه: ما يرجع فيه إلى غيره. قال النحاس: وهذا أحسن ما قيل في المحكمات والمتشابهات. قال القرطبي: ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية وهو الجاري على وضع اللسان، وذلك أن المحكم إسم مفعول من أحكم، والإحكام: الإتقان، ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها، ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال. وقال ابن خويز منداد للمتشابه وجوه ما اختلف فيه العلماء أي الآيتين نسخت الأخرى، كما في الحامل المتوفى عنها زوجها، فإن من الصحابة من قال: إن آية وضع الحمل نسخت آية الأربعة الأشهر والعشر، ومنهم من قال العكس. وكاختلافهم في الوصية للوارث، وكتعارض الأقيسة، هذا معنى كلامه. والأولى أن يقال: إن المحكم هو الواضح المعنى الظاهر الدلالة، إما باعتبار نفسه أو باعتبار غيره، والمتشابه ما لا يتضح معناه، أو لا تظهر دلالته لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره. وإذا عرفت هذا عرفت أن هذا الاختلاف الذي قدمناه ليس كما ينبغي، وذلك لأن أهل كل قول عرفوا المحكم ببعض صفاته، وعرفوا المتشابه بما يقابلها. وبيان ذلك أن أهل القول الأول جعلوا المحكم ما وجد إلى عمله سبيل، والمتشابه ما لا سبيل إلى علمه، ولا شك أن مفهوم المحكم والمتشابه أوسع دائرة مما ذكروه، فإن مجرد الخفاء أو عدم الظهور أو الاحتمال أو التردد يوجب التشابه، وأهل القول الثاني خصوا المحكم بما ليس فيه احتمال، والمتشابه بما فيه احتمال، ولا شك أن ذها بعض أوصاف المحكم والمتشابه لا كلها، وهكذا أهل القول الثالث فإنهم خصوا كل واحد من القسمين بتلك الأوصاف المعينة دون غيرها، وأهل القول الرابع خصوا كل واحد منهما ببعض الأوصاف التي ذكرها أهل القول الثالث، والأمر أوسع مما قالوا جميعاً، وأهل القول الخامس خصوا المحكم بوصف عدم التصريف والتحريف، وجعلوا المتشابه مقابله، وأهملوا ما هو أهم من ذلك مما لا سبيل إلى عمله من دون تصريف وتحريف كفواتح السور المقطعة، وأهل القول السادس خصوا المحكم بما يقوم بنفسه، والمتشابه بما لا يقوم بها، وأن هذا هو بعض أوصافهما، وصاحب القول السابع وهو ابن خويز منداد عمد إلى صورة الوفاق فجعلها محكماً، وإلى صورة الخلاف والتعارض فجعلها متشابهاً، فأهمل ما هو أخص أوصاف كل واحد منهما من كونه باعتبار نفسه مفهوم المعنى أو غير مفهوم. قوله: "هن أم الكتاب" أي: أصله الذي يعتمد عليه، ويرد ما خالفه إليه وهذه الجملة صفة لما قبلها. قوله: "وأخر متشابهات" وصف لمحذوف مقدر: أي وآيات أخر متشابهات وهي جمع أخرى، وإنما لم ينصرف لأنه عدل بها عن الآخر، لأن أصلها أن يكون كذلك. وقال أبو عبيد: لم ينصرف لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، وأنكر ذلك المبرد. وقال الكسائي: لم تنصرف لأنها صفة، وأنكره أيضاً المبرد. وقال سيبويه: لا يجوز أن يكون أخر معدولة عن الألف واللام لأنها لو كانت معدولة عنها لكان معرفة، ألا ترى أن سحر معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة. قوله: "فأما الذين في قلوبهم زيغ" الزيغ: الميل: ومنه زاغت الشمس وزاغت الأبصار، ويقال: زاغ يزيغ زيغاً: إذا ترك القصد، ومنه قوله تعالى: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم" وهذه الآية تعم كل طائفة من الطوائف الخارجة عن الحق. وسبب النزول نصارى نجران كما تقدم، وسيأتي. قوله: "فيتبعون ما تشابه منه" أي: يتعلقون بالمتشابه من الكتاب فيشككون به على المؤمنين، ويجعلونه دليلاً على ما هم فيه من البدعة المائلة عن الحق، كما تجده في كل طائفة من طوائف البدعة، فإنهم يتلاعبون بكتاب الله تلاعباً شديداً، ويوردون منه لتفيق جهلهم ما ليس من الدلالة في شيء. قوله: "ابتغاء الفتنة" أي: طلباً لتأويله على الوجه الذي يريدونه ويوافق مذاهبهم الفاسدة. قال الزجاج: معنى ابتغائهم تأويله: أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم، فأعلم الله عز وجل أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله. قال: والدليل على ذلك قوله: "هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله" أي: يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب "يقول الذين نسوه" أي تركوه "قد جاءت رسل ربنا بالحق" أي: قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل. قوله: "وما يعلم تأويله إلا الله" التأويل يكون بمعنى التفسير، كقولهم تأويل هذه الكلمة على كذا: أي تفسيرها، ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه، واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يؤول إليه: أي صار، وأولته تأويلاً: أي صيرته، وهذه الجملة حالية: أي يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله، والحال أن ما يعلم تأويله إلا الله. وقد اختلف أهل العلم في قوله: "والراسخون في العلم" هل هو كلام مقطوع عما قبله أو معطوف على ما قبله؟ فتكون الواو للجميع، فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع عما قبله، وأن الكلام تم عند قوله: "إلا الله" هذا قول ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وأبي الشعثاء وأبي نهيك وغيرهم، وهو مذهب الكسائي والفراء والأخفش وأبي عبيد وحكاه ابن جرير الطبري عن مالك واختاره. وحكاه الخطابي عن ابن مسعود وأبي بن كعب قال: وإنما روي عن مجاهد أنه نسق الراسخين على ما قبله، وزعم أنهم يعلمونه، قال: واحتج له بعض أهل اللغة فقال: معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين: "آمنا به" وزعم أن موضع "يقولون" نصب على الحال وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه، لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معاً، ولا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل، فإذا لم يظهر فعل لم يكن حالاً، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال: عبد الله راكباً، يعني: أقبل عبد الله راكباً، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله: عبد الله يتكلم يصلح بين الناس، فكان يصلح حالاً كقول الشاعر: أنشدنيه أبو عمرو قال: أنشدنا أبو العباس ثعلب: أرسلت فيها رجلاً لكالكا يقصر يمشي ويطول باركا فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده. وأيضاً فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئاً عن الخلق وينسبه لنفسه فيكون له في ذلك شريك، ألا ترى قوله عز وجل: "قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله"، وقوله: "لا يجليها لوقتها إلا هو"، وقوله: "كل شيء هالك إلا وجهه" فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه به لا يشركه فيه غيره، وكذلك قوله تعالى: "وما يعلم تأويله إلا الله" ولو كانت الواو في قوله: "والراسخون" للنسق لم يكن لقوله: "كل من عند ربنا" فائدة انتهى. قال القرطبي: ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره. فقد روي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل، وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون: آمنا به. وقال الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم، و"يقولون" على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخون كما قال: الريح يبكي شجوه والبرق يلمع في الغمامه وهذا البيت يحتمل المعنيين، فيجوز أن يكون والبرق مبتدأ والخبر يلمع على التأويل الأول فيكون مقطوعاً مما قبله، ويجوز أن يكون معطوفاً على الريح، ويلمع في موضع الحال على التأويل الثاني أي لامعاً انتهى. ولا يخفاك أن ما قاله الخطابي في وجه امتناع كون قوله: "يقولون آمنا به" حالاً من أن العرب لا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل إلى آخر كلامه لا يتم إلا على فرض أنه لا فعل هنا، وليس الأمر كذلك، فالفعل مذكور، وهو قوله: "وما يعلم تأويله" ولكنه جاء الحال من المعطوف، وهو قوله: "والراسخون" دون المعطوف عليه، وهو قوله: "إلا الله" وذلك جائز في اللغة العربية. وقد جاء مثله في الكتاب العزيز. ومنه قوله تعالى: "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم" إلى قوله: " والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا " الآية، وكقوله: "وجاء ربك والملك صفاً صفاً" أي: وجاءت الملائكة صفاً صفاً، ولكن ها هنا مانع آخر من جعل ذلك حالاً، وهو أن تقييد علمهم بتأويله بحال كونهم قائلين: آمنا به ليس بصحيح، فإن الراسخين في العلم على القول بصحة العطف على الإسم الشريف يعلمونه في كل حال من الأحوال لا في هذه الحالة الخاصة، فاقتضى هذا أن جعل قوله: "والراسخون في العلم" مبتدأ خبره: "يقولون"، ومن جملة ما استدل به القائلون بالعطف أن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم، فكيف يمدحهم وهم لا يعلمون ذلك؟ ويجاب عن هذا بأن تركهم لطلب علم ما لم يأذن الله به، ولا جعل لخلقه إلى عمله سبيلاً هو من رسوخهم، لأنهم عملوا أن ذلك مما استأثر الله بعلمه وأن الذين يتبعونه هم الذين في قلوبهم زيغ، وناهيك بهذا من رسوخ. وأصل الرسوخ في لغة العرب: الثبوت في الشيء، وكل ثابت راسخ، وأصله في الأجرام أن ترسخ الخيل أو الشجر في الأرض، ومنه قول الشاعر: لقد رسخت في الصدر مني مودة لليلى أبت آياتها أن تغيرا فهؤلاء ثبتوا في امتثال ما جاءهم عن الله من ترك اتباع المتشابه، وإرجاع علمه إلى الله سبحانه. ومن أهل العلم من توسط بين المقامين فقال: التأويل يطلق ويراد به في القرآن شيئان: أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله: "هذا تأويل رؤياي"، وقوله: "هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله" أي: حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة، لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه إلا الله عز وجل، ويكون قوله: "والراسخون في العلم" مبتدأ، و"يقولون آمنا به" خبره. وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله: "نبئنا بتأويله" أي: بتفسيره فالوقف على "والراسخون في العلم" لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون "يقولون آمنا به" حالاً منهم، ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون تأويله، وأطنب في ذلك، وهكذا جماعة من محققي المفسرين رجحوا ذلك. قال القرطبي: قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر: وهو الصحيح فإن تسميتهم راسخين تقضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع، لكن المتشابه يتنوع، فمنه ما لا يعلم ألبتة كأمر الروح والساعة مما استأثر الله بعلمه، وهذا لا يتعاطى علمه أحد، فمن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه فإنما أراد هذا النوع. وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة فيتأول ويعلم تأويله المستقيم ويزال ما فيه من تأويل غير مستقيم انتهى. واعلم أن هذا الاضطراب الواقع في مقالات أهل العلم أعظم أسبابه اختلاف أقوالهم في تحقيق معنى المحكم والمتشابه. وقد قدمنا لك ما هو الصواب في تحقيقهما، ونزيدك ها هنا إيضاحاً وبياناً، فنقول: إن من جملة ما يصدق عليه تفسير المتشابه الذي قدمناه فواتح السور، فإنها غير متضحة المعنى، ولا ظاهرة الدلالة، لا بالنسبة إلى أنفسها لأنه لا يدرى من يعلم بلغة العرب، ويعرف عرف الشرع ما معنى آلم، آلمر، حم، طس، طسم ونحوها، لأنهلأيأتي لا يجد بيانها في شيء من كلام العرب ولا من كلام الشرع، فهي غير متضحة المعنى، لا باعتبارها نفسها، ولا باعتبارها أمر آخر يفسرها ويوضحها، ومثل ذلك الألفاظ المنقولة عن لغة العجم، والألفاظ الغريبة التي لا يوجد في لغة العرب ولا في عرف الشرع ما يوضحها، وهكذا ما استأثر الله بعلمه كالروح وما في قوله: "إن الله عنده علم الساعة" إلى آخر الآية، ونحو ذلك وهكذا ما كانت دلالته غير ظاهرة لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره كورود الشيء محتملاً لأمرين احتمالاً لا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك الشيء في نفسه، وذلك كالألفاظ المشتركة مع عدم ورود ما يبين المراد من معنى ذلك المشترك من الأمور الخارجة، وكذلك ورود دليلين متعارضين تعارضاً كلياً بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر لا باعتبار نفسه ولا باعتبار أمر آخر يرجحه. وأما ما كان واضح المعنى باعتبار نفسه بأن يكون معروفاً في لغة العرب أو في عرف الشرع أو باعتبار غيره وذلك كالأمور المجملة التي ورد بيانها في موضع آخر من الكتاب العزيز أو في السنة المطهرة أو الأمور التي تعارضت دلالتها، ثم ورد ما يبين راجحها من مرجوحها في موضع آخر من الكتاب أو السنة أو سائر المرجحات المعروفة عند أهل الأصول المقبولة عند أهل الإنصاف فلا شك ولا ريب أن هذه من المحكم لا من المتشابه ومن زعم أنها من المتشابه فقد اشتبه عليه الصواب، فاشدد يديك على هذا فإنك تنجو به من مضايق ومزالق وقعت للناس في هذا المقام حتى صارت كل طائفة تسمي ما دل لما ذهب إليه محكماً وما دل على ما يذهب إليه من يخالفها متشابهاً: سيما أهل علم الكلام، ومن أنكر هذا فعليه بمؤلفاتهم. واعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على أنه جميعه محكم ولكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية بل بمعنى آخر، ومن ذلك قوله تعالى: "كتاب أحكمت آياته" وقوله: "تلك آيات الكتاب الحكيم" والمراد بالمحكم بهذا المعنى أنه صحيح الألفاظ قويم المعاني فائق في البلاغة والفصاحة على كل كلام وورد أيضاً ما يدل على أنه جميعه متشابه لكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها بل بمعنى آخر ومنه قوله تعالى: "كتاباً متشابها" والمراد بالمتشابه بهذا المعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الصحة والفصاحة والحسن والبلاغة. وقد ذكر أهل العلم لورود المتشابه في القرآن فوائد: منها أنه يكون في الوصول إلى الحق مع وجودها فيه مزيد صعوبة ومشقة، وذلك يوجب مزيد الثواب للمستخرجين للحق وهم الأئمة المجتهدون، وقد ذكر الزمخشري والرازي وغيرهما وجوهاً هذا أحسنها وبقيتها لا تستحق الذكر ها هنا. قوله: "كل من عند ربنا" فيه ضمير مقدر عائد على قسمي المحكم والمتشابه: أي كله، أو المحذوف غير ضمير: أي كل واحد منهما وهذا من تمام المقول المذكور قبله. وقوله: " وما يذكر إلا أولو الألباب " أي العقول الخالصة: وهم الراسخون في العلم، الواقفون عند متشابهه، العالمون بمحكمه العاملون بما أرشدهم الله إليه في هذه الآية.

محاسن التأويل للقاسمي

{ هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } واضحات الدلالة: { هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } أي: أصله المعتمد عليه في الأحكام: { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } وهي ما استأثر الله بعلمها لعدم اتضاح حقيقتها التي أخبر عنها، أو ما احتملت أوجهاً. وجعله كله محكماً في قوله: { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } [هود: 1]، بمعنى أنه ليس فيه عيب، وأنه كلام حق فصيح الألفاظ، صحيح المعاني.
ومتشابها في قوله:
{ كِتَاباً مُتَشَابِهاً } [الزمر: 23]، بمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن، ويصدق بعضه بعضاً: { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } أي: ميل عن استقامة إلى كفر وأهواء وابتداع: { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ } أي: طلب الإيقاع في الشبهات واللبس: { وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ } وحده: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } أي: الثابتون المتمكنون مبتدأ، خبره: { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } أي: بالمتشابه على ما أراد اللهتعالى: { كُلٌّ } من المحكم والمتشابه: { مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ } أي: العقول الخالصة من الركون إلى الأهواء الزائغة. وهو تذييل سيق منهتعالى مدحاً للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر.
تنبيه
للعلماء في المحكم والمتشابه أقوال كثيرة، ومباحث واسعة، وأبدع ما رأيته في تحرير هذا المقام مقالة سابغة الذيل لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية عليه الرحمة والرضوان. يقول في خلالها:
المحكم في قرآن، تارة يقابل بالمتشابه والجميع من آيات الله، وتارة يقابل بما نسخه الله، مما ألقاه الشيطان.
ومن الناس من يجعله مقابلاً لما نسخه الله مطلقاً حتى يقول: هذه الآية محكمة ليست منسوخة، ويجعل المنسوخ ليس محكماً، وإن كان الله أنزله أولاً إتباعاً للظاهر من قوله: { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ }.
فهذه ثلاثة معان تقابل المحكم، ينبغي التفطن لها.
وجماع ذلك أن الإحكام تارة يكون في التنزيل. فيكون في مقابلته ما يلقيه الشيطان. فالمحكم المنزل من عند الله أحكمه الله، أي: فصله من الاشتباه بغيره، وفصل منه ما ليس منه، فإن الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه، ولهذا دخل فيه معنى المنع، كما دخل في الحد بالمنع جزء معناه، لا جميع معناه، وتارة يكون في إبقاء التنزيل عند من قابله بالنسخ الذي هو رفع ما شرع، وهو اصطلاحي. أو يقال: وهو أشبه: السلف كانوا يسمون كل رفع نسخاً، سواء كان رفع حكم، أو رفع دلالة ظاهرة، فكل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح كتخصيص العام وتقييد المطلق، فهو منسوخ في اصطلاح السلف، وإلقاء الشيطان في أمنيته قد يكون في نفس لفظ المبلِّغ، وقد يكون في مسمع المبلِّغ، وقد يكون في فهمه، كما قال:
{ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [الرعد: 17]. ومعلوم أن من سمع، سمع النص الذي قد رفع حكمه، أو دلالة له، فإنه يلقى الشيطان في تلك التلاوة اتباع ذلك المنسوخ، فيحكم الله آياته بالناسخ الذي به رفع الحكم، وبان المراد. وعلى هذا التقدير، فيصح أن يقال: المتشابه والمنسوخ، بهذا الاعتبار. والله أعلم.
وتارة يكون الإحكام في التأويل والمعنى، وهو تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها، حتى لا تشتبه بغيرها. وفي مقابلة المحكمات الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه هذا. فتكون محتملة للمعنيين، ولم يقل في المتشابه: ولا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله، وإنما قال: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين في هذا الموضع. فإن الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو. والوقف هنا، على ما دل عليه أدلة كثيرة، وعليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمهور التابعين، وجماهير الأمة. ولكن لم ينفِ علمهم بمعناه وتفسيره، بل قال:
{ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } [ص: 29]. وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات. وما لا يعقل له معنى لا يتدبر، وقال: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } [النساء: 82].
ولم يستثن شيئاً منه نهى عن تدبره. والله ورسوله إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمره الله وطلب فهمه ومعرفة معناه، فلم يذمه الله، بل أمر بذلك ومدح عليه.
يبين ذلك أن التأويل، قد روي أن اليهود الذين كانوا بالمدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كحيي بن أحطب، وغيره من طلب من حروف الهجاء التي في أوائل السور بقاء هذه الأمة، كما سلك ذلك طائفة من المتأخرين موافقة للصابئة المنجمين، وزعموا أنه ستمائة وثلاثة وتسعون عاماً، لأن ذلك هو عدد ما للحروف في حساب الجمل، بعد إسقاط المكرر. وهذا من نوع تأويل الحوادث التي أخبر بها القرآن في اليوم الآخر. وروي أن من النصارى الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد نجران من تأول " أنا ونحن " على أن الآلهة ثلاثة، لأن هذا الضمير جمع. وهذا تأويل في الإيمان بالله. فأولئك تأولوا في اليوم الآخر. وهؤلاء تأولوا في الله. ومعلوم أن " أنا ونحن " من المتشابه. فإنه يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه، ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه وإن لم يكونوا من جنسه، ويراد الواحد المعظم نفسه، الذي يقوم مقامه من معه غيره لتنوع أسمائه التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى.
فصار هذا متشابهاً لأن اللفظ واحد، والمعنى متنوع، والأسماء المشتركة في اللفظ هي من المتشابه، وبعض المتواطئ أيضاً من المتشابه. ويسميها أهل التفسير: " الوجوه والنظائر " وصنفوا كتب الوجوه والنظائر. فالوجوه في الأسماء المشتركة، والنظائر في الأسماء المتواطئة. وقد ظن بعض أصحابنا المصنفين في ذلك أن الوجوه والنظائر جميعاً في الأسماء المشتركة، فهي نظائر باعتبار اللفظ، ووجوه باعتبار المعنى، وليس الأمر على ما قاله، بل كلامهم صريح فيما قلناه لمن تأمله، والذين في قلوبهم زيغ يدعون المحكم الذي لا اشتباه فيه مثل:
{ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد } [البقرة: 163] { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } [طه: 14] { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } [المؤمنون: 91]: { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } [الفرقان: 2] { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [الإخلاص: 3 - 4]. ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ليفتنوا به الناس إذا وضعوه على غير مواضعه، وحرفوا الكلم عن مواضعه. وابتغاء تأويله وهو الحقيقة التي أخبر عنها. وذلك أن الكلام نوعان: إنشاء في الأمر، وإخبار.
فتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به، كما قال من قال من السلف: إن السنة هي تأويل الأمر. قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك الله وبحمدك، اللهم اغفر لي. يتأول القرآن، تعني قوله:
{ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } [النصر: 3]. وأما الإخبار فتأويله عين الأمر المخبر به إذا وقع، ليس تأويله فهم معناه، وقد جاء اسم التأويل في القرآن في غير موضع. وهذا معناه. قال اللهتعالى: { وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [الأعراف: 52 - 53] فقد أخبر أنه فصل الكتاب، وتفصيله بيانه وتمييزه بحيث لا يشتبه، ثم قال: { هَلْ يَنظُرُونَ }، أي: ينتظرون { إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ }. إلى آخر الآية. وإنما ذلك مجيء ما أخبر به القرآن بوقوعه من القيامة وأشراطها، كالدابة ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ومجيء ربك والملك صفاً صفاً، وما في الآخرة من الصحف والموازين والجنة والنار وأنواع النعيم والعذاب وغير ذلك. فحينئذ يقولون: { قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ }. وهذا القدر الذي أخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقته وقدره وصفته إلا الله، فإن الله يقول: { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [السجدة: 17]. ويقول: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، فإن الله قد أخبر أن في الجنة خمراً ولبناً وماء وحريراً وذهباً وفضة وغير ذلك. ونحن نعلم قطعاً أن تلك الحقيقة ليست مماثلة لهذه، بل بينهما تباين عظيم مع التشابه. كما في قوله: { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً } [البقرة: 25]، على أحد القولين، أي: يشبه ما في الدنيا، وليس مثله، فأشبه اسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق، كما أشبهت الحقائقُ الحقائقَ من بعض الوجوه، فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من القدر المشترك بينهما، ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا، ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه، وتلك الحقائق على ما هي تأويل ما أخبر الله به، وهذا فيه رد على اليهود والنصارى والصابئين من المتفلسفة وغيرهم. فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح، ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن. ومن دخل في الإسلام ونافق المؤمنين , تأول ذلك على أن هذه أمثال مضروبة لتفهيم النعيم الروحاني، إن كان من المتفلسفة الصابئة المنكرة لحشر الأجساد. وإن كان من منافقة الملّتين المقرين بحشر الأجساد، تأول ذلك على تفهيم النعيم الذي في الجنة من الروحاني والسماع الطيب والروائح العطرة، كل ضال يحرف الكلم عن مواضعه إلى ما اعتقد ثبوته. وكان في هذا أيضاً متبعاً للمتشابه، إذ الأسماء تشبه الأسماء، والمسميات تشبه المسميات، ولكن تخالفها أكثر مما تشابهها. فهؤلاء يتبعون هذا المتشابه ابتغاء الفتنة بما يوردونه من الشبهات على امتناع أن يكون في الجنة هذه الحقائق، وابتغاء تأويله ليردوه إلى المعهود الذي يعلمونه في الدنيا، قال اللهتعالى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ }، فإن تلك الحقائق قال الله فيها: { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [السجدة: 7]، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل.
وقوله: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ }: إما أن يكون الضمير عائداً على الكتاب أو على المتشابه. فإن كان عائداً على الكتاب لقوله: منه، ومنه: { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ }، فهذا يصح، فإن جميع آيات الكتاب المحكمة والمتشابهة التي فيها إخبار عن الغيب الذي أمرنا أن نؤمن به، لا يعلم حقيقة ذلك الغيب ومتى يقع إلا الله، وقد يستدل لهذا أن الله جعل التأويل للكتاب كله مع أخباره أنه مفصل بقوله: { وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ }. فجعل التأويل الجائي الكتاب المفصل، وقد بينا أن ذلك التأويل لا يعلمه وقتاً وقدراً ونوعاً وحقيقة إلا الله، وإنما نعلم نحن بعض صفاته بمبلغ علمنا لعدم نظيره عندنا، وكذلك قوله: { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه } وإذا كان التأويل الكتاب كله والمراد به ذلك، ارتفعت الشبهة، وصار هذا بمنزلة قوله:
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [الأعراف: 187] - إلى قوله: { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ } [الأعراف: 187]. وكذلك قوله: { يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً } [الأحزاب: 63]. فأخبر أنه ليس علمها إلا عند الله، وإنما هو علم وقتها المعين وحقيقتها، وإلا فنحن قد علمنا من صفاتها ما أخبرنا به، فعلم تأويله كعلم الساعة والساعة من تأويله. وهذا واضح بيّن، ولا ينافي كون علم الساعة عند الله أن نعلم من صفاتها وأحوالها ما علمناه، وأن نفسر النصوص المبينة لأحوالها. فهذا هذا.
وإن كان الضمير عائداً إلى ما تشابه كما يقوله كثير من الناس، فلأن المخبر به من الوعد والوعيد متشابه، بخلاف الأمر والنهي. ولهذا في الآثار: العمل بمحكمه [ في المطبوع: بمحكمة ]، والإيمان بمتشابه، لأن المقصود في الخبر الإيمان. وذلك لأن المخبر به من الوعد والوعيد فيه من التشابه ما ذكرناه. بخلاف الأمر والنهي، فإنه متميز غير مشتبه بغيره، فإنه أمور نفعلها قد علمناها بالوقوع، وأمور نتركها لا بد أن نتصورها.
ومما جاء من لفظ التأويل في القرآن قولهتعالى:
{ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [يونس: 39]. والكتابة عائدة على القرآن، أو على ما لم يحيطوا بعلمه، وهو يعود إلى القرآن. قالتعالى: { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسورة مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ } [يونس: 37 - 40].
فأخبر سبحانه أن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون الله وهذه الصيغة تدل على امتناع المنفي كقوله:
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } [هود: 117] لأن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله. كما تحداهم وطالبهم لما قال: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [يونس: 38]، فهذا تعجيز لجميع المخلوقين. قالتعالى: { وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } [يونس: 37]، أي: مصدق الذي بين يديه، وتفصيل الكتاب، أي: مفصل الكتاب، فأخبر أنه مصدق الذي بين يديه ومفصل الكتاب. والكتاب اسم جنس. ولما تحدى القائلين: افتراه، ودل على أنهم هم المفترون، قال: { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ }. ففرق بين الإحاطة بعلمه، وبين إتيان تأويله.
فتبين أنه يمكن أن يحيط أهل العلم والإيمان بعلمه، ولما يأتهم تأويله، وأن الإحاطة بعلم القرآن ليست إتيان تأويله، فإن الإحاطة بعمله معرفة معاني الكلام على التمام، وإتيان التأويل نفس وقوع المخبر به. وفرق بين معرفة الخبر وبين المخبر به. فعمرفة الخبر هي معرفة تفسير القرآن , ومعرفة المخبر به هي معرفة تأويله. وهذا هو الذي بيناه فيما تقدم.
إن الله إنما أنزل القرآن ليعلم ويفهم ويفقه ويتدبر ويتفكر به محكمه ومتشابه، وإن لم يعلم تأويله، ويبين ذلك أن الله يقول عن الكفار:
{ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } [الإسراء: 45 - 46]. فقد أخبر فقد أخبر، ذماً للمشركين، أنه إذا قرئ عليهم القرآن حجب بين أبصارهم وبين الرسول بحجاب مستور، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً. فلو كان أهل العلم والإيمان على قلوبهم أكنة أن يفقهوا بعضه لشاركوهم في ذلك. وقوله: { أَن يَفْقَهُوهُ } يعود إلى القرآن كله. فعلم أن الله يحب أن يفقه، ولهذا قال الحسن البصري: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت وماذا عنى بها. وما استثنى من ذلك لا متشابهاً ولا غيره. وقال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره مرات، أقفه عند كل آية وأسأله عنها. فهذا ابن عباس حبر الأمة، وهو أحد من كان يقول: لا يعلم تأويله إلا الله، يجيب مجاهداً عن كل آية في القرآن، وهذا هو الذي جعل مجاهداً ومن وافقه كابن قتيبة على أن جعلوا الوقف عن قوله: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } فجعلوا الراسخين يعلمون التأويل، لأن مجاهد تعلم من ابن عباس تفسير القرآن كله وبيان معانيه. فظن أن هذا هو التأويل المنفي عن غير الله. وأصل ذلك أن لفظ التأويل، وبه أشير إلى بين ما عناه الله في القرآن وبين ما كان يطلقه طوائف من السلف، وبين اصطلاح طوائف من المتأخرين، فبسبب الاشتراك في لفظ التأويل اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن.
ومجاهد إمام التفسير، قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.
وأما التأويل فشأن آخر. ويبين ذلك أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله وقال: هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين: إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أهل العلم والإيمان جميعهم. وإنما قد ينفون علم بعض ذلك على بعض الناس، وهذا لا ريب فيه، وإنما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك، فلقبوها، هل يجوز أن يشتمل القرآن على ما لا يعلم معناه، وما تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم؟ فجوّز ذلك طوائف متمسكين بظاهر من هذه الآية، وبأن الله يمتحن عباده بما شاء، ومنعها طوائف يتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه. والغالب على كلتا الطائفتين الخطأ. أولئك يقصرون في فهمهم القرآن بمنزلة من قيل فيه:
{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } [البقرة: 78]. وهؤلاء معتدون، بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه. ومن المتأخرين من وضع المسألة بلقب شنيع فقال: لا يجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعني به شيئاً، خلافاً للحشوية، وهذا لم يقله مسلم إن الله يتكلم بما لا معنى له، وإنما النزاع هل يتكلم بما لا يفهم معناه. وبين نفي المعنى عند المتكلم، ونفي الفهم عن المخاطب، بون عظيم. ثم احتج بما يجري على أصله، فقال: هذا عبث، والعبث على الله محال، وعنده أن الله لا يقبح منه شيء أصلاً، بل يجوز أن يفعل كل شيء، وليس له أن يقول العبث صفة نقص، فهو منتف عنه، لأن النزاع في الحروف، وهي عنده مخلوقة من جملة الأفعال، ويجوز أن يشتمل الفعل عنده على كل صفة، فلا نقل صريح، ولا عقل صحيح.
ومثال الفتن بين الطائفتين ومحار عقولهم أن مدعي التأويل أخطأوا في زعمهم أن العلماء يعلمون التأويل، وفي دعواهم أن التأويل هو تأويلهم الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه. فإن الأولين، لعلمهم بالقرآن والسنن، وصحة عقولهم، وعلمهم بكلام السلف، وكلام العرب، علموا يقيناً أن التأويل الذي يدعيه هؤلاء ليس هو معنى القرآن. فإنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وصاروا مراتب ما بين قرامطة وباطنية يتأولون للأخبار والأوامر. وما بين صابئة فلاسفة يتأولون عامة الأخبار عن الله وعن اليوم الآخر، حتى عن أكثر أحوال الأنبياء. وما بين جهمية ومعتزلة يتأولون بعض ما جاء في اليوم الآخر وفي آيات القدر، ويتأولون آيات الصفات. وقد وافقهم بعض متأخري الأشعرية على ما جاء في بعض الصفات، وبعضهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر. وآخرون من أصناف الأمة، وإن كان يغلب عليهم السنة، فقد يتأولون أيضاً مواضع يكون تأويلهم من تحريم الكلم عن مواضعه.
والذين ادعوا العلم بالتأويل مثل طائفة من السلف وأهل السنة، وأكثر أهل الكلام والبدع، رأوا أيضاً أن النصوص دلت على معرفة معاني القرآن. ورأوا عجزاً وعيباً وقبيحاً أن يخاطب الله عباده بكلام يقرؤونه ويتلونه وهم لا يفهمونه. وهم مصيبون فيما استدلوا به من سمع وعقل، لكن أخطأوا في معنى التأويل الذي نفاه الله، وفي التأويل الذي أثبتوه وتسلق بذلك مبتدعتهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه، وصار الأولون أقرب إلى السكوت والسلامة بنوع من الجهل، وصار الآخرون أكثر كلاماً وجدالاً، ولكن بفرية على الله، وقولٍ عليه ما لا يعلمونه، وإلحاد في أسمائه وآياته، فهذا هذا.
ومنشأ الشبهة الاشتراك في لفظ التأويل، فإن التأويل في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم هو صرف اللفظ عن المعنى الراجع إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف. فإذا قال أحد منهم: هذا الحديث أو هذا النص مؤول، أو هو محمول على كذا، قال الآخر: هذا نوع تأويل، والتأويل يحتاج إلى دليل. والمتأول عليه وظيفتان: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر، وهذا هو التأويل الذي يتنازعون فيه في مسائل الصفات، إذا صنف بعضهم في إبطال التأويل، أو ذم التأويل، أو قال بعضهم: آيات الصفات لا تؤول، وقال الآخر: بل يجب تأويلها، وقال الثالث: بل التأويل جائز يفعل عند المصلحة، يترك عند المصلحة، أو يصح للعلماء دون غيرهم، إلى غير ذلك من المقالات والتنازع.
وأما لفظ التأويل في لفظ السلف فله معنيان:
أحدهما: تفسير الكلام وبيان معناه، سواء وافق ظاهره أو خالفه، فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقارباً أو مترادفاً، وهذا - والله أعلم - هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله. ومحمد بن جرير الطبري يقول في تفسيره: القول في تأويل قوله كذا وكذا. واختلف أهل التأويل في هذه الآية. ونحو ذلك، ومراده التفسير.
والمعنى الثاني: في لفظ السلف وهو الثالث من مسمى التأويل مطلقاً هو نفس المراد بالكلام. فإن الكلام إن كان طلباً كان تأويله نفس الفعل المطلوب. وإن كان خبراً أن تأويله نفس الشيء المخبر به. وبين هذا المعنى والذي قبله بون. فإن الذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم، والكلام كالتفسير والشرح والإيضاح، ويكون وجود التأويل في القلب واللسان، له الوجود الذهني واللفظي والرسمي. وأما هذا، فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج، سواء كانت ماضية أو مستقبلة.
فإذا قيل: طلعت الشمس، فتأويل هذا نفس طلوعها. وهذا الوضع والعرف.
الثالث: هو لغة القرآن التي نزل بها وقد قدمنا التبيين في ذلك. ومن ذلك قول يعقوب عليه السلام ليوسف:
{ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } [يوسف: 6]. وقوله: { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } [يوسف: 36 - 37]. وقول الملأ: { أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ } [يوسف: 44] { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } [يوسف: 45]. وقول يوسف لما دخلوا عليه مصر وآوى إليه أبويه وقال: { ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } [يوسف: 99 ] { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } [يوسف: 100].
فتأويل الأحاديث التي هي رؤيا المنام هي نفس مدلولها التي تؤول إليه، كما قال يوسف:
{ هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ } [يوسف: 100]. والعالم بتأويلها الذي يخبر به. كما قال يوسف: { لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } [يوسف: 37] أي: في المنام { إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } [يوسف: 37]. أي: قبل أن يأتيكما التأويل. وقال اللهتعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [النساء: 59]. قالوا: أحسن عاقبة ومصيراً. فالتأويل هنا تأويل فعلهم الذي هو الرد إلى الكتاب والسنة، والتأويل في سورة يوسف تأويل أحاديث الرؤيا، والتأويل في الأعراف ويونس تأويل القرآن، وكذلك في سورة آل عِمْرَان. وقالتعالى في قصة موسى والعالم: { قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } [الكهف: 78]. إلى قوله: { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } [الكهف: 82].
فالتأويل هنا تأويل الأفعال التي فعلها العالم من خرق السفينة بغير إذن صاحبها. ومن قتل الغلام، ومن إقامة الجدار. فهو تأويل عمل، لا تأويل قول، وإنما كان كذلك لأن التأويل مصدر أوّله يؤوله تأويلاً، مثل حول تحويلاً، وعول تعويلاً. و أول يؤول تعدية آل يؤول أولاً، مثل حال يحول حولاً وقولهم آل يؤول أي: عاد إلى كذا ورجع إليه، ومنه المأل [ في المطبوع: المال ]، وهو ما يؤول إليه الشيء. ويشاركه في الاشتقاق الموئل، فإنه وَأَلَ، وهذا من أول، والموئل المرجع، قالتعالى:
{ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً } [الكهف: من الآية 58 ].
ومما يوافقه في اشتقاقه الأصغر الآل، فإن آل الشخص من يؤول إليه، ولهذا لا يستعمل إلا في عظيم، بحيث يكون المضاف إليه يصلح أن يؤول إليه الآل. كآل إبراهيم وآل لوط وآل فرعون. بخلاف الأهل. والأول أفعل، لأنهم قالوا في تأنيثه أولى، كما قالوا جمادى، وفي القصص: { لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ }. ومن الناس من يقول فوعل ويقول أوّله إلا أن هذا يحتاج إلى شاهد من كلام العرب، بل عدم صرفه يدل على أنه أفعل لا فوعل. فإن فوعل مثل كوثر وجوهر مصروف. سمي المتقدم أول - والله أعلم - لأن ما بعده يؤول إليه ويبنى عليه، فهو أس لما بعده وقاعدة له. والصيغة صيغة تفضيل مثل أكبر وكبرى وأصغر وصغرى لا من أحمر وحمراء، ولهذا يقولون: جئته أول من أمس وقال:
{ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } [التوبة: 108] { وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام: 163] { وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } [البقرة: 41]. ومثل هذا أول هؤلاء..
فهذا الذي فضل عليهم في الأول، لأن كل واحد يرجع إلى ما قبله، فيعتمد عليه، وهذا السابق؛ كلهم يؤول إليه. فإن من تقدم من فعل، فاستبق به من بعده، كان السابق الذي يؤول الكل إليه. فالأول له وصف السؤدد والاتباع. ولفظ الأول مشعر بالرجوع والعود. والأول مشعر بالابتداء. والمبتدي خلاف العائد، لأنه إنما كان أولاً لما بعده، فإنه يقال: أول المسلمين، وأول يوم، فما فيه من معنى الرجوع والعود , هو للمضاف إليه لا للمضاف. وإذا قلنا: آل فلان فالعود في المضاف، لأن ذلك صيغة تفضيل في كونه مآلاً ومرجعاً لغيره، لأنه كونه مفضلاً دل عليه أنه مآل ومرجع، لا آيل راجع، إذ لا فضل في كون الشيء راجعاً إلى غيره. آيلاً إليه، وإنما الفضل في كونه هو الذي يُرجع إليه ويُؤال. فلما كانت الصيغة صيغة تفضيل أشعرت بأنه مفضل في كونه مآلاً ومرجعاً، والتفضيل المطلق في ذلك يقتضي أن يكون هو السابق المبتدئ. والله أعلم.
فتأويل الكلام ما أوّله إليه المتكلم أو ما يؤول إليه الكلام أو ما تأوله المتكلم. فإن التفضيل يجري على غير فعّل كقوله:
{ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [المزمل: 8]، فيجوز أن يقال تأول الكلام إلى هذا المعنى تأويلاً، والمصدر واقع موقع الصفة، إذ قد يحصل المصدر صفة بمعنى الفاعل، كعدل وصوم وفطر، وبمعنى المفعول كدرهم ضرب الأمير، وهذا خلق الله. فالتأويل هو ما أول إليه الكلام أو يؤول إليه، أو تأول هو إليه. والكلام إنما يرجع ويعود ويستقر ويَؤُول ويُؤوَّل إلى حقيقته التي هي عين المقصود به، كما قال بعض السلف في قوله: { لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [الأنعام: 67]. قال: حقيقة. فإن كان خبراً فإلى الحقيقة الخبر بها يؤول ويرجع، وإلا لم تكن له حقيقة ولا مآل ولا مرجع، بل كان كذباً، وإن كان طلباً فإلى الحقيقة المطلوبة يؤول ويرجع، وإلا لم يكن مقصوده موجوداً ولا حاصلاً، ومتى كان الخبر وعداً أو وعيداً فإلى الحقيقة المطلوبة المنتظرة يؤول. كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية: { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } [الأنعام: 65]. قال: إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد.
فصل
وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم، فإنهم وإن أصابوا في كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم، فالكلام على هذا من وجهين:
الأول: من قال إن هذا من المتشابه وأنه لا يفهم معناه، ما الدليل على ذلك؟ فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة، ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه، وجعلوا أسماء الله وصفاتهم بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم. ولا قالوا إن الله ينزل كلاماً لا يفهم أحد معناه. وإنما قالوا: كلمات لها معان صحيحة. قالوا في أحاديث الصفات: تمر كما جاءت، ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها. التي مضمونها تعطيل النصوص على ما دلت عليه. ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك. وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات: تمر كما جاءت في أحاديث الوعد. مثل:
" من غشنا فليس منا " . وأحاديث الفضائل. ومقصوده بذلك أن الحديث لا يحرف كله عن مواضعه كما يفعله من يحرفه ويسمى تحريفه تأويلاً، بالعرف المتأخر.
فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل. وكذلك نص أحمد في كتاب الرد على الزنادقة الجهمية أنهم تمسكوا بمتشابه القرآن. وتكلم أحمد على ذلك المتشابه، وبين معناه وتفسيره بما يخالف تأويل الجهمية. وجرى في ذلك على سنن الأئمة قبله، فهذا اتفاق من الأئمة على أنه يعلمون معنى هذا المتشابه وأنه لا يسكت عن بيانه وتفسيره. بل يبين ويفسر. فاتفاق الأئمة من غير تحريف له على مواضعه أو إلحاد في أسماء الله وآياته.
ومما يوضح لك ما وقع هنا من الاضطراب، أن أهل السنة متفقون على إبطال تأويلات الجهمية ونحوهم من المنحرفين الملحدين، والتأويل المردود هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره. فلو قيل: إن هذا هو التأويل المذكور في الآية، وأنه لا يعلمه إلا الله، لكان في هذا تسليم للجهمية أن للآية تأويلاً يخالف دلالتها، لكن ذلك لا يعلمه إلا الله. وليس هذا مذهب السلف والأئمة، وإنما مذهبهم نفي هذه التأويلات وردها، لا التوقف عنها. وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها وتمر كما جاءت دالة على المعاني. لا تحرف ولا يلحد فيها.
والدليل على أن هذا ليس بمتشابه لا يعلم معناه، أن تقول: لا ريب أن الله سمى نفسه في القرآن بأسماء مثل الرحمن والودود والعزيز والجبار والقدير والرؤوف ونحو ذلك، ووصف نفسه بصفات، مثل سورة الإخلاص وآية الكرسي وأول الحديد وآخر الحشر، وقوله: { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }، و: { عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }، و:
{ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [آل عِمْرَان: من الآية 76] و: { الْمُقْسِطِينَ }، و: { الْمُحْسِنِينَ } [ البقرة: من الآية 58 ]، وأنه يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، و: { لَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } [الزخرف: 55] { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ } [محمد: 28] { وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ } [التوبة: 46] { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه: 5] { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [الأعراف: 54] { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [الحديد: 4]: { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } [الزخرف: 84] { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر: 10] { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [طه: 46] { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } [الأنعام: 3] { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ } [ص: 75] { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } [المائدة: 64] { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [الرحمن: 27] { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [الكهف: 28] { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [طه: 39]. إلى أمثال ذلك. فيقال لمن ادعى في هذا أنه متشابه لا يعلم معناه: أتقول هذا في جمع ما سمى الله ووصف به نفس أم في البعض؟ فإن قلت: هذا في الجميع كان هذا عناداً ظاهراً، وجحد لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، بل كفر صريح. فإنا نفهم من قوله: { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }. معنى. ونفهم من قوله: { أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } معنى ليس هو الأول. ونفهم من قوله: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [الأعراف: 156]. معنى، ونفهم من قوله: { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [إبراهيم: 47]، معنى. وصبيان المسلمين، بل وكل عاقل يفهم هذا.
وقد رأيت بعض من ابتدع وجحد من أهل المغرب مع انتسابه إلى الحديث، لكن أثرت فيه الفلسفة الفاسدة، من يقول: إنا نسمي الله الرحمن الرحيم العليم القدير علماً محضاً من غير أن نفهم منه معنى يدل على شيء قط، وكذلك في قوله: { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ }. يطلق هذا اللفظ من غير أن نقول له علم، وهذا الغلو في الظاهر، من جنس غلو القرامطة في الباطن. لكن هذا أيبس وذاك أكفر.
ثم يقال لهذا المعاند: فهل هذه الأسماء دالة على الإله المعبود، أو على حق موجود. أم لا؟ فإن قال: لا، كان معطلاً محضاً. وما أعلم مسلماً يقول هذا. وإن قال: نعم قيل له: فهل فهمت منها دلالتها على نفس الرب، ولم تفهم دلالتها على ما فيها من المعاني من الرحمة والعلم، وكلاهما في الدلالة سواء؟ فلا بد أن يقول: لأن ثبوت الصفات محال في العقل، لأنه يلزم منه التركيب أو الحدوث، بخلاف الذات.
فيخاطب حينئذ بما يخاطب به الفريق الثاني كما سنذكره. وهو من أقر بفهم بعض معنى هذه الأسماء والصفات دون بعض. فيقال له: ما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفيته أو سكت عن إثباته ونفيه؟ فإن الفرق إما أن يكون من جهة السمع، لأن أحد النصين دال دلالة قطعية أو ظاهرة، بخلاف الآخر. أو من جهة العقل بأن أحد المعنيين يجوز أو يجب إثباته دون الآخر، وكلا الوجهين باطل في أكثر المواضع، أما الأول فدلالة القرآن على أنه رحمن رحيم ودود سميع بصير عليٌّ عظيم، كدلالته على أنه عليم قدير، ليس بينهما فرق من جهة النص. وكذلك ذكره لرحمته ومحبته وعلوه مثل ذكره لمشيئته وإرادته.
وأما الثاني فيقال لمن أثبت شيئاً ونفى آخر: لم نفيت، مثلاً، حقيقة رحمته ومحبته وأعدت ذلك إلى أرادته؟
فإن قال: لأن المعنى المفهوم من الرحمة في حقنا هي رقة تمتنع على الله، قيل له: والمعنى المفهوم من الإرادة في حقنا هي ميل يمتنع على الله. فإن قال: إرادته ليست من جنس إرادة خلقه. قيل له: ورحمته ليست من جنس رحمة خلقه. وكذلك محبته. وإن قال وهو حقيقة قوله: لم أثبت الإرادة وغيرها بالسمع، وإنما أثبت العلم والقدرة والإرادة بالعقل. وكذلك السمع والبصر والكلام على إحدى الطريقتين، لأن افعل دل على القدرة، والإحكام دل على العلم، والتخصيص دل على الإرادة. قيل له: الجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الإنعام والإحسان وكشف الضر دل أيضاً على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة والتقريب والإدناء. وأنواع التخصيص التي لا تكون إلا من المحب تدل على المحبة، أو مطلق التخصيص يدل على الإرادة. وأما التخصيص بالإنعام فتخصيص خاص، والتخصيص بالتقريب والاصطفاء تقريب خاص، وما سلكه في مسلك الإرادة يسلك في مثل هذا.
الثاني: يقال له: هب أن العقل لا يدل على هذا، فإنه لا ينفيه إلا بمثل ما ينفي به الإرادة، والسمع دليل مستقل بنفسه، بل الطمأنينة إليه في هذه المضايق أعظم ودلالته أتم، فلأي شيء نفيت مدلوله أو توقفت وأعدت هذه الصفات كلها إلى الإرادة؟ مع أن النصوص تفرق. فلا يذكر حجة إلا عورض بمثلها في إثباته الإرادة زيادة على الفعل.
الثالث: يقال له: إذا قال لك الجهمي: الإرادة لا معنى لها إلا عدم الإكراه، أو نفس الفعل والأمر به، وزعم أن إثبات إرادة تقتضي محذوراً إن قال بقدمها، ومحذوراً إن قال بحدوثها.
وهنا اضطربت المعتزلة. فإنهم لا يقولون بإرادة قديمة لامتناع صفة قديمة عندهم. ولا يقولون بتجدد صفة له، لامتناع حلول الحوادث عن أكثرهم مع تناقضهم.
فصاروا حزبين:
البغداديون: وهم أشد غلواً في البدعة في الصفات وفي القدر، نفوا حقيقة الإرادة. وقال الحافظ: لا معنى لها إلا عدم الإكراه. وقال الكعبي: لا معنى لها إلا نفس الفعل، إذا تعلقت بفعله، ونفس الأمر إذا تعلقت بطاعة عباده.
والبصريون: كأبي علي وأبي هاشم. قالوا: تحدث إرادة لا في محل، فلا إرادة. فالتزموا حدوث حادث غير مراد وقيام صفة بغير محل، وكلاهما عند العقل معلوم الفساد بالبديهة. كان جوابه: أن ما ادعى إحالته من ثبوت الصفات ليس بمحال، والنص قد دل عليها، والفعل أيضاً. فإذا أخذ الخصم ينازع في دلالة النص أو العقل، جعل مسفسطاً أو مقرمطاً، وهذا بعينه موجود في الرحمة والمحبة، فإن خصومه ينازعونه في دلالة السمع والعقل عليها على الوجه القطعي.
ثم يقال لخصومه: بم أثبتم أنه عليم قدير؟ فما أثبتوه به من سمع وعقل فبعينه تثبت الإرادة، وما عارضوا به من الشبه عورضوا بمثله في العليم والقدير، وإذا انتهى الأمر إلى ثبوت المعاني، وأنها تستلزم الحدوث أو التركيب والافتقار، كان الجواب ما قررناه في غير هذا الموضع، فإن ذلك لا يستلزم حدوثاً ولا تركيباً مقتضياً حاجة إلى غيره.
ويعارضون أيضاً بما ينفي به أهل التعطيل الذات من الشبه الفاسدة، ويلزمون بوجود الرب الخالق المعلوم بالفطرة الخلقية، والضرورة العقلية، والقواطع العقلية، واتفاق الأمم، وغير ذلك من الدلائل. ثم يطالبون بوجود من جنس ما نعهده، أو بوجود يعلمون كيفيته، فلا بد أن يفروا إلى إثبات ما تشبه حقيقته الحقائق. فالقول في سائر ما سمي ووصف به نفسه كالقول في نفسه سبحانه وتعالى.
ونكتة هذا الكلام أن غالب من نفى وأثبت شيئاً مما دل عليه الكتاب والسنة، لا بد أن يثبت الشيء لقيام المقتضى، وانتفاء المانع. وينفي الشيء لوجود المانع أو لعدم المقتضى، أو يتوقف إذا لم يكن عنده مقتضٍ ولا مانع، فيبين له أن المقتضى فيما نفاه قائم، كما أنه فيما أثبته قائم. إما من كل وجه، أو من وجه يجبب به الإثبات. فإن كان المقتضى هناك حقاً، فكذلك هنا. وإلا فدرء ذاك المقتضى من جنس درء هذا. وأما المانع فيبين أن المانع الذي تخيله فيما نفاه من جنس المانع الذي تخيله فيما أثبته، فإذا كان ذلك المانع المستحيل موجوداً على التقديرين لم ينج من محذروه بإثبات أحدهما ونفي الآخر، فإنه إن كان حقاً نفاهما، وإن كان باطلاً لم ينف واحداً منهما، فعليه أن يسوي بين الأمرين في الإثبات والنفي، ولا سبيل إلى النفي، فتعين الإثبات. فهذه نكتة الإلزام لمن أثبت شيئاً. وما من أحد إلا ولا بد أن يثبت شيئاً أو يجب عليه إثباته، فهذا يعطيك من حيث الجملة أن اللوازم التي يدعي أنها موجبة النفي خيالات غير صحيحة, وإن لم يعرف فسادها على التفضيل, وأما من حيث التفصيل، فيبين فساد المانع وقيام المقتضى كما قرر هذا غير مرة.
فإن قال: من أثبت هذه الصفات التي هي فينا أعراض كالحياة والعلم والقدرة، ولم يثبت ما هو فيها أبعاض كاليد والقدم: هذه أجزاء وأبعاض تستلزم التركيب والتجسيم. قيل له: وتلك أعراض تستلزم التجسيم والتركيب العقلي كما استلزمت هذه عندك التركيب الحسي. فإن أثبت تلك على وجه لا تكون أعراضاً أو تسميتها أعراضاً لا يمنع ثبوتها، قيل له: وأثبت هذه على وجه لا تكون تركيباً وأبعاضاً أو تسميتها تركيباً وأبعاضاً لا يمنع ثبوتها.
فإن قال: هذه لا يعقل منها إلا الأجزاء، قيل له: وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض.
فإن قال: العرض ما لا يبقى وصفات الرب باقية. قيل: والبعض ما جاز انفصاله عن الجملة، وذلك في حق الله محال، فمفارقة الصفات القديمة مستحيلة في حق اللهتعالى مطلقاً، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه.
فإن قال: ذلك تجسيم والتجسيم منتف، قيل: وهذا تجسيم والتجسيم منتف.
فإن قال: أنا أعقل صفة ليست عرضاً بغير متحيز، وإن لم يكن له في الشاهد نظير. قيل له: فاعقل صفة هي لنا بعض لغير متحيز وإن لم يكن له في الشاهد نظير.
فإن نفى عقل هذا نفى عقل ذاك، وإن كان بينهما نوع فرق، لكنه فرق غير مؤثر في موضع النزاع. ولهذا كانت المعطلة الجهمية تنفي الجميع لكن ذاك أيضاً مستلزم لنفي الذات، ومن أثبت هذه الصفات الخبرية من نظير هؤلاء، صرح بأنها صفة قائمة به كالعلم والقدرة، وهذا أيضاً ليس هو معقول النص، ولا مدلول العقل، وإنما الضرورة ألجأتهم إلى هذه المضايق.
وأصل ذلك أنهم أتوا بألفاظ ليست في الكتاب ولا في السنة، وهي ألفاظ مجملة. مثل متحيز ومحدد وجسم ومركب، ونحو ذلك، ونفوا مدلولها، وجعلوا ذلك مقدمة بينهم مسلّمة، ومدلولاً عليها بنوع قياس، وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الأعراض، أو إثبات إمكان الجسم بالتركيب من الأجزاء، فوجب طرد الدليل بالحدوث والإمكان لكل ما شمله هذا الدليل، إذ الدليل القطعي لا يقبل الترك لمعارض راجح، فرأوا ذلك يعكر عليهم من جهة النصوص ومن جهة العقل من ناحية أخرى فصاروا أحزاباً، تارة يغلّبون القياس الأول ويدفعون ما عارضه وهم المعتزلة، وتارة يغلبون القياس الثاني ويدفعون الأول كهشام بن الحكم الرافضي، فإنه قد قيل: أول ما تكلم في الجسم نفياً وإثباتاً من زمن هشام بن الحكم وأبي الهذيل العلاف. فإن أبا الهذيل ونحوه من قدماء المعتزلة نفوا الجسم لما سلكوا من القياس. وعارضهم هشام وأثبت الجسم لما سلكوه من القياس، واعتقد الأولون إحالة ثبوته، واعتقد هذا إحالة نفيه، وتارة يجمعون بين النصوص والقياس بجمع يظهر فيه الإحالة والتناقض.
فما أعلم أحداً من الخارجين عن الكتاب والسنة من جميع فرسان الكلام والفلسفة إلا ولا بد أن يتناقض فيحيل ما أوجب نظيره، ويوجب ما أحال نظيره، إذ كلامهم من عند غير الله، وقد قال اللهتعالى:
{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء: 82].
والصواب ما عليه أئمة الهدى، وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث، ويتبع في ذلك سبل السلف الماضين، أهل العلم والإيمان. والمعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات فتكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه. ولا يعرض عنها، فيكون من باب الذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً. ولا يترك تدبر القرآن، فيكون من باب الذين لا يعلمون الكتاب إلى أماني. فهذا أحد الوجهين. وهو منع أن تكون من المتشابه.
الوجه الثاني: أنه إذا قيل هذه من المتشابه، أو كان فيها ما هو من المتشابه، كما نقل عن بعض الأئمة أنه سمى بعض ما استدل به الجهمية متشابهاً،، فيقال: الذي في القرآن أنه لا يعلم تأويله إلا الله، إما المتشابه، وإما الكتاب كله كما تقدم. ونفي علم تأويله ليس نفي علم معناه كما قدمناه في القيامة وأمور القيامة. وهذا الوجه قوي إن ثبت حديث ابن إسحاق في وفد نجران، أنهم احتجوا على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " إنا ونحن " ونحو ذلك، ويؤيده أيضاً أنه قد ثبت أن في القرآن متشابهاً، وهو ما يحتمل معنيين، وفي سائر الصفات ما هو من هذا الباب، كما أن ذلك في مسائل المعاد وأولى، فإن نفي المتشابه بين الله وبين خلقه أعظم من نفي المتشابه بين موعود الجنة وموجود الدنيا، وإنما نكتة الجواب هو ما قدمناه أولاً أن نفي علم التأويل ليس نفياً لعلم المعنى، ونزيده تقريراً أن الله سبحانه يقول:
{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } [الزمر: 27 - 28]، وقالتعالى: { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [يوسف: 1 - 2]، فأخبر أنه أنزله ليعقلوه، وأنه طلب تذكرهم. وقال أيضاً: { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [الحشر: 21]، فحض على تدبره وفقهه وعقله والتذكر به والتفكير فيه، ولم يستثن من ذلك شيئاً. بل نصوص متعددة تصرح بالعموم فيه، مثل قوله: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد: 24]، وقوله: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء: 82]، ومعلوم أن نفي الاختلاف عنه لا يكون إلا بتدبره كله، وإلا فتدبر بعضه لا يوجب الحكم بنفي مخالفة ما لم يتدبر لما تدبر. وقال علي عليه السلام لما قيل له: هل ترك عندكم رسول لله صلى الله عليه وسلم شيئاً؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه وما في هذه الصحيفة. فأخبر أن الفهم فيه مختلف في الأمة، والفهم أخص من العلم والحكم، قال اللهتعالى: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } [الأنبياء: 79]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " رب مبلغ أوعى من سامع " ، وقال: " بلغوا عني ولو آية " . وأيضاً فالسلف من الصحابة والتابعين وسائر الأمة قد تكلموا في جميع نصوص القرآن، آيات الصفات وغيرها، وفسروها بما يوافق دلالتها، ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة توافق القرآن. وأئمة الصحابة في هذا أعظم من غيرهم. مثل عبد الله بن مسعود الذي كان يقول: لو أعلمُ أعلمَ بكتاب الله مني تبلغه آباط الإبل لأتيته. وعبد الله بن عباس الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، كانا هما وأصحابهما من أعظم الصحابة والتابعين إثباتاً للصفات ورواية لها عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن له خبرة بالحديث والتفسير يعرف هذا، وما في التابعين أجل من أصحاب هذين السيدين، بل وثالثهما في علية التابعين من جنسهم أو قريب منهم جلالة، أصحاب زيد بن ثابت، لكن أصحابه مع جلالتهم ليسوا مختصين به، بل أخذوا عن غيره مثل عمر، وابن عمر، وابن عباس. ولو كان معاني هذه الآيات منفياً أو مسكوتاً عنه، لم يكن ربانيّو الصحابة أهل العلم بالكتاب والسنة أكثر كلاماً فيه، ثم إن الصحابة نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة، ولم يذكر أحدٌ منهم عنه قط أنه امتنع من تفسير آية.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا: عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيه من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل. وكذلك الأئمة كانوا إذا سئلوا شيئاً من ذلك لم ينفوا معناه، بل يثبتون المعنى وينفون الكيفية. كقول مالك بن أنس لما سئل عن قولهتعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب, والسؤال عنه بدعة. وكذلك ربيعة قبله. وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول.
فليس في أهل السنة من ينكره. وقد بين أن الاستواء معلوم، كما أن سائر ما أخبر به معلوم، ولكن الكيفية لا تعلم، ولا يجوز السؤال عنها، لا يقال: كيف استوى؟ ولم يقل مالك: الكيف معدوم، وإنما قال: الكيف مجهول. وهذا فيه نزاع بين أصحابنا وغيرهم من أهل السنة، غير أن أكثرهم يقولون: لا تخطر كيفيته ببال، ولا تجري ماهيته في مقال. ومنهم من يقول: ليس له كيفية ولا ماهية. فإن قيل: معنى قوله الاستواء معلوم أن ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر الله بعلمه، قيل: هذا ضعيف، فإن هذا من باب تحصيل الحاصل، فإن السائل قد علم أن هذا موجود في القرآن، وقد تلا الآية، وأيضاً فلم يقل ذكر الاستواء في القرآن، ولا إخبار الله بالاستواء، وإنما قال: الاستواء معلوم، فأخبر عن الاسم المفرد أنه معلوم، لم يخبر عن الجملة، وأيضاً فإنه قال: والكيف مجهول، ولو أراد ذلك لقال: معنى الاستواء مجهول، أو تفسير الاستواء مجهول، أو بيان الاستواء غير معلوم، فلم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء، لا العلم بنفس الاستواء، وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه. لو قال في قوله: { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [ طه: 46 ]، كيف يسمع وكيف يرى؟ لقلنا: السمع والرؤية معلوم والكيف مجهول. ولو قال: كيف كلم موسى تكليماً؟ لقلنا: التكليم معلوم والكيف غير معلوم. وأيضاً فإن من قال هذا من أصحابنا وغيرهم من أهل السنة يقرون بأن الله فوق العرش حقيقة، وأن ذاته فوق ذات العرش، لا ينكرون معنى الاستواء، ولا يرون هذا من المتشابه الذي لا يعلم معناه بالكلية. ثم السلف متفقون على تفسيره بما هو مذهب أهل السنة. قال بعضهم: ارتفع على العرش: علا على العرش. وقال بعضهم عبارات أخرى. وهذه ثابتة عن السلف. وقد ذكر البخاري في صحيحه بعضها في آخره، في كتاب الرد على الجهمية.
وأما التأويلات المحرفة مثل استولى وغير ذلك، فهي من التأويلات المبتدعة لما ظهرت الجهمية. وأيضاً قد ثبت أن اتباع المتشابه ليس في خصوص الصفات، بل في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة:
" يا عائشة ! إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه؛ فأولئك الذي سمى الله، فاحذريهم " ، وهذا عام. وقصة صبيغ بن عسل مع عُمَر بن الخطاب من أشهر القضايا، فإنه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن حتى رآه عمر، فسأل عمر عن: { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً } [الذاريات: 1]، فقال: ما اسمك؟ قال: عبد الله صبيغ، فقال: وأنا عبد الله عمر، وضربه الضرب الشديد. وكان ابن عباس إذا ألح عليه رجل في مسألة من هذا الجنس يقول: ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ. وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: " إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه... " . وكما قالتعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } فعاقبوهم على هذا القصد الفاسد، كالذي يعارض بين آيات القرآن. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فإن ذلك يوقع الشك في قلوبهم ومع ابتغاء الفتنة ابتغاء تأويله الذي لا يعلمه إلا الله، فكان مقصودهم مذموماً، ومطلوبهم متعذراً، مثل أغلوطات المسائل التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها. ومما يبين الفرق بين المعنى والتأويل أن صبيغاً سأل عن الذاريات وليست من الصفات. وقد تكلم الصحابة في تفسيرها مثل علي بن أبي طالب مع ابن الكواء لما سأله عنها، كره سؤاله، لما رآه من قصده، لكن عليّ كان رعيته ملتوية عليه، لم يكن مطاعاً فيهم طاعة عمر حتى يؤدبه، والذاريات والحاملات والجاريات والمقسمات فيها اشتباه، لأن اللفظ يحتمل الرياح والسحاب والنجوم والملائكة ويحتمل غير ذلك، إذ ليس في اللفظ ذكر الموصوف. والتأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو أعيان الرياح ومقاديرها وصفاتها وأعيان السحاب وما تحمله من الأمطار ومتى ينزل المطر. وكذلك في الجاريات والمقسمات، فهذا لا يعمله إلا اللهتعالى. وكذلك في قوله: " أنا ونحن " ونحوهما من أسماء الله التي فيها معنى الجمع كما اتبعته النصارى، فإن معناه معلوم وهو الله سبحانه، لكن اسم الجمع يدل على تعدد المعاني بمنزلة الأسماء المتعددة، مثل العليم والقدير والسميع والبصير، فإن المسمى واحد، ومعاني الأسماء متعددة، فهكذا الاسم الذي لفظه الجمع. وأما التأويل الذي اختص الله به، فحقيقة ذاته وصفاته، كما قال مالك: والكيف مجهول فإذا قالوا: ما حقيقة علمه وقدرته وسمعه وبصره؟ قيل: هذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله. وما أحسن ما يعاد التأويل إلى القرآن كله. فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " . قيل: أما تأويل الأمر والنهي فذاك يعلمه، واللام هنا للتأويل المعهود، لم يقل تأويل كل القرآن. فالتأويل المنفي هو تأويل الأخبار التي لا يعلم حقيقة مخبرها إلا الله، والتأويل المعلوم هو الأمر الذي يعلم العباد تأويله. وهذا كقوله: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } [الأعراف: 53]، وقوله: { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [يونس: 39]، فإن المراد تأويل الخبر الذي فيه عن المستقبل، فإنه هو الذي ينتظر ويأتي، ولما يأتهم. وأما تأويل الأمر والنهي فذاك في الأمر، وتأويل الخبر عن الله وعمن مضى إن أدخل في التأويل لا ينتظر، والله سبحانه أعلم وبه التوفيق. انتهى كلام الشيخ تقي الدين. وإنما سقته بطوله لما أن هذا البحث من المعارك المهمة التي قل من حررها ونهج فيها منهج الحق كالشيخ قدس سره. ومع ما في خلال البحث من القواعد الجليلة في فن التفسير. فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
وقال الإمام الجليل أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني في كتاب " إيثار الحق على الخلق " في بحث سبب الاختلاف الشديد بين الفرق ما نصه:
وأما الأصل الثاني وهو السمع فهو اختلافهم في أمرين:
أحدهما: في معرفة المحكم والمتشابه أنفسهما والتمييز بينهما حتى يرد المتشابه إلى المحكم.
وثانيهما: اختلافهم هل يعلمون تأويل المتشابه، ثم اختلافهم في تأويله على تسليم أنهم قد عرفوا المتشابه.
ولنذكر سبب وقوع المتشابه على العقول من حيث الحكمة والدقة في كتب اللهتعالى أولاً، والمشهور أن سببه الابتلاء بالزيادة في مشقة التكليف لتعظيم الثواب، وهذا أنسب بالمتشابه من حيث اللفظ. وأما أنا فوقع لي أن سببه زيادة علم الله على علم الخلق، فإن العوائد التجربية, والأدلة السمعية, دلت على امتناع الإتفاق في تفلصيل الحكم, وتفاصيل التحسين والتقبيح، ولذلك وقع الاختلاف بين أهل العصمة من الملائكة والأنبياء، كما قالتعالى حاكياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله:
{ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ص: 69]، وحكى اللهتعالى اختلاف سليمان وداود، وموسى وهارون، وموسى والخضر. وصح في الحديث اختلاف موسى وآدم، واختلاف الملائكة في حكم قاتل المائة نفس، إلى أمثال لذلك قد أفردتها لبيان امتناع الاتفاق في نحو ذلك، وإن علة الاختلاف التفاصيل في العلم، فوجب من ذلك أن يكون في أحكام اللهتعالى وحكمه ما تستقبحه عقول البشر، لأن اللهتعالى لو ماثلنا في جميع الأحكام والحكم دل على مماثلته لنا في العلم المتعلق بذلك وفي مؤداه ولطائفه وأصوله وفروعه ولذلك تجد الأمثال والنظراء في العلوم أقل اختلافاً. خصوصاً من المقلدين. وإنما عظم الاختلاف بين الخضر وموسى لما خص به الخضر عليه [ في المطبوع: عليهما ] السلام. وهذه فائدة نفيسة جداً، وبها يكون ورود المتشابه أدل على اللهتعالى وعلى صدق أنبيائه، لأن الكذابين إنما يأتون بما يوافق الطباع، كما هو دين القرامطة والزنادقة. وقد أشار السمع إلى ذلك بقولهتعالى: { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } [المؤمنون: 71]. وقال في رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } [الحجرات: 7]. وكيف يستنكر اختلاف الْإِنْسَاْن الظلوم الجهول وعلام الغيوب الذي جمع معارف العارفين في علمه مثل ما أخذه العصفور في منقاره من البحر الأعظم؟ بل كيف لا يختص هذا الرب الأعظم بمعرفة ما لا نعرفه من الحكم اللطيفة التي يستلزم تفرده بمعرفته: أن يتفرد بمعرفة حسن ما تعلقت به وتأويله، وبهذا ينشرح صدر العارف للإيمان بالمتشابه، والإيمان بالغيب في تأويله. ولنذكر بعد هذا كل واحد من الأمرين المقدم ذكرهما على الإيجاز.
أما الأمر الأول: وهو اختلافهم في ماهيتهما. فمنهم من قال: المحكم ما لا يحتمل إلا معنى واحداً، والمتشابه ما احتمل أكثر من معنى. فهؤلاء رجعوا بالمحكم إلى النص الجلي، وما عداه متشابه، وعزاه الإمام يحيى إلى أكثر المتكلمين وطوائف من الحشوية. ومنهم من قال: المحكم ما كان إلى معرفته سبيل، والمتشابه ما لا سبيل إلى معرفته بحال، نحو قيام الساعة، والحكمة في العدد المخصوص في حملة العرش، وخزنة النار. ومنهم من قصر المتشابه على آيات مخصوصة. ثم اختلفوا فمنهم من قال: هي الحروف المقطعة في أوائل السور، ومنهم من قال آيات الشقاوة والسعادة، ومنهم من قال: المنسوخ. ومنهم من قال: القصص والأمثال. ومنهم من عكس فقال: المحكم آيات مخصوصة، وهي آيات الحلال والحرام وما عداها متشابه، إلى غير ذلك - حكى الجميع الإمام يحيى في " الحاوي " - واختار أن المحكم ما علم المراد بظاهره بدليل عقلي أو نقلي، والمتشابه به: ما لم يعلم المراد منه لا على قرب ولا على بعد، مثل قيام الساعة والأعداد للمبهمة. وقد ترك الإمام والشيخ ابن تيمية وجهاً آخر من المتشابه الذي يحتاج إلى التأويل مما لا يعلمه إلا الله على الصحيح، وذلك وجه الحكم المعينة فيما لا تعرف العقول وجه حسنه، مثل خلق أهل النار، وترجيح عذابهم على العفو، مع سبق العلم وسعة الرحمة وكمال القدرة على كل شيء. والدليل على أن الحكمة الخفية فيه تسمى تأويلاً له، ما ذكره اللهتعالى في قصة موسى والخضر، فإن قوله:
{ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } [الكهف: 78 ]، صريح في ذلك، وهذا مراد في الآية، لأن الله وصف الذين في قلوبهم زيغ بابتغائهم تأويله وذمهم بذلك، وهم لا يبتغون علم العاقبة، عاقبة الخبر عن الوعد والوعيد، وما يؤول إليه، على ما فسره الشيخ. فهم لا يبتغون الجنة والنار والقيامة وذات الرب سبحانه كما يبغيها طالب العيان، إنما يستقبحون شيئاً من الظواهر بعقولهم، فيتكلفون لها معاني كثيرة يختلفون فيها، وكل منهم يتفرد بمعنى من غير حجة صحيحة إلا مجرد الاحتمال، وربما خالف ذلك التأويل المعلوم من الشرع فتأولوه، وربما استلزم الوقوع في أعظم مما فروا منه، والذي وضح لي في هذا وضوحاً لا ريب فيه بحسن توفيق الله أمور:
أحدها: أن الكلام في ذات اللهتعالى على جهة التصوير والتفصيل، أو على جهة الإحاطة على حد علم الله، كلاهما باطل، بل من المتشابه الممنوع الذي لا يعلمه إلا اللهتعالى لقولهتعالى:
{ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [طه: 110]، ولقولهتعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11]، وإنما تتصور المخلوقات وما هو نحوها. ولما روي من النهي عن التفكير في ذات الله، والأمر في التفكير في آلاء الله، ولما اشتهر عن أمير المؤمنين عليه السلام أن ذلك مذهبه، حتى رواه عنه الخصوم. ومن أشهر ما حفظ عنه عليه السلام في ذلك قوله في امتناع معرفة الله عز وجل على العقول: امتنع منها بها، وإليها حاكمها. ومن التفكير في الله والتحكم فيه والدعوى الباطلة على العقول والتكلف لتعريفها ما لا تعرفه، حدثت هنا البدع المتعلقة بذات الله وصفاته وأسمائه. ومن البدع في هذا الموضع بدع المشبهة على اختلاف أنواعهم، وبدع المعطلة على اختلافهم أيضاً، فغلاتهم يعطلون الذات والصفات والأسماء، الجميع، ومهم الباطنية، ودونهم الجهمية. ومن الناس من يوافقهم في بعض ذلك دون بعض. فالفريقان المشبهة والمعطلة إنما أُتوا من تعاطي علم ما لا يعلمون. ولو أنهم سلكوا مسالك السلف في الإيمان بما ورد من غير تشبيه لسلموا. فقد أجمعوا على أن طريقة السلف أسلم، ولكنهم ادعوا أن طريقة الخلف أعلم، فطلبوا العلم من غير مظانه، بل طلبوا علم ما لا يعلم، فتعارضت أنظارهم العقلية، وعارض بعضهم بعضاً في الأدلة السمعية. فالمشبهة ينسبون خصومهم إلى رد آيات الصفات، ويدعون فيها ما ليس من التشبيه. والمعطلة ينسبون خصومهم وسائر أئمة الإسلام جميعاً إلى التشبيه، ويدعون في تفسيره ما لا تقوم عليه حجة. والكل حرموا طريق الجمع بين الآيات والآثار، والاقتداء بالسلف الأخيار، والاقتصار على جليات الأبصار، وصحاح الآثار. وقد روى الإمام أبو طالب عليه السلام في أماليه بإسناده من حديث زيد بن أسلم: أن رجلاً سأل أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد الكوفة فقال: يا أمير المؤمنين ! هل تصف لنا ربنا فنزداد له حباً؟ فغضب عليه السلام ونادى: " الصلاة جامعة " فحمد الله وأثنى عليه إلى قوله: فكيف يوصف الذي عجزت الملائكة مع قربهم من كرسي كرامته، وطول ولههم إليه، وتعظيم جلال عزته، وقربهم من غيب ملكوت قدرته، أن يعلموا من علمه إلا ما علمهم، وهم من ملكوت القدس كلهم. ومن معرفته على ما فطرهم عليه فقالوا: { سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [البقرة: 32]. فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته، وتقدمك فيه الرسل بينك وبين معرفته. فأتم به واستضئ بنور هدايته، فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها. فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا عن أئمة الهدى أثره، فكل علمه إلى الله سبحانه، فإنه منتهى حق الله عليك. وقد روى السيد في " الأمالي " أيضاً الحديث المشهور في كتاب الترمذي عن علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " ستكون فتنة ! قلت: فما المخرج منها؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم ,فهو الفاصل بين الحق والباطل، من ابتغى الهدى من غيره أضله الله إلى قوله: من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم " . ورواه في أماليه بسند آخر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
ورواه ابن الأثير في " الجامع " عن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو مع شهرته في شرط أهل الحديث، متلقى بالقبول عند علماء الأصول، ولكن المبتدعة يرون تصانيفهم أهدى منه، لبيانهم فيها، على زعمهم، المحكم من المتشابه. فمنهم من صرح بذلك وقال: إن كلامه أنفع من كلام اللهتعالى، وكتبه أهدى من كتب الله، وهم الحسينية أصحاب الحسين بن القاسم العناني، وقد حمله الإمام المطهر بن يحيى على الجنون، وقيل: لم يصح عنه. ومنهم من يلزمه ذلك وإن لم يصرح به. فهذا الأمر الأول من المتشابه، وهو التحكم بالنظر في ذات اللهتعالى، وما يؤدي إليه.
الأمر الثاني: من المتشابه الواضح تشابهه والمنع منه، هو النظر في سر القدر السابق في الشرور مع عظيم رحمة اللهتعالى وقدرته على ما يشاء. وقد ثبت في كتاب اللهتعالى تحير الملائكة الكرام عليهم السلام في ذلك وسؤالهم عنه بقولهم:
{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 30]. ثم ساق خبر آدم وتعليمه الأسماء وتفضيله في ذلك عليهم إلى قوله: { أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [البقرة: 33]، وفي ذلك إشارة واضحة إلى ما سيأتي بيانه، من أن مراد الله بالخلق هم أهل الخير، فالخلق كلهم كالشجرة، وأهل الخير ثمرة تلك الشجرة، وإليه الإشارة بقوله: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]، وفي حديث الخليل عليه السلام حين دعا على العصاة، قال الله: كفّ عن عبادي، إن مصير عبدي مني إحدى ثلاث: إما أن يتوب فأتوب عليه، أو يستغفرني فأغفر له، أو أخرج من صلبه من يعبدني - رواه الطبراني -.
وقال الإمام الغزالي في كتاب العلم في " الإحياء " في أقسام العلوم الباطنة: ولا يبعد أن يكون ذكر بعض الحقائق مضراً ببعض الخلق، كما يضر نور الشمس أبصار الخفافيش، وكما يضر ريح الورد بالجعل. وكيف يبعد هذا، وقولنا: إن كل شيء بقضاء من الله وقدر - حق في نفسه، وقد أضر سماعه بقوم حيث أوهم ذلك عندهم دلالة على السفه، ونقيض الحكمة، والرضا بالقبيح والظلم. وألحد ابن الراوندي وطائفة من المخذولين بمثل ذلك. وكذلك سر القدر لو أفشي أوهم عند أكثر الخلق عجزاً، إذ تقصر أفهامهم عن إدراك ما يزيل هذا الوهم عنهم.
وقال في شرح أسماء الله الحسنى في شرح الرحمن الرحيم: والآن إن خطر لك نوع من الشر لا ترى فيه خيراً، أو إن تحصيل ذلك الخير من غير شر أولى، فاتهم عقلك القاصر في كلا الطرفين، فإنك مثل أم الصبي التي ترى الحجامة شراً محضاً. والغبي الذي يرى القصاص شراً محضاً، لأنه ينظر إلى خصوص شخص المقتول، وأنه في حقه شر محض، ويذهل عن الخير العام الحاصل للناس كافة، ولا يدري أن التوصل بالشر الخاص إلى الخير العام خير محض، ولا ينبغي لحكيم أن يهمله. هذا أو قريب من هذا.
وفي بعض كلامه نظر قد أوضحته في " العواصم " والسر في ذلك: أن اللهتعالى لا يريد الشر لكونه شراً قطعاً، وإنما يريده وسيلة إلى الخير الراجح كما قال:
{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 179] وكما صح في الحدود والمصائب أنها كفارات، فهذا هو سر القدرة في الجملة. وإنما الذي خفي تفصيله ومعرفته في عذاب الآخرة وشقاوة الأشقياء، فمن الناس من كبر ذلك عليه وأداه إلى الحكم بنفي التحسين والتقبيح، فصرحوا بنفي حكمة اللهتعالى، وهم غلاة الأشعرية، إلا بمعنى إحكام المصنوعات في تصويرها لا سواه، ومن الناس من أداه ذلك إلى القول بالجبر، ونفي قدرة العباد واختيارهم، ومنهم من جمع بينهما. ومن الناس من جعل الوجه في تحسين ذلك من الله عدم قدرته سبحانه على هدايتهم، وهم جمهور المعتزلة، لكنهم يعتذرون عن تسميته عجزاً، ويسمونه غير مقدور. ومنهم من جعل العذر في ذلك أن الله لا يعلم الغيب، وهم غلاة القدرية، نفاة الأقدار. وقد تقصيتُ الردود الواضحة عليهم، والبراهين الفاضحة لهم في " العواصم "، وجمعت في ذلك ما لم أسبق إليه ولا إلى قريب منه، في علمي. فتمت هذه المسألة في مجلد ضخم، وبلغت أحاديث وجوب الإيمان بالقدر اثنين وسبعين، وأحاديث صحته مائة وخمسة وخمسين، الجملة مائتان وسبعة وعشرون حديثاً، من غير الآيات القرآنية، والأدلة البرهانية. وصنف ابن تيمية في بيان الحكمة في العذاب الأخرويّ، وتبعه تلميذه ابن قيّم الجوزية، وبسط ذلك في كتابه " حادي الأرواح إلى ديار الأفراح "، فأفردت ذلك في جزء لطيف وزدت عليه. ومضمون كلامهم: أنه لا يجوز اعتقاد أن الله لا يريد الشر لكونه شراً، بل لا بد من خير راجح يكون ذلك الشر وسيلة إليه، وذلك الخير هو تأويل ذلك الشر السابق له على نحو تأول الخضر لموسى. وطردوا ذلك في شرور الدارين معاً. ونصر ذلك الغزالي في شرح " الرحمن الرحيم ". ولنورد في ذلك حديثاً واحداً، مما يدل على المنع من الخوض في تعيين الحكمة في ذلك فنقول: قال البيهقي في كتابه " الأسماء والصفات " عن عَمْرو بن ميمون، عن ابن عباس: لما بعث الله موسى وكلمه قال: اللهم ! أنت رب عظيم، ولو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت أن لا تعصى لما عصيت، وأنت تحب أن تطاع، وأنت في ذلك تُعصى، فكيف هذا يا رب؟ فأوحى الله إليه أني لا أسأل عما افعل، وهم يسألون. فانتهى موسى.
ورواه الهيثمي في " مجمع الزوائد "، وعزاه إلى الطبراني، وزاد فيه: فلما بعث الله عزيراً سأل الله مثل ما سأل موسى، ثلاث مرات، فقال اللهتعالى له: أتستطيع أن تصرّ صرة من الشمس؟ قال: لا. قال: أفتستطيع أن تجيء بمكيال من الريح؟ قال: لا. قال: أفتستطيع أن تجيء بمثقال أو بقيراط من نور؟ قال: لا. قال: فهكذا لا تقدر على الذي سألت عنه، أما أني لا أجعل عقوبتك إلا أني أمحو اسمك من الأنبياء، فلا تذكر فيهم. فلما بعث الله عيسى ورأى منزلته سأل عن ذلك، كموسى، وأجيب عليه بمثل ذلك، وقال اللهتعالى: لئن لم تنته لأفعلن بك كما فعلت بصاحبك بين يديك، فجمع عيسى من معه فقال: القدر سر اللهتعالى فلا تكلفوه.
وروى الطبراني عن وهب عن ابن عباس أنه سئل عن القدر؟ فقال: وجدت أطول الناس فيه حديثاً أجهلهم به. وأضعفهم فيه حديثاً أعلمهم به، ووجدت الناظر فيه كالناظر في شعاع الشمس، كلما ازداد فيه نظراً ازداد تحيراً. قلت: ويشهد لهذه الآيات ما جاء في كتاب الله من قول الملائكة:
{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } [البقرة: 30]. والجواب الجملي عليهم كما مر.
وأما أحاديث النهي عن الخوض في القدر فعشرة أحاديث، رجال بعضهم ثقات، وبعضها شواهد لبعض، كما أوضحته في " العواصم " وأقل من هذا مع شهادة القرآن والبرهان لذلك، يكفي المنصف. وما حدث بسبب الخوض من الضلالات زيادة عبرة وحيرة.
الأمر الثالث: من المتشابه: الحروف المقطعة أوائل السور، فإن الجهل بالمراد بها معلوم، كالألم والصحة، والفرق بينها وبين أقيموا الصلاة، ونحو ذلك ضروري، ودعوى التمكن من معرفة معانيها تستلزم جواز أن ينزل الله سورة كلها كذلك أو كتاباً من كتبه الكريمة، ويستلزم جواز أن يتخاطب العقلاء بمثل ذلك، ويلوموا من طلب منهم بيان مقاصدهم، ونحو ذلك، وهذا هو اختيار زيد بن علي عليه السلام، والقاسم والهادي عليهما السلام، وهو نص في تفسيرهما المجموع. وكذلك الإمام يحيى عليه السلام، ذكره في " الحاوي ". وقولهم: إنا مخاطبون بها فيجب أن نفهمها؛ مقلوب.
وصوابه: أن لا نفهمها، فيجب أن لا نكون مخاطبين بفهمها. وقد ذكرت في الحجة على أنها غير معلومة أكثر من عشرين حجة في تكميلة ترجيح أساليب القرآن.
الأمر الرابع من المتشابه: المجمل الذي لا يظهر معناه بعلم ولا ظن، سواء كان بسبب الاشتراك في معناه، أو لغرابته، أو عدم صحة تفسيره في اللغة والشرع، أو غير ذلك. فقد وقع الوهم في المجمل لنوح عليه السلام، كيف لغيره؟ وذلك قوله:
{ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [هود: 45 - 46].
وأما المحكوم فهو ما عدا المتشابه، وغالبه النص الجلي، والظاهر الذي لم يعارض والمفهوم والصحيح الذي لم يعارض، والخاص والمقيد وإن عارضهما العام والمطلق. ويلحق بهذا.
فوائد
الأولى: الصحيح في قولهتعالى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } الوقف على الله، بدليل ذم مبتغي تأويل المتشابه في الآية. وهو اختيار الإمام يحيى في " الحاوي " واحتج بأن " أمّا " للتفصيل على بابها، والتقدير: و " أما الراسخون " بدليل قولهتعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } كما تقول: أما زيد فعالم وعمرو جاهل، أي: وأما عَمْرو جاهل، يوضحه أن المخالف مسلم أن هذا هو الظاهر منها، لكنه يقول: إنه يجب تأويلها على أن المراد ذمهم بابتغاء تأويله الباطل، فيقيد إطلاق الآية بغير حجة، ويجعلها من المتشابه، مع أنها الفارقة بين المحكم والمتشابه، وهذا خلف.
وقد روى الحاكم عن ابن عباس أنه قرأ: " ويقول الراسخون " وقال: صحيح. ورواه الزمخشري في كشافه قراءة عن أبيّ وغيره، ورواه الإمام أبو طالب في أماليه عن علي عليه السلام، ولم يتأوله ولم يطعن فيه. وهو في " النهج " أيضاً، وهو نص لا يمكن تأويله. فإن لفظه عليه السلام: اعلم أيها السائل أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم التعمق، فيما لم يكلفهم البحث عنه؛ رسوخاً. فاقتصر على ذلك. انتهى بحروفه.
وأيضاً فلا يجب علم جميع المكلفين بذلك عند الخصوم، إذ في المتكلفين الأمي والعجمي ونحوهم. وإذا كان علم البعض يكفي ويخرج الخطاب بذلك عن العبث؛ جاز أن يكون ذلك البعض هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن شاء الله من ملائكته وخواص عباده. والله سبحانه أعلم.
الفائدة الثانية: إذا تعارض العام والخاص، فالمحكم هو الخاص والبناء عليه واجب، وفيه الجمع بينهما، وفي العكس طرح الخاص مع رجحانه بالنصوصية، وهي قاعدة كبيرة فاحفظها. ولا خلاف فيها في الاعتقاد، لعدم القاعدة في التاريخ فيه، ولذلك أجمعوا على إثبات الخلة للمتقين، وتأويل نفي الخلة المطلق، فتأمل ذلك.
الفائدة الثالثة: إذا كان التحسين العقلي مع بعض السمع فهو المحكم، والمتشابه مخالفه، لما وضح من تأويل الخضر بموافقة العقل، وفي مخالفة هذه القاعدة عناد بيّن وضلال كبير، فاعرفها واعتبر مواضعها ترشد - إن شاء اللهتعالى.

مدارك التنزيل للنسفي

( هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب ) القرآن ( مِنْهُ ) من الكتاب ( آيات محكمات ) أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه ( هُنَّ أُمُّ الكتاب ) أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وترد إليها ( وَأُخَّرُ ) وآيات أخر ( متشابهات ) مشتبهات محتملات . مثال ذلك ( الرحمن عَلَى العرش استوى ) [ طه : 5 ] فالاستواء يكون بمعنى الجلوس وبمعنى القدرة والاستيلاء ، ولا يجوز الأول على الله تعالى بدليل المحكم وهو قوله ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء ) [ الشورى : 11 ] أو المحكم ما أمر الله به في كل كتاب أنزله نحو قوله : ( قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) [ الأنعام : 151 ] الآيات ، ( وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه ) [ الأسراء : 23 ] . الآيات .

 والمتشابه ما وراءه أو ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً ، وما احتمل أوجهاً ، أو ما يعلم تأويله وما لا يعلم تأويله ، أو الناسخ الذي يعمل به والمنسوخ الذي لا يعمل به . وإنما لم يكن كل القرآن محكماً لما في المتشابه من الابتلاء به والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه ، ولما في تقادح العلماء وإتعابهم والقرائح في استخراج معانيه ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله تعالى . ( فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ) ميل عن الحق وهم أهل البدع ( فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه ) فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق ( مِنْهُ ابتغآء الفتنة ) طلب أن يفتتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم ( وابتغآء تَأْوِيلِهِ ) وطلب أن يؤولوه التأويل الذي يشتهونه ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله ) أي لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله ( والراسخون فِي العلم ) والذين رسخوا أي ثبتوا فيه وتمكنوا وعضوا فيه بضرس قاطع مستأنف عند الجمهور ، والوقف عندهم على قوله «إلا الله» وفسروا المتشابه بما استأثر الله بعلمه ، وهو مبتدأ عندهم والخبر يقولون «آمنّا به» وهو ثناء منه تعالى عليهم بالإيمان على التسليم واعتقاد الحقية بلا تكييف ، وفائدة إنزال المتشابه الإيمان به ، واعتقاد حقية ما أراد الله به ، ومعرفة قصور أفهام البشر عن الوقوف على ما لم يجعل لهم إليه سبيلاً ، ويعضده قراءة أبي «ويقول الراسخون» وعبد الله «إن تأويله إلا عند الله» . ومنهم من لا يقف عليه ويقول بأن الراسخين في العلم يعلمون المتشابه و«يقولون» كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به أي بالمتشابه أو بالكتاب ( كُلٌّ ) من متشابهه ومحكمه ( مِّنْ عِندِ رَبّنَا ) من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه ( وَمَا يَذَّكَّرُ ) وما يتعظ وأصله يتذكر ( إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب ) أصحاب العقول ، وهو مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل . وقيل : «يقولون» حال من الراسخين .

مراح لبيد للجاوي


 {هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ مِنْهُ آيَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ} فظهر بذلك المذكور أن قوله تعالى: {ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ} إشارة إلى أن عيسى ليس بالإلۤه ولا ابن الإلۤه. وأما قوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَىْء} فهو جواب عن الشبهة المتعلقة بالعلم. وقوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي ٱلاْرْحَامِ} جواب عن تمسكهم بقدرة عيسى على الإحياء ونحوه. لأنه لو قدر على الإحياء لقدر على الإماتة، ولو قدر على الإماتة لأمات اليهود الذين قتلوه  وعلى زعم النصارى  فثبت أن حصول الإحياء في بعض الصور لا يدل على كونه إلٰهاً، وهو جواب أيضاً عن تمسكهم بأن من لم يكن له أب من البشر وجب أن يكون ابناً لله، فكأنه تعالى يقول كيف يكون عيسى ولد الله وقد صوَّره في الرحم والمصوِّر لا يكون أباً للمصوَّر. وأما قوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ} إلى آخر الآيات فهو جواب عن تمسكهم بما ورد في القرآن: أن عيسى روح الله وكلمته، ثم إنه تعالى لما أجاب عن شبهتهم أعاد كلمة التوحيد زجراً لسائر النصارى عن قولهم بالتثليث فقال: {لاَ إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ} فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة، والحكيم إشارة إلى كمال العلم وهذا تثبيت لما تقدم من أن علم عيسى ببعض الغيوب وقدرته على الإحياء في بعض الصور لا يكفي في كونه إلٰهاً. فإن الإله لا بدّ وأن يكون كامل القدرة وهو العزيز وكامل العلم وهو الحكيم.{هُوَ ٱلَّذِىۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ} أي القرآن {مِنْهُ آيَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ} أي محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال، قطعية الدلالة على المعنى المراد. {هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَٰبِ} أي أصل في الكتاب وعمدة ترد إليها آيات متشابهات. ومثال المتشابه قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ} (الإسراء: 61). فظاهر هذا الكلام أنهم يؤمرون بأن يفسقوا والمحكم قوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَاء} (الأعراف: 82) رداً على الكفار فيما حكى عنهم وإذا فعلوا فاحشة قالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها والآية المتشابهة قوله تعالى: {نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (التوبة: 76). والآية المحكمة قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}. (مريم: 46) {وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ} أي وآيات أخر محتملات لمعان متشابهة لا يتضح مقصودها لإجمال أو مخالفة ظاهرة إلا بنظر دقيق وتأمل أنيق {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي ميل عن الحق إلى الأهواء الباطلة {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ} أي فيتعلقون بظاهر المتشابه من الكتاب {ٱبْتِغَآءَ ٱلْفِتْنَةِ} أي طلب الفتنة في الدين  وهي الضلال عنه  فإنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين صار بعضهم مخالفاً لبعض، وذلك يفضي إلى الهرج والتقاتل {وَٱبْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ} أي وطلب تأويل المتشابه على ما ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان، والمنصف يحمل الأمر في الآيات على أقسام ثلاثة:
     أحدها: ما يتأكد ظاهرها بالدلائل العقلية فذلك هو المحكم حقاً.
     وثانيها: الذي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله تعالى غير ظاهره.
     وثالثها: الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه فيكون من حقه التوقف فيه، ويكون ذلك متشابهاً، بمعنى أن الأمر اشتبه فيه ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر، إلا أن الظن الراجح حاصل في إجرائها على ظواهرها {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ} أي وما يعلم تأويل المتشابه حقيقة إلا الله وحده.
     ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير لا يمكن لأحد جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير يعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى. {وَٱلرَٰسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ} أي بالكتاب {كُلٌّ} أي كل واحد من المحكم والمتشابه {مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} والراسخ في العلم: هو الذي عرف ذات الله وصفاته بالدلائل اليقينية القطعية، وعرف أن القرآن كلام الله تعالى بالدلائل اليقينية، وعرف أنه تعالى لا يتكلم بالباطل والعبث، فإذا رأى شيئاً متشابهاً ودل الدليل القطعي على أن الظاهر ليس مراد الله تعالى علم حينئذ قطعاً أن مراد الله شيء آخر سوى ما دلّ عليه ظاهره، ثم فوض تعيين ذلك المراد إلى علمه تعالى وقطع بأن ذلك المعنى على أي شيء كان فهو الحق والصواب، لأنه علم أن ذلك المتشابه لا بدّ وأن يكون له معنى صحيح عند الله تعالى {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ} أي وما يتعظ بما في القرآن إلا ذوو العقول الكاملة الخالصة عن الركون إلى الأهواء الزائفة  وهذا مدح للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر  وهذه الآية دالة على علو شأن المتكلمين الذين يبحثون عن الدلائل العقلية، ويتوسلون بها إلى معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله، ولا يفسرون القرآن إلا بما يطابق دلائل العقول ويوافق اللغة والإعراب، ومن تكلم في القرآن من غير أن يكون متبحراً في علم الأصول وفي علم اللغة والنحو كان في غاية البعد عن الله تعالى. ولما آمن الراسخون في العلم بكل ما أنزل الله تعالى من المحكمات والمتشابهات تضرعوا إلى الله تعالى .

معالم التنزيل للبغوي

 

قوله تعالى:" هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات" مبينات مفصلات، سميت محكمات من الاحكام ، كأنه أحكمها فمنع الخلق من التصرف فيها لظهورها ووضوح معناها"هن أم الكتاب" أي أصله الذي يعمل عليه في الاحكام ، وإنما قال:"هن أم الكتاب" ولم يقل امهات الكتاب ان الايات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة ، وكلام الله واحد وقيل: معناه كل آية منهن ام الكتاب كما قال: " وجعلنا ابن مريم وأمه آية" (50-المؤمنون) أي كل واحد منهما آية "وأخر" جمع أخرى ولم يصرفه لأنه معدول عن الآخر ، مثل: عمرو و زفر "متشابهات" فإن قيل كيف فرق هاهنا بين المحكم والمتشابه وقد جعل كل القرآن محكماً في موضع أخر ؟ .

فقال:" الر كتاب أحكمت آياته "(1-هود) وجعله كله متشابهاً في موضع آخر فقال : " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها " (23-الزمر). قيل: حيث جعل الكل محكماً ، أراد أن الكل حق ليس فيه عبث ولا هزل، وحيث جعل الكل متشابهاً اراد بعضه يشبه بعضاً في الحق والصدق وفي الحسن، وجعل هاهنا بعضه محكماً وبعضه متشابهاً. واختلف العلماء فيها، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: المحكمات هن الآيات الثلاث في صورة الأنعام " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " (151) ونظيرها في بني اسرائيل،" وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " (23-الإسراء) الآيات ، وعنه أنه قال: المتشابهات حروف التهجي في أوائل السور.

 وقال مجاهدو عكرمه : المحكم ما فيه الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه يشبه بعضه بعضاً في الحق ويصدق بعضه بعضاً، كقوله تعالى:" وما يضل به إلا الفاسقين" (26-البقرة) " ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون " (100-يونس). وقال قتاده والضحاك والسدى : المحكم الناسخ الذي يعمل به ، والمتشابه المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به . وروى علي بن أبي طلحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: محكمات القرآن ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به ، والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولايعمل به ، وقيل : المحكمات ما أوقف الله الخلق على معناه والمتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه لاسبيل لاحد الى علمه ، نحو الخبر عن أشراط الساعة من خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام، وطلوع الشمس من مغربها ، وقيام الساعة، وفناء الدنيا.

 وقال محمد بن جعفر بن الزبير : تلمحكم مالا يحتمل من التاويل غير وجه واحد ، والمتشابه ما احتمل وقيل: المحكم مايعرف معناه وتكون حججها واضحة ودلائلالها لائحة لا تشتبه ، والمتشابه هو الذي يدرك علمه بالنظر ، ولايعرف العوام تفصيل الحق فيه من الباطل . وقال بعضهم: المحكم مايستقل بنفسه في المعنى ، والمتشابه مالا يستقل بنفسه إلا برده الى غيره.

 قال ابن عباسرضي الله عنهما في رواية (باذان): المتشابه حروف التهجي في أوائل السور ، وذلك أن رهطاً من اليهود منهم حيي بن اخطب و كعب بن الاشرف ونظراؤهما ، أتو النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له حيي: بلغنا أنه أنزل عليك (الم) فننشدك الله انزلت عليك ؟ قال: نعم قال: فإن كان ذلك حقاً فإني أعلم مدة ملك أمتك ، هي إحدى وسبعون سنة فهل أنزل غيرها؟ قال: نعم(المص) قال: فهذه اكثر هي إحدى وستون ومائة سنة، قال : فهل غيرها؟.

قال : نعم(الر.قال: هذه أكثر هي مائتا وإحدى وسبعون سنة ولقد خلطت علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ ام بقليله ونحن ممن لا يؤمن بهذا فأنزل الله تعالى:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابها". "فأما الذين في قلوبهم زيغ" أي ميل عن الحق وقيل شك" فيتبعون ما تشابه منه " واختلفوا في المعني بهذه الآية .قال الربيع: هم وفد نجران خاصموا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام ، وقالوا له : ألست تزعم انه كلمة الله وروح منه؟ قال:بلى قالوا: حسبنا ، فأنزل الله هذه الآية. وقال الكلبي: هم اليهود طلبوا علم أجل هذه الأمة واستخراجها بحساب الجمل .

 وقال ابن جريح: هم المنافقون، وقال الحسن : هم الخوارج، وكان قتادة اذا قرأ هذه الآية:"فأما الذين في قلوبهم زيغ" قال: إن لم يكونوا الحرورية والسبأية فلا أدري من هم ، وقيل: هم جميع المبتدعة. أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد ابن اسماعيل، أنا عبد الله بن مسلمة، أنا يزيد بن ابراهيم التستري ، عن ابن أبي مليكة ، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنهما قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات"- إلى قوله اولو الألباب قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رأيت الذي يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم. قوله تعالى:"ابتغاء الفتنة" طلب الشرك قاله الربيع والسدي ،

 وقال مجاهد : ابتغاء الشبهات واللبس ليضلوا بها جهالهم"وابتغاء تأويله" تفسيره وعلماه، ودليله قوله تعالى:" سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا " (78-الكهف) وقيل: ابتغاؤه عاقبته، وهو طلب أجل هذه الأمة من حساب الجمل ، دليله قوله تعالى"ذلك خير وأحسن تأويلا"(350-الإسراء) أي عاقبة. قوله تعالى :"وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم" اختلف العلماء في نظم هذه الآية فقال قوم:الواو في قوله والرساخون واو العطف يعني: أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم"يقولون آمنا به" وهذا قول مجاهد والربيع ،

 وعلى هذا يكون قوله " يقولون" حالا معناه: والراسخون في العلم قائلين آمنا به ، هذا كقوله تعالى:/"ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى"(7-الحشر)ثم قال: "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم" (8-الحشر) إلى أن قال: " والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم "(9- الحشر) ثم قال " والذين جاؤوا من بعدهم"(10-الحشر) وهذا عطف على ماسبق، ثم قال:"يقولون ربنا اغفر لنا"(10-الحشر) يعني هم مع استحقاقهم الفئ يقولون ربنا اغفر لنا، أي قائلين على الحال. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما انه كان يقول في هذه الآية: أنا من الراسخين في العم ، وروي عن مجاهد :أنا ممن يعلم تاويله .

 وذهب الأكثرون الى ان الواو في قوله "والراسخون" واو الاستئناف ، وتم الكلام عند قوله:"وما يعلم تأويله إلا الله" وهو قول ابي بن كعب و عائشة وعروة بن الزبير رضي الله عنهم و راوية طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وبه قال الحسن وأكثر التابعين واختاره الكسائيوالفراءوالأخفش ، وقالوا: لا يعلم تأويل المتشابه الا الله ويجوز أن يكون للقرآن تأويل استأثر الله بعلمه لم يطلع عليه أحداً من خلقه ، كما استاثر بعلم الساعة ، ووقت طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدجال ، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ، ونحوها، والخلق متعبدون في المتشابه بالايمان به، وفي المحكم بالإيمان به والعمل، ومما يصدق ذلك قراءة عبد الله ان تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ، وفي حرف أبي : ويقول الراسخون في العم آمنابه.

 وقال عمر بن عبد العزيز : في هذه الآية انتهى علم الراسخين في العلم بتاويل القرآن إلى أن قالوا آمنا به كل من عند ربنا. وهذا قو قيس في العربية وأشبه بظاهر الآية. قوله تعالى:" والراسخون في العلم" أي الداخلون في العم، هم الذين أتقنوا علمهم بحيث لا يدخل في معرفتهم شكن وأصله من رسوخ الشئ في الشئ وهو ثبوته يقال: رسخ الايمان في قلب فلان يرسخ رسخاً ورسوخاً، وقيل: الراسخون في العلم علماء مؤمني أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام واصحابه ، دليله قوله تعالى:"لكن الراسخون في العلم منهم"(162- النساء) يعني(المدارسين) علم التوراة وسئل مالك بن أنس رضي الله عنه عن الراسخين في العلم قال: العالم العامل بما علم المتبع له ،

 وقيل: الراسخ في العلم من وجد في علمه أربعة أشياء: التقوى بينه وبين الله ، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما و مجاهد والسدي : بقولهمآمنا به سماهم الله تعالى راسخين في العلم، فرسوخهم في العلم قولهم:آمنا به،أي بالمتشابه "كل من عند ربنا" المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وما علمنا وما لم نعلم"وما يذكر"وما يتعظ بما في القرآن " إلا أولو الألباب " ذوو العقول.

مفاتيح الغيب للرازي

الآية رقم 7
{هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغآء الفتنة وابتغآء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب}. اعلم أن في هذه الآية مسائل: المسألة الأولى: قد ذكرنا في اتصال قوله {إن الله لا يخفى عليه شىء في الأرض ولا في السماء} بما قبله احتمالين أحدهما: أن ذلك كالتقرير لكونه قيوما والثاني: أن ذلك الجواب عن شبه النصارى، فأما على الاحتمال الأول فنقول: إنه تعالى أراد أن يبين أنه قيوم وقائم بمصالح الخلق ومصالح الخلق قسمان: جسمانية وروحانية، أما الجسمانية فأشرفها تعديل البنية، وتسوية المزاج على أحسن الصور وأكمل الأشكال، وهو المراد بقوله {هو الذي يصوركم في الأرحام} (آل عمران: 6) وأما الروحانية فأشرفها العلم الذي تصير الروح معه كالمرآة المجلوة التي تجلت صور جميع الموجودات فيها وهو المراد بقوله {هو الذى أنزل عليك الكتاب} وأما على الاحتمال الثاني فقد ذكرنا أن من جملة شبه النصارى تمسكهم بما جاء في القرآن من قوله تعالى في صفة عيسى عليه السلام: إنه روح الله وكلمته، فبين الله تعالى بهذه الآية أن القرآن مشتمل على محكم وعلى متشابه، والتمسك بالمتشابهات غير جائز فهذا ما يتعلق بكيفية النظم، هو في غاية الحسن والاستقامة. المسألة الثانية: اعلم أن القرآن دل على أنه بكليته محكم، ودل على أنه بكليته متشابه، ودل على أن بعضه محكم، وبعضه متشابه. أما ما دل على أنه بكليته محكم، فهو قوله {الر تلك ءآيات الكتاب الحكيم} (يونس: 1) {الر كتاب أحكمت ءآياته} (هود: 1) فذكر في هاتين الآيتين أن جميعه محكم، والمراد من المحكم بهذا المعنى كونه كلاما حقا فصيح الألفاظ صحيح المعاني وكل قول وكلام يوجد كان القرآن أفضل منه في فصاحة اللفظ وقوة المعنى ولا يتمكن أحد من إتيان كلام يساوي القرآن في هذين الوصفين، والعرب تقول في البناء الوثيق والعقد الوثيق الذي لا يمكن حله: محكم، فهذا معنى وصف جميعه بأنه محكم. وأما ما دل على أنه بكليته متشابه، فهو قوله تعالى: {كتابا متشابها مثاني} (الزمر: 23) والمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن ويصدق بعضه بعضا، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء: 82) أي لكان بعضه واردا على نقيض الآخر، ولتفاوت نسق الكلام في الفصاحة والركاكة. وأما ما دل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه، فهو هذه الآية التي نحن في تفسيرها، ولا بد لنا من تفسير المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة، ثم من تفسيرهما في عرف الشريعة: أما المحكم فالعرب تقول: حاكمت وحكمت وأحكمت بمعنى رددت، ومنعت، والحاكم يمنع الظالم عن الظلم وحكمة اللجام التي هي تمنع الفرس عن الاضطراب، وفي حديث النخعي: احكم اليتيم كما تحكم ولدك أي امنعه عن الفساد، وقال جرير: أحكموا سفهاءكم، أي امنعوهم، وبناء محكم أي وثيق يمنع من تعرض له، وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي، وأما المتشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابها للآخر بحيث يعجز الذهن عن التمييز قال الله تعالى: {إن البقر تشابه علينا} (البقرة: 70) وقال في وصف ثمار الجنة {وأتوا به متشابها} (البقرة: 25) أي متفق المنظر مختلف الطعوم، وقال الله تعالى: {تشابهت قلوبهم} (البقرة: 118) ومنه يقال: اشتبه علي الأمران إذا لم يفرق بينهما، ويقال لأصحاب المخاريق: أصحاب الشبه، وقال عليه السلام: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات" وفي رواية أخرى مشتبهات. ثم لما كان من شأن المتشابهين عجز الإنسان عن التمييز بينهما سمي كل ما لا يهتدي الإنسان إليه بالمتشابه، إطلاقا لاسم السبب على المسبب، ونظيره المشكل سمي بذلك، لأنه أشكل، أي دخل في شكل غيره فأشبهه وشابهه، ثم يقال لكل ما غمض وإن لم يكن غموضه من هذه الجهة مشكل، ويحتمل أن يقال: إنه الذي لا يعرف أن الحق ثبوته أو عدمه، وكان الحكم بثبوته مساويا للحكم بعدمه في العقل والذهن، ومشابها له، وغير متميز أحدهما عن الآخر بمزيد رجحان، فلا جرم سمي غير المعلوم بأنه متشابه، فهذا تحقيق القول في المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة، فنقول: الناس قد أكثروا من الوجوه في تفسير المحكم والمتشابه، ونحن نذكر الوجه الملخص الذي عليه أكثر المحققين، ثم نذكر عقيبه أقوال الناس فيه فنقول: اللفظ الذي جعل موضوعا لمعنى، فإما أن يكون محتملا لغير ذلك المعنى، وإما أن لا يكون فإذا كان اللفظ موضوعا لمعنى ولا يكون محتملا لغيره فهذا هو النص، وأما إن كان محتملا لغيره فلا يخلو إما أن يكون احتماله لأحدهما راجحا على الآخر، وإما أن لا يكون كذلك بل يكون احتماله لهما على السواء، فإن كان احتماله لأحدهما راجحا على الآخر سمي ذلك اللفظ بالنسبة إلى الراجح ظاهرا، وبالنسبة إلى المرجوح مؤولا، وأما إن كان احتماله لهما على السوية كان اللفظ بالنسبة إليهما معا مشتركا، وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملا، فقد خرج من التقسيم الذي ذكرناه أن اللفظ إما أن يكون نصا، أو ظاهرا، أو مؤولا، أو مشتركا، أو مجملا، أما النص والظاهر فيشتركان في حصول الترجيح، إلا أن النص راجح مانع من الغير، والظاهر راجح غير مانع من الغير، فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمحكم. وأما المجمل والمؤول فهما مشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة، وإن لم يكن راجحا لكنه غير مرجوح، والمؤول مع أنه غير راجح فهو مرجوح لا بحسب الدليل المنفرد، فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمتشابه، لأن عدم الفهم حاصل في القسمين جميعا وقد بينا أن ذلك يسمى متشابها إما لأن الذي لا يعلم يكون النفي فيه مشابها للإثبات في الذهن، وإما لأجل أن الذي يحصل فيه التشابه يصير غير معلوم، فأطلق لفظ المتشابه على ما لا يعلم إطلاقا لاسم السبب على المسبب، فهذا هو الكلام المحصل في المحكم والمتشابه، ثم اعلم أن اللفظ إذا كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية، فههنا يتوقف الذهن، مثل: القرء، بالنسبة إلى الحيض والطهر، إنما المشكل بأن يكون اللفظ بأصل وضعه راجحا في أحد المعنيين، ومرجوحا في الآخر، ثم كان الراجح باطلا، والمرجوح حقا، ومثاله من القرآن قوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول} (الإسراء: 16) فظاهر هذا الكلام أنهم يؤمرون بأن يفسقوا، ومحكمه قوله تعالى: {إن الله لا يأمر بالفحشاء} (الأعراف: 28) ردا على الكفار فيما حكى عنهم {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها ءاباءنا والله أمرنا بها} (الأعراف: 28) وكذلك قوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} (التوبة: 67) وظاهر النسيان ما يكون ضدا للعلم، ومرجوحه الترك والآية المحكمة فيه قوله تعالى: {وما كان ربك نسيا} (مريم: 64) وقوله تعالى: {لا يضل ربى ولا ينسى} (طه: 52). واعلم أن هذا موضع عظيم فنقول: إن كل واحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، وأن الآيات الموافقة لقول خصمه متشابهة، فالمعتزلي يقول قوله {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} (الكهف: 29) محكم، وقوله {وما * تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} (التكوير: 29) متشابه والسيء يقلب الأمر في ذلك فلا بد ههنا من قانون يرجع إليه في هذا الباب فنقول: اللفظ إذا كان محتملا لمعنيين وكان بالنسبة إلى أحدهما راجحا، وبالنسبة إلى الآخر مرجوحا، فإن حملناه على الراجح ولم نحمله على المرجوح، فهذا هو المحكم وأما إن حملناه على المرجوح ولم نحمله على الراجح، فهذا هو المتشابه فنقول: صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل، وذلك الدليل المنفصل إما أن يكون لفظيا وإما أن يكون عقليا. أما القسم الأول: فنقول: هذا إنما يتم إذا حصل بين ذينك الدليلين اللفظيين تعارض وإذا وقع التعارض بينهما فليس ترك ظاهر أحدهما رعاية لظاهر الآخر أولى من العكس، اللهم إلا أن يقال: إن أحدهما قاطع في دلالته والآخر غير قاطع فحينئذ يحصل الرجحان، أو يقال: كل واحد منهما وإن كان راجحا إلا أن أحدهما يكون أرجح، وحينئذ يحصل الرجحان إلا أنا نقول: أما الأول فباطل، لأن الدلائل اللفظية لا تكون قاطعة ألبتة، لأن كل دليل لفظي فإنه موقوف على نقل اللغات، ونقل وجوه النحو والتصريف، وموقوف على عدم الاشتراك وعدم المجاز، وعدم التخصيص، وعدم الإضمار، وعدم المعارض النقلي والعقلي، وكان ذلك مظنون، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنونا، فثبت أن شيئا من الدلائل اللفظية لا يكون قاطعا. وأما الثاني وهو أن يقال: أحد الدليلين أقوى من الدليل الثاني وإن كان أصل الاحتمال قائما فيهما معا، فهذا صحيح، ولكن على هذا التقدير يصير صرف الدليل اللفظي عن ظاهره إلى المعنى المرجوح ظنيا، ومثل هذا لا يجوز التعويل عليه في المسائل الأصولية، بل يجوز التعويل عليه في المسائل الفقهية فثبت بما ذكرناه أن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح في المسائل القطعية لا يجوز إلا عند قيام الدليل القطعي العقلي على أن ما أشعر به ظاهر اللفظ محال، وقد علمنا في الجملة أن استعمال اللفظ في معناه المرجوح جائز عند تعذر حمله على ظاهره، فعند هذا يتعين التأويل، فظهر أنه لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بواسطة إقامة الدلالة العقلية القاطعة على أن معناه الراجح محال عقلا ثم إذا أقامت هذه الدلالة وعرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى من هذا اللفظ ما أشعر به ظاهره، فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز وترجيح تأويل على تأويل، وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلائل اللفظية والدلائل اللفظية على ما بينا ظنية لا سيما الدلائل المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر يكون في غاية الضعف، وكل هذا لا يفيد إلا الظن الضعيف والتعويل على مثل هذه الدلائل في المسائل القطعية محال فلهذا التحقيق المتين مذهبا أن بعد إقامة الدلائل القطعية على أن حمل اللفظ على الظاهر محال لا يجوز الخوض في تعيين التأويل، فهذا منتهى ما حصلناه في هذا الباب، والله ولي الهداية والرشاد. المسألة الثالثة: في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه فالأول: ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: المحكمات هي الثلاث آيات التي في سورة الأنعام {قل تعالوا} (الأنعام: 151) إلى آخر الآيات الثلاث، والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود، وهي أسماء حروف الهجاء المذكور في أوائل السور، وذلك أنهم أولوها على حساب الجمل فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه، وأقول: التكاليف الواردة من الله تعالى تنقسم إلى قسمين منها ما لا يجوز أن يتغير بشرع وشرع، وذلك كالأمر بطاعة الله تعالى، والاحتراز عن الظلم والكذب والجهل وقتل النفس بغير حق، ومنها ما يختلف بشرع وشرع كأعداد الصلوات ومقادير الزكوات وشرائط البيع والنكاح وغير ذلك، فالقسم الأول هو المسمى بالمحكم عند ابن عباس، لأن الآيات الثلاث في سورة الأنعام مشتملة على هذا القسم. وأما المتشابه فهو الذي سميناه بالمجمل، وهو ما يكون دلالة اللفظ بالنسبة إليه وإلى غيره على السوية، فإن دلالة هذه الألفاظ على جميع الوجوه التي تفسر هذه الألفاظ بها على السوية لا بدليل منفصل على ما لخصناه في أول سورة البقرة. القول الثاني: وهو أيضا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ. والقول الثالث: قال الأصم: المحكم هو الذي يكون دليله واضحًا لائحًا، مثل ما أخبر الله تعالى به من إنشاء الخلق في قوله تعالى: {ثم خلقنا النطفة علقة} (المؤمنون: 14) وقوله {وجعلنا من الماء كل شيء حي} (الأنبياء: 30) وقوله {وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم} (البقرة: 22) والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل نحو الحكم بأنه تعالى يبعثهم بعد أن صاروا ترابا ولو تأملوا لصار المتشابه عندهم محكما لأن من قدر على الإنشاء أو لا قدر على الإعادة ثانيا. واعلم أن كلام الأصم غير ملخص، فإنه إن عني بقوله: المحكم ما يكون دلائله واضحة أن المحكم هو الذي يكون دلالة لفظه على معناه متعينة راجحة، والمتشابه ما لا يكون كذلك، وهو إما المجمل المتساوي، أو المؤول المرجوح، فهذا هو الذي ذكرناه أولا، وإن عني به أن المحكم هو الذي يعرف صحة معناه من غير دليل، فيصير المحكم على قوله ما يعلم صحته بضرورة العقل، والمتشابه ما يعلم صحته بدليل العقل، وعلى هذا يصير جملة القرآن متشابها، لأن قوله {فخلقنا النطفة علقة} أمر يحتاج في معرفة صحته إلى الدلائل العقلية، وإن أهل الطبيعة يقولون: السبب في ذلك الطبائع والفصول، أو تأثيرات الكواكب، وتركيبات العناصر وامتزاجاتها، فكما أن إثبات الحشر والنشر مفتقر إلى الدليل، فكذلك إسناد هذه الحوادث إلى الله تعالى مفتقر إلى الدليل، ولعل الأصم يقول: هذه الأشياء وإن كانت كلها مفتقرة إلى الدليل، إلا أنها تنقسم إلى ما يكون الدليل فيه ظاهرا بحيث تكون مقدماته قليلة مرتبة مبينة يؤمن الغلط معها إلا نادرا، ومنها ما يكون الدليل فيه خفيا كثير المقدمات غير مرتبة فالقسم الأول: هو المحكم والثاني: هو المتشابه. القول الرابع: أن كل ما أمكن تحصيل العلم به سواء كان ذلك بدليل جلي، أو بدليل خفي، فذاك هو المحكم، وكل ما لا سبيل إلى معرفته فذاك هو المتشابه، وذلك كالعلم بوقت قيام الساعة، والعلم بمقادير الثواب والعقاب في حق المكلفين، ونظيره قوله تعالى: {يسئلونك عن الساعة أيان مرساها} (الأعراف: 187) (النازعات: 42). المسألة الرابعة: في الفوائد التي لأجلها جعل بعض القرآن محكما وبعضه متشابها. اعلم أن من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات، وقال: إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه، فالجبري يتمسك بآيات الجبر، كقوله تعالى: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى ءاذانهم وقرا} (الأنعام: 103) والقدري يقول: بل هذا مذهب الكفار، بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفى ءاذاننا وقر} (الأنعام: 25) وفي موضع آخر {وقالوا قلوبنا غلف} (الإسراء: 46) وأيضا مثبت الرؤية يتمسك بقوله {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} (القيامة: 22، 23) والنافي يتمسك بقوله {لا تدركه الابصار} (الأنعام: 103) ومثبت الجهة يتمسك بقوله {يخافون ربهم من فوقهم} (النحل: 50) وبقوله {الرحمن على العرش استوى} (طه: 5) والنافي يتمسك بقوله {ليس كمثله شىء} (الشورى: 11) ثم إن كل واحد يسمي الآيات الموافقة لمذهبه: محكمة، والآيات المخالفة لمذهبه: متشابهة وربما آل الأمر في ترجيح بعضها على بعض إلى ترجيحات خفية، ووجوه ضعيفة، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى قيام الساعة هكذا، أليس أنه لو جعله ظاهرا جليا نقيا عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض. واعلم أن العلماء ذكروا في فوائد المتشابهات وجوها: الوجه الأول: أنه متى كانت المتشابهات موجودة، كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب، قال الله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} (آل عمران: 142). الوجه الثاني: لو كان القرآن محكما بالكلية لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد، وكان تصريحه مبطلا لكل ما سوى ذلك المذهب، وذلك مما ينفر أرباب المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه، فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملا على المحكم وعلى المتشابه، فحينئذ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يقوي مذهبه، ويؤثر مقالته، فحينئذ ينظر فيه جميع أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه كل صاحب مذهب، فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله ويصل إلى الحق. الوجه الثالث: أن القرآن إذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل، وحينئذ يتخلص عن ظلمة التقليد، ويصل إلى ضياء الاستدلال والبينة، أما لو كان كله محكما لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية فحينئذ كان يبقى في الجهل والتقليد. الوجه الرابع: لما كان القرآن مشتملا على المحكم والمتشابه، افتقروا إلى تعلم طرق التأويلات وترجيح بعضها على بعض، وافتقر تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو وعلم أصول الفقه، ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان يحتاج الإنسان إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة، فكان إيراد هذه المتشابهات لأجل هذه الفوائد الكثيرة. الوجه الخامس: وهو السبب الأقوى في هذا الباب أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام بالكلية، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه، ظن أن هذا عدم ونفي فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه ويكون ذلك مخلوطا بما يدل على الحق الصريح، فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من باب المتشابهات، والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو المحكمات، فهذا ما حضرنا في هذا الباب والله أعلم بمراده. وإذا عرفت هذه المباحث فلنرجع إلى التفسير. أما قوله تعالى: {هو الذى أنزل عليك الكتاب} فالمراد به هو القرآن {منه آيات محكمات} وهي التي يكون مدلولاتها متأكدة إما بالدلائل العقلية القاطعة وذلك في المسائل القطعية، أو يكون مدلولاتها خالية عن معارضات أقوى منها. ثم قال: {هن أم الكتاب} وفيه سؤالان: السؤال الأول: ما معنى كون المحكم أما للمتشابه؟. الجواب: الأم في حقيقة اللغة الأصل الذي منه يكون الشيء، فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها، والمتشابهات إنما تصير مفهومة بإعانة المحكمات، لا جرم صارت المحكمات كالأم للمتشابهات وقيل: أن ما جرى في الإنجيل من ذكر الأب، وهو أنه قال: إن الباري القديم المكون للأشياء الذي به قامت الخلائق وبه ثبتت إلى أن يبعثها، فعبر عن هذا المعنى بلفظ الأب من جهة أن الأب هو الذي حصل منه تكوين الإبن، ثم وقع في الترجمة ما أوهم الأبوة الواقعة من جهة الولادة، فكان قوله {ما كان لله أن يتخذ من ولد} (مريم: 35) محكما لأن معناه متأكد بالدلائل العقلية القطعية، وكان قوله: عيسى روح الله وكلمته من المتشابهات التي يجب ردها إلى ذلك المحكم. السؤال الثاني: لم قال: {أم الكتاب} ولم يقل: أمهات الكتاب؟. الجواب: أن مجموع المحكمات في تقدير شيء واحد، ومجموع المتشابهات في تقدير شيء آخر وأحدهما أم الآخر، ونظيره قوله تعالى: {وجعلنا ابن مريم وأمه ءاية} (المؤمنون: 50) ولم يقل آيتين، وإنما قال ذلك على معنى أن مجموعهما آية واحدة، فكذلك ههنا. ثم قال: {وأخر متشابهات} وقد عرفت حقيقة المتشابهات، قال الخليل وسيبويه: أن {ءاخر} فارقت أخواتها في حكم واحد، وذلك لأن أخر جمع أخرى وأخرى تأنيث آخر وأخر على وزن أفعل وما كان على وزن أفعل فإنه يستعمل مع {من} أو بالألف واللام، فيقال: زيد أفضل من عمرو، وزيد الأفضل فالألف واللام معقبتان لمن في باب أفعل، فكان القياس أن يقال: زيد آخر من عمرو، أو يقال: زيد الآخر إلا أنهم حذفوا منه لفظ {من} لأن لفظه اقتضى معنى {من} فاسقطوها اكتفاء بدلالة اللفظ عليه والألف واللام معاقبتان لمن، فسقط الألف واللام أيضا فلما جاز استعماله بغير الألف واللام صار أخر فأخر جمعه، فصارت هذه اللفظة معدولة عن حكم نظائرها في سقوط الألف واللام عن جمعها ووحدانها. ثم قال: {فأما الذين في قلوبهم زيغ} اعلم أنه تعالى لما بين أن الكتاب ينقسم إلى قسمين منه محكم ومنه متشابه، بين أن أهل الزيغ لا يتمسكون إلا بالمتشابه، والزيغ الميل عن الحق، يقال: زاغ زيغا: أي مال ميلا واختلفوا في هؤلاء الذين أريدوا بقوله {فى قلوبهم زيغ} فقال الربيع: هم وفد نجران لما حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسيح فقالوا: أليس هو كلمة الله وروح منه قال: بلى. فقالوا: حسبنا. فأنزل الله هذه الآية، ثم أنزل {إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم} (آل عمران: 59) وقال الكلبي: هم اليهود طلبوا علم مدة بقاء هذه الأمة واستخراجه من الحروف المقطعة في أوائل السور وقال قتادة والزجاج: هم الكفار الذين ينكرون البعث، لأنه قال في آخر الآية {وما يعلم تأويله إلا الله} وما ذاك إلا وقت القيامة لأنه تعالى أخفاه عن كل الخلق حتى عن الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقال المحققون: إن هذا يعم جميع المبطلين، وكل من احتج لباطله بالمتشابه، لأن اللفظ عام، وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ ويدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه ومن جملته ما وعد الله به الرسول من النصرة وما أوعد الكفار من النقمة ويقولون {ائتنا بعذاب الله} (العنكبوت: 29) {لا تأتينا الساعة} (سبأ: 3) {لو ما تأتينا بالملئكة} (الحجر: 7) فموهوا الأمر على الضعفة، ويدخل في هذا الباب استدلال المشبهة بقوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} (طه: 5) فإنه لما ثبت بصريح العقل أن كل ما كان مختصا بالحيز فإما أن يكون في الصغر كالجزء الذي لا يتجزأ وهو باطل بالاتفاق وإما أن يكون أكبر فيكون منقسما مركبا وكل مركب فإنه ممكن ومحدث، فبهذا الدليل الظاهر يمتنع أن يكون الإله في مكان، فيكون قوله {الرحمن على العرش استوى} متشابها، فمن تمسك به كان متمسكا بالمتشابهات ومن جملة ذلك استدلال المعتزلة بالظواهر الدالة على تفويض الفعل بالكلية إلى العبد، فإنه لما ثبت بالبرهان العقلي أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي، وثبت أن حصول ذلك الداعي من الله تعالى، وثبت متى كان الأمر كذلك كان حصول الفعل عند تلك الداعية واجبا، وعدمه عند عدم هذه الداعية واجبا، فحينئذ يبطل ذلك التفويض، وثبت أن الكل بقضاء الله تعالى وقدره ومشيئته، فيصير استدلال المعتزلة بتلك الظواهر وإن كثرت استدلالا بالمتشابهات، فبين الله تعالى في كل هؤلاء الذين يعرضون عن الدلائل القاطعة ويقتصرون على الظواهر الموهمة أنهم يتمسكون بالمتشابهات لأجل أن في قلوبهم زيغا عن الحق وطلبا لتقرير الباطل. واعلم أنك لا ترى طائفة في الدنيا إلا وتسمي الآيات المطابقة لمذهبهم محكمة، والآيات المطابقة لمذهب خصمهم متشابهة ثم هو الأمر في ذلك ألا ترى إلى الجبائي فإنه يقوله: المجبرة الذين يضيفون الظلم والكذب، وتكليف ما لا يطاق إلى الله تعالى هم المتمسكون بالمتشابهات. وقال أبو مسلم الأصفهاني: الزائغ الطالب للفتنة هو من يتعلق بآيات الضلال، ولا يتأوله على المحكم الذي بينه الله تعالى بقوله {وأضلهم السامرى} (طه: 85) {وأضل فرعون قومه وما هدى} (طه: 79) {وما يضل به إلا الفاسقين} (البقرة: 26) وفسروا أيضا قوله {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} (الإسراء: 16) على أنه تعالى أهلكهم وأراد فسقهم، وأن الله تعالى يطلب العلل على خلقه ليهلكهم مع أنه تعالى قال: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة: 185) {ويريد الله * ليبين لكم ويهديكم} (النساء: 26) وتأولوا قوله تعالى: {زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون} (النمل: 4) على أنه تعالى زين لهم النعمة ونقضوا بذلك ما في القرآن كقوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد: 11) {وما كنا مهلكى القرى إلا وأهلها ظالمون} (القصص: 59) وقال: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} (فصلت: 17) وقال: {فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه} (يونس: 108) وقال: {ولاكن الله حبب إليكم الايمان وزينه في قلوبكم} (الحجرات: 7) فكيف يزين النعمة؟ فهذا ما قاله أبو مسلم، وليت شعري لم حكم على الآيات الموافقة لمذهبه بأنها محكمات وعلى الآيات المخالفة لمذهبه بأنها متشابهات؟ ولم أوجب في تلك الآيات المطابقة لمذهبه إجرائها على الظاهر، وفي الآيات المخالفة لمذهبه صرفها عن الظاهر؟ ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالرجوع إلى الدلائل العقلية الباهرة، فإذا دل على بطلان مذهب المعتزلة الأدلة العقلية، فإن مذهبهم لا يتم إلا إذا قلنا بأنه صدر عن أحد الفعلين دون الثاني من غير مرجح، وذلك تصريح بنفي الصانع، ولا يتم إلا إذا قلنا بأن صدور الفعل المحكم المتقن عن العبد لا يدل على علم فاعله به، فحينئذ يكون قد تخصص ذلك العدد بالوقوع دون الأزيد والأنقص لا لمخصص، وذلك نفي للصانع، ولزم منه أيضا أن لا يدل صدور الفعل المحكم على كون الفاعل عالما وحينئذ ينسد باب الاستدلال بأحكام أفعال الله تعالى على كون فاعلها عالما، ولو أن أهل السماوات والأرض اجتمعوا على هذه الدلائل لم يقدروا على دفعها، فإذا لاحت هذه الدلائل العقلية الباهرة فكيف يجوز لعاقل أن يسمي الآيات الدالة على القضاء والقدر بالمتشابه، فظهر بما ذكرناه أن القانون المستمر عند جمهور الناس أن كل آية توافق مذهبهم فهي المحكمة وكل آية تخالفهم فهي المتشابهة. وأما المحقق المنصف، فإنه يحمل الأمر في الآيات على أقسام ثلاثة أحدها: ما يتأكد ظاهرها بالدلائل العقلية، فذاك هو المحكم حقا وثانيها: الذي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها، فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله تعالى غير ظاهره وثالثها: الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه، فيكون من حقه التوقف فيه، ويكون ذلك متشابها بمعنى أن الأمر اشتبه فيه، ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر، إلا أن الظن الراجح حاصل في إجرائها على ظواهرها فهذا ما عندي في هذا الباب والله أعلم بمراده. واعلم أنه تعالى لما بين أن الزائغين يتبعون المتشابه، بين أن لهم فيه غرضين، فالأول: هو قوله تعالى: {ابتغاء الفتنة} والثاني: هو قوله {وابتغاء تأويله}. فأما الأول: فاعلم أن الفتنة في اللغة الاستهتار بالشيء والغلو فيه، يقال: فلان مفتون بطلب الدنيا، أي قد غلا في طلبها وتجاوز القدر، وذكر المفسرون في تفسير هذه الفتنة وجوها: أولها: قال الأصم: إنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين، صار بعضهم مخالفا للبعض في الدين، وذلك يفضي إلى التقاتل والهرج والمرج فذاك هو الفتنة وثانيها: أن التمسك بذلك المتشابه يقرر البدعة والباطل في قلبه فيصير مفتونا بذلك الباطل عاكفا عليه لا ينقلع عنه بحيلة ألبتة وثالثها: أن الفتنة في الدين هو الضلال عنه ومعلوم أنه لا فتنة ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه. وأما الغرض الثاني لهم: وهو قوله تعالى: {وابتغاء تأويله} فاعلم أن التأويل هو التفسير وأصله في اللغة المرجع والمصير، من قولك آل الأمر إلى كذا إذا صار إليه، وأولته تأويلا إذا صيرته إليه، هذا معنى التأويل في اللغة، ثم يسمى التفسير تأويلا، قال تعالى: {سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا} (الكهف: 78) وقال تعالى: {وأحسن تأويلا} (النساء: 59) وذلك أنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى، واعلم أن المراد منه أنهم يطلبون التأويل الذي ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان، مثل طلبهم أن الساعة متى تقوم؟ وأن مقادير الثواب والعقاب لكل مطيع وعاص كم تكون؟ قال القاضي: هؤلاء الزائغون قد ابتغوا المتشابه من وجهين أحدهما: أن يحملوه على غير الحق: وهو المراد من قوله {ابتغاء الفتنة} والثاني: أن يحكموا بحكم في الموضع الذي لا دليل فيه، وهو المراد من قوله {وابتغاء تأويله} ثم بين تعالى ما يكون زيادة في ذم طريقة هؤلاء الزائغين فقال: {وما يعلم تأويله إلا الله} واختلف الناس في هذا الموضع، فمنهم من قال: تم الكلام ههنا، ثم الواو في قوله {والراسخون في العلم} واو الابتداء، وعلى هذا القول: لا يعلم المتشابه إلا الله، وهذا قول ابن عباس وعائشة ومالك بن أنس والكسائي والفراء، ومن المعتزلة قول أبي علي الجبائي وهو المختار عندنا. والقول الثاني: أن الكلام إنما يتم عند قوله {والراسخون في العلم} وعلى هذا القول يكون العلم بالمتشابه حاصلا عند الله تعالى وعند الراسخين في العلم وهذا القول أيضا مروي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس وأكثر المتكلمين والذي يدل على صحة القول الأول وجوه: الحجة الأولى: أن اللفظ إذا كان له معنى راجح، ثم دل دليل أقوى منه على أن ذلك الظاهر غير مراد، علمنا أن مراد الله تعالى بعض مجازات تلك الحقيقة، وفي المجازات كثرة، وترجيح البعض على البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية، والترجيحات اللغوية لا تفيد إلا الظن الضعيف، فإذا كانت المسألة قطعية يقينية، كان القول فيها بالدلائل الظنية الضعيفة غير جائز، مثاله قال الله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} (البقرة: 286) ثم قال الدليل القاطع على أن مثل هذا التكليف قد وجد على ما بينا في البراهين الخمسة في تفسير هذه الآية فعلمنا أن مراد الله تعالى ليس ما يدل عليه ظاهر هذه الآية، فلا بد من صرف اللفظ إلى بعض المجازات، وفي المجازات كثرة وترجيح بعضها على بعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية، وأنها لا تفيد إلا الظن الضعيف، وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية، فوجب أن يكون القول فيها بالدلائل الظنية باطلا، وأيضا قال الله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} (طه: 5) دل الدليل على أنه يمتنع أن يكون الإله في المكان، فعرفنا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية ما أشعر به ظاهرها، إلا أن في مجازات هذه اللفظة كثرة فصرف اللفظ إلى البعض دون البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية الظنية، والقول بالظن في ذات الله تعالى وصفاته غير جائز بإجماع المسلمين، وهذه حجة قاطعة في المسألة والقلب الخالي عن التعصب يميل إليه، والفطرة الأصلية تشهد بصحته وبالله التوفيق. الحجة الثانية: وهو أن ما قبل هذه الآية يدل على أن طلب تأويل المتشابه مذموم، حيث قال: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} ولو كان طلب تأويل المتشابه جائزا لما ذم الله تعالى ذلك. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد منه طلب وقت قيام الساعة، كما في قوله {يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي} (الأعراف: 178) وأيضا طلب مقادير الثواب والعقاب، وطلب ظهور الفتح والنصرة كما قالوا {لو ما تأتينا بالملئكة} (الحجر: 7). قلنا: إنه تعالى لما قسم الكتاب إلى قسمين محكم ومتشابه، ودل العقل على صحة هذه القسمة من حيث إن حمل اللفظ على معناه الراجح هو المحكم، وحمله على معناه الذي ليس براجح هو المتشابه، ثم أنه تعالى ذم طريقة من طلب تأويل المتشابه كان تخصيص ذلك ببعض المتشابهات دون البعض تركا للظاهر، وأنه لا يجوز. الحجة الثالثة: أن الله مدح الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به، وقال في أول سورة البقرة {فما فوقها فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق} فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح لأن كل من عرف شيئا على سبيل التفصيل فإنه لا بد وأن يؤمن به، إنما الراسخون في العلم هم الذين علموا بالدلائل القطعية أن الله تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها، وعلموا أن القرآن كلام الله تعالى، وعلموا أنه لا يتكلم بالباطل والعبث، فإذا سمعوا آية ودلت الدلائل القطعية على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مراد الله تعالى، بل مراده منه غير ذلك الظاهر، ثم فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه، وقطعوا بأن ذلك المعنى أي شيء كان فهو الحق والصواب، فهؤلاء هم الراسخون في العلم بالله حيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر، ولا عدم علمهم بالمراد على التعيين عن الإيمان بالله والجزم بصحة القرآن. الحجة الرابعة: لو كان قوله {والراسخون في العلم} معطوفا على قوله {إلا الله} لصار قوله {يقولون ءامنا به} ابتداء، وأنه بعيد عن ذوق الفصاحة، بل كان الأولى أن يقال: وهم يقولون آمنا به، أو يقال: ويقولون آمنا به. فإن قيل: في تصحيحه وجهان الأول: أن قوله {يقولون} كلام مبتدأ، والتقدير: هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به والثاني: أن يكون {يقولون} حالا من الراسخين. قلنا: أما الأول فمدفوع، لأن تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى الإضمار أولى من تفسيره بما يحتاج معه إلى الإضمار والثاني: أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره، وههنا قد تقدم ذكر الله تعالى وذكر الراسخين في العلم فوجب أن يجعل قوله {يقولون ءامنا به} حالا من الراسخين لا من الله تعالى، فيكون ذلك تركا للظاهر، فثبت أن ذلك المذهب لا يتم إلا بالعدول عن الظاهر ومذهبنا لا يحتاج إليه، فكان هذا القول أولى. الحج الخامسة: قوله تعالى: {كل من عند ربنا} يعني أنهم آمنوا بما عرفوه على التفصيل، وبما لم يعرفوا تفصيله وتأويله، فلو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل لم يبق لهذا الكلام فائدة. الحجة السادسة: نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير لا يسع أحدا جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير تعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى. وسئل مالك بن أنس رحمه الله عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عند بدعة، وقد ذكرنا بعض هذه المسألة في أول سورة البقرة، فإذا ضم ما ذكرناه ههنا إلى ما ذكرنا هناك تم الكلام في هذه المسألة، وبالله التوفيق. ثم قال تعالى: {والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا} وفيه مسائل: المسألة الأولى: الرسوخ في اللغة الثبوت في الشيء. واعلم أن الراسخ في العلم هو الذي عرف ذات الله وصفاته بالدلائل اليقينية القطعية، وعرف أن القرآن كلام الله تعالى بالدلائل اليقينية، فإذا رأى شيئا متشابها، ودل القطعي على أن الظاهر ليس مراد الله تعالى، علم حينئذ قطعا أن مراد الله شيء آخر سوى ما دل عليه ظاهره، وأن ذلك المراد حق، ولا يصير كون ظاهره مردودا شبهة في الطعن في صحة القرآن. ثم حكي عنهم أيضا أنهم يقولون {كل من عند ربنا} والمعنى: أن كل واحد من المحكم والمتشابه من عند ربنا، وفيه سؤالان: السؤال الأول: لو قال: كل من ربنا كان صحيحا، فما الفائدة في لفظ {عند}؟. الجواب؛ الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد التأكيد، فذكر كلمة {عند} لمزيد التأكيد. السؤال الثاني: لم جاز حذف المضاف إليه من {كل}؟. الجواب: لأن دلالة المضاف عليه قوية، فبعد الحذف الأمن من اللبس حاصل. ثم قال: {وما يذكر إلا أولوا الالباب} وهذا ثناء من الله تعالى على الذين قالوا آمنا به ومعناه: ما يتعظ بما في القرآن إلا ذوو العقول الكاملة، فصار هذا اللفظ كالدلالة على أنهم يستعملون عقولهم في فهم القرآن، فيعلمون الذي يطابق ظاهره دلائل العقول فيكون محكما، وأما الذي يخالف ظاهره دلائل العقول فيكون متشابها، ثم يعلمون أن الكل كلام من لا يجوز في كلامه التناقض والباطل، فيعلمون أن ذلك المتشابه لا بد وأن يكون له معنى صحيح عند الله تعالى، وهذه الآية دالة على علو شأن المتكلمين الذين يبحثون عن الدلائل العقلية، ويتوسلون بها إلى معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله، ولا يفسرون القرآن إلا بما يطابق دلائل العقول، وتوافق اللغة والإعراب. واعلم أن الشيء كلما كان أشرف كان ضده أخس، فكذلك مفسر القرآن متى كان موصوفا بهذه الصفة كانت درجته هذه الدرجة العظمى التي عظم الله الثناء عليه، ومتى تكلم في القرآن من غير أن يكون متبحرا في علم الأصول، وفي علم اللغة والنحو كان في غاية البعد عن الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار".

نظم الدرر للبقاعي

ولما ختم سبحانه وتعالى بوصف العزة الدالة على الغلبة الدالة على كمال القدرة والحكمة المقتضي لوضع كل شيء في أحسن محاله وأكملها المستلزم لكمال العلم، تقديراً لما مر من التصوير وغيره، وكان هذا الكتاب أكمل مسموعات العباد لنزوله على وجه هو أعلى الوجوه، ونظمه على أسلوب أعجز الفصحاء وأبكم البلغاء إلى غير ذلك من الأمور الباهرة والأسرار الظاهرة، وعلى عبد هو أكمل الخلق؛ أعقب الوصفين بقوله بياناً لتمام علمه وشمول قدرته: {هو} أي وحده {الذي} ولما فصل أمر المنزل إلى المحكم والتشابه نظر إليه جملة كما اقتضاه التعبير بالكتاب فعبر بالإنزال دون التنزيل فقال: {أنزل عليك} أي خاصة {الكتاب} أي القرآن، وقصر الخطاب على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن هذا موضع الراسخين وهو رأسهم دلالة على أنه لا يفهم هذا حق فهمه من الخلق غيره. قال الحرالي: ولما كانت هذه السورة فيما اختصت به من علن أمر الله سبحانه وتعالى مناظرة بسورة البقرة فيما أنزلت من إظهار كتاب الله سبحانه وتعالى كان المنتظم بمنزل فاتحتها ما يناظر المنتظم بفاتحة سورة البقرة، فلماكانت سورة البقرة منزل كتاب هو الوحي انتظم بترجمتها الإعلام بأمر كتاب الخلق الذي هو القدر، فكما بين في أول سورة البقرة كتاب تقدير الذي قدره وكتبه في ذوات من مؤمن وكافر ومردد بينهما هو المنافق فتنزلت سورة كتاب للوحي إلى بيان قدر الكتاب الخلقي لذلك كان متنزل هذا الافتتاح الإلهي إلى أصل منزل الكتاب الوحي؛ ولما بين أمر الخلق أن منهم من فطره على الإيمان ومنهم من جبله على الكفر ومنهم من أناسه بين الخلقين، بين في الكتاب أن منه ما أنزله على الإحكام ومنه ما أنزله على الاشتباه؛ وفي إفهامه ما أنزله على الافتنان والإضلال بمنزله ختم الكفار؛ انتهى فقال: {منه آيات محكمات} أي لا خفاء بها. قال الحرالي: وهي التي أبرم حكمها فلم ينبتر كما يبرم الحبل الذي يتخذ حكمة أي زماماً يزم به الشيء الذي يخاف خروجه على الانضباط، كأن الآيه المحكمة تحكم النفس عن جولانها وتمنعها من جماحها وتضبطها إلى محال مصالحها، ثم قال: فهي آي التعبد من الخلق للخلقاللائي لم يتغير حكمهن في كتاب من هذه الكتب الثلاث المذكورة، فهن لذلك أم انتهى. ولما كان الإحكام في غاية البيان فكان في تكامله ورد بعض معانيه إلى بعض كالشيء الواحد، وكان رد المتشابه إليه في غايه السهولة لمن رسخ إيمانه وصح قصده واتسع علمه ليصير الكل شيئاً واحداً أخبر عن الجمع بالمفرد فقال: {هن أم الكتاب} والأم الأمر الجامع الذي يؤم أي يقصد، وقال الحرالي: هي الأصل المقتبس منه الشيء في الروحانيات والنابت منه أو فيه في الجسمانيات {وأخر} أي منه {متشابهات} قال الحرالي: والتشابه تراد التشبه في ظاهر أمرين لشبه كل واحد منهما بالآخر بحيث يخفى خصوص كل واحد منهما؛ ثم قال: وهن الآي التي أخبر الحق سبحانه وتعالى فيهن عن نفسه وتنزلات تجلياته ووجوه إعانته لخلقه وتوفيقه وإجرائه ما أجرى من اقتداره وقدرته في بادئما أجراه عليهم، فهن لذلك متشبهات من حيث إن نبأ الحق عن نفسه لا تناله عقول الخلق، ولا تدركه أبصارهم، وتعرف لهم فيما تعرف بمثل أنفسهم، فكأن المحكم للعمل والمتشابه لظهور العجز، فكان لذلك حرف المحكم أثبت الحروف عملاً، وحرف المتشابه أثبت الحروف إيماناً، واجتمعت على إقامته الكتب الثلاث، واختلفت في الأربع اختلافاً كثيراً فاختلف حلالها وحرامها وأمرها ونهيها، واتفق على محكمها ومتشابهها انتهى. فبين سبحانه وتعالى بهذا أنه كما يفعل الأفعال المتشابهه مثل تصوير عيسى عليه الصلاة والسلام من غير نطفة ذكر، مع إظهار الخوارق على يديه لتبين الراسخ في الدين من غيره كذلك يقول الأقوال المتشابهه، وأنه فعل في هذا الكتاب ما فعل في غيره من كتبه من تقسيم آياته إلى محكم ومتشابه ابتلاء لعباده ليبين فضل العلماء الراسخين الموقنين بأنه من عنده، وأن كل ما كان من عند الله سبحانه وتعالى فلا اختلاف فيه في نفس الأمر، لأن سبب الاختلاف الجهل أو العجز، وهو سبحانه وتعالى متعال جده منزه قدره عن شيء من ذلك، فبين فضلهم بأنهم يؤمنون به، ولا يزالون يستنصرون منه سبحانه وتعالى فتح المنغلق وبيان المشكل حتى يفتحه عليهم بما يرده إلى المحكم، وهذا على وجه يشير إلى المهمة الذي تاهفيه النصارى، والتيه الذي ضلوا فيه عن المنهج، واللج الذي أغرق جماعاتهم، وهو المتشابه الذي منه أنهم زعموا أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يقول له القائل: يا رب! افعل لي كذا ويسجد له، فيقره على ذلك ويجيب سؤاله، فدل ذلك على أنه إله، ومنه إطلاقه على الله سبحانه وتعالى أباً وعلى نفسه أنه ابنه، فابتغوا الفتنه فيه واعتقدوا الأبوة والنبوة على حقيقتهما ولم يردوا ذلك إلى المحكم الذي قاله لهم فأكثر منه، كما أخبر عنه أصدق القائلين سبحانه وتعالى في الكتاب المتواتر الذي حفظه من التحريف والتبديل: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} [فصلت: 42] ، وهو {إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً} [مريم: 30، 31] {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم} [المائدة: 117] {إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [مريم: 51] ، هذا مما ورد في كتابنا الذي لم يغيروا ما عندهم فإن كانوا قد بدلوه فقد ولله الحمد منه في الأناجيل الأربعة التي بين أظهرهم الآن في أواخر هذا القرن التاسع من المحكم ما يكفي فيرد المتشابه إليه، ففي إنجيل لوقا أن جبريل عليه الصلاة والسلام ملاك الرب لما تبدى لمريم مبشراً بالمسيح عليه السلام وخافت منه قال لها: لا تخافي يا مريم ظفرت بنعمة من عند الله سبحانه وتعالى، وأنت تقبلين حبلاً وتلدين ابناً يدعى يسوع، يكون عظيماً، وابن العذراء يدعى؛ ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه؛ وفي إنجيله أيضاً وإنجيل متى أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال وقد أمره إبليس أن يجرب قدره عند الله بأن يطرح نفسه من شاهق: مكتوب: لا تجرب الرب إلهك، وقال وقد أمره أن يسجد له: مكتوب: للرب إلهك اسجد، وإياه وحده اعبد، وصرح أن الله سبحانه وتعالى واحد في غير موضع؛ وفي إنجيل لوقا أنه دفع إلى المسيح سفر أشعيا النبي فلما فتحه وجد الموضع الذي فيه مكتوب: روح الرب عليّ، من أجل هذا مسحني وأرسلني لأبشر المساكين وأبشر بالسنة المقبولة للرب، والأيام التي أعطانا إلهنا، ثم طوى السفر ودفعهإلى الخادم؛ وفيه وفي غيره من أناجيلهم: من قبل هذا فقد قبلني، ومن قبلني فقد قبل الذي أرسلني، ومن سمع منكم فقد سمع مني، ومن جحدكم فقد جحدني، ومن جحدني فقد شتم الذي أرسلني ومن أنكرني قدام الناس أنكرته قدام الناس، أنكرته قدام ملائكة الله، وفي إنجيل يوحنا أنه قال عن نفسه عليه الصلاة والسلام: الذي أرسله الله إنما ينطق بكلام الله لأنه ليس بالكيس، أعطاه الله الروح، وقال: قد سأله تلاميذه أن بأكل فقال لهم: طعامي أن أعمل مسرة من أرسلني وأتم عمله؛ وفيه في موضع آخر: الحق الحق أقول لكم! أن من يسمع كلامي وآمن بمن أرسلني وجبت له الحياة المؤبده، لست أقدر أعمل شيئاً من ذات نفسي، وإنما أحكم بما أسمع، وديني عدل لأني لست أطلب مسرتي بل مسرة من أرسلني؛ وفي إنجيل مرقس أنه قال لناس: تعلمتم وصايا الناس وتركتم وصايا الله، وزجر بعض من اتبعه فقال: اذهب يا شيطان! فإنك لم تفكر فيذات الله، وتفكر في ذات الناس؛ فقد جعل الله إلهه وربه ومعبوده، واعترف له بالوحدانيه وجعل ذاته مبايناً لذات الناس الذي هو منهم؛ وفي جميع أناجيلهم نحو هذا، وأنه كان يصوم ويصلي لله ويأمر تلاميذه بذلك، ففي إنجيل لوقا أنهم قالوا له: يا رب! علمنا نصلي كما علم يوحنا تلاميذه، فقال لهم: إذا صليتم فقولوا: أبانا الذي في السماوات يتقدس اسمك! كفافنا أعطنا في كل يوم، واغفر لنا خطايانا لأنا نغفر لمن لنا عليه، ولا تدخلنا في التجارب، لكن نجنا من الشرير؛ ولما دخل الهيكل بدأ يخرج الذين يبيعون ويشترون فيه، فقال لهم: مكتوب أن بيتي هو بيت الصلاة وأنتم جعلتموه مفازة اللصوص! فعلم من هذا كله أن إطلاق اسم الرب عليه لأن الله سبحانه وتعالى أذن له أن يفعل بعض أفعاله التي ليست في قدرة البشر، والرب يطلق على السيد أيضاً، كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام: {اذكرني عند ربك} [يوسف: 42] . ثم وجدت في أوائل إنجيل يوحنا أن الرب تأويله العلم، ولو ردوا أيضاً الأب والابن إلى هذا المحكم وأمثاله وهي كثيرة في جميع أناجيلهم لعلموا بلا شبهة أن معناه أن الله سبحانهوتعالى يفعل معه ما يفعل الوالد مع ولده من الترية والحياطة والنصرة والتعظيم والإجلال، كما لزمهم حتماً أن يأولوا قوله فيما قدمته: أبانا الذي في السماوات، وقوله في إنجيل متى لتلاميذه: هكذا فليضىء نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات، وقال: وأحسنوا إلى من أبغضكم، وصلوا على من يطردكم ويخزيكم لكيما تكونوا بني أبيكم الذي في السماوات، لأنه المشرق شمسه على الأخيار والأشرار، والممطر على الصديقين والظالمين، انظروا! لا تصنعوا أمراً حكم قدام الناس لكي يروكم، فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات، وإذا صنعت رحمة فلا تضرب قدامك بالبوق، ولا تصنع كما يصنع المراؤون في المجامع وفي الأسواق لكي يمجدوا من الناس، الحق أقول لكم! لقد أخذوا أجرهم؛ وأنت إذا صنعت رحمة لا تعلم شمالك ما صنعته يمينك، لتكون صدقة في خفية، وأبوك الذي يرى الخفية يعطيك على نية؛ وقل في الفصل العاشر منه: وصل لأبيك سراً، وأبوك يرى السر فيعطيك علانية.وهكذا في جميع آيات الأحكام من الإنجيل كرر لهم هذه اللفظة تكريراً كثيراً، فكما تأول لها النصارى بأن المراد منها تعظيمهم له أشد من تعظيمهم لآبائهم ليعتني بهم أكثر من اعتناء الوالد بالولد فكذلك يأولون ما في إنجيل لوقا وغيره أن أم عيسى وإخواته أتوا اليه فلم يقدروا لكثره الجمع على الوصول إليه فقالوا له أملك وإخواتك خارجاً يريدون أن ينظروا إليك، فأجاب: أمي وأخوتي الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها؛ فكذلك يلزمهم تأويلها في حق عيسى عليه الصلاة والسلام لذلك ليرد المتشابه إلى المحكم. وإن لم يأولوا ذلك في حق أنفسهم وحملوه على الظاهر كما هو ظاهر قوله سبحانه وتعالى: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 18] كانوا مكابرين في المحسوس بلا شبهة، فإن كل أحد منهم مساو لجميع الناس وللبهائم في أن له أبوين، وكانت دعواهم هذة ساقطة لا يردها عليهم إلا من تبرع بإلزامهم بمحسوس آخر هم به يعترفون، وقد أقام هو نفسه عليه الصلاة والسلام أدلة على صرفها عن ظاهرها، منها غير ما تقدم أنه كثيراً ما كان يخبر عن نفسه فيقول: ابن الإنسان يفعل كذا،ابن البشر قال كذا يعني نفسه الكريمة، فحيث نسب نفسه إلى البشر كان مريداً للحقيقة، لأنه ابن امرأة منهم، وهو مثلهم في الجسد، والمعاني حيث نسبها إلى الله سبحانه وتعالى كان على المجاز كما تقدم. وأما السجود فقد ورد في التوراة كثيراً لأحاد الناس من غير نكير، فكأنه كان جائزاً في شرائعهم فعله لغير الله سبحانه وتعالى على وجه التعظيم والله سبحانه وتعالى أعلم، وأما نحن فلا يجوز فعله لغير الله، ولا يجوز في شريعتنا أصلاً إطلاق الأب ولا الابن بالنسبة إليه سبحانه وتعالى، وكذا كل لفظ أوهم نقصاً سواء صح أن ذلك كان جائزاً في شرعهم أم لا، وإذا راجعت تفسير البيضاوي لقوله سبحانه وتعالى في البقرة {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} [البقرة: 117] زادك بصيرة فيما هنا؛ والحاصل أنهم لم يصرفوا ذلك في حق عيسى عليه الصلاة والسلام عن ظاهره وحقيقته وتحكموا بأن المراد منه المجاز وهو هنا إطلاق اسم الملزوم على اللازم، وكذا غيره من متشابه الإنجيل، كما فعلنا نحن بمعونة الله سبحانه وتعالى في وصف الله سبحانه وتعالى بالرضى والغضب والرحمة والضحك وغير ذلك مما يستلزم حمله على الظاهر وصفات المحدثين، وكذا ذكر اليد والكف والعين ونحو ذلكفحملنا ذلك كله على أن المراد منه لوازمه وغاياته مما يليق بجلاله سبحانه وتعالى مع تنزيهنا له سبحانه وتعالى عن كل نقص وإثباتنا له كل كمال، فإن الله سبحانه وتعالى عزه وجده وجل قدره ومجده أنزل حرف المتشابه ابتلاء لعباده لتبين الثابت من الطائش والموقن من الشاك. قال الحرالي في كتابه عروة المفتاح: وجه إنزال هذا الحرف تعرف الحق للخلق بمعتبر ما خلقهم عليه ليلفتوا عنه وليفهموا خطابه، وليتضح لهم نزول رتبهم عن علو ما تعرف به لهم، وليختم بعجزهم عن إدراك هذا الحرف علمهم بالأربعة يعني الأمر والنهي والحلال والحرام، وحبسهم بالخامس وتوقفهم عنه والاكتفاء بالإيمان منه ما تقدم من عملهم بالأربعة، واتصافهم بالخامس ليتم لهم العبادة بالوجهين من العمل والوقوف والإدراك والعجز {فارجع البصر هل ترى من فطور} [الملك: 3] علماً وحساً{ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير} [الملك: 4] عجزاً، أعلمهم بحظ من علم أنفسهم وغيرهم بعد أن أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً ثم أعجزهم عن علم أمره وأيامه الماضية والآتية وغائب الحاضرة ليسلموا له اختيار فيرزقهم اليقين بأمره وغائب أيامه، كما أسلموا له في الصغر اضطراراً، فرزقهم حظاً من علم خلقه، فمن لم يوقفه في حد الإيمان اشتباه خطابه سبحانه وتعالى عن نفسه وما بينه وبين خلقه وحاول تدركه بدليل أو فكر أو تأويل حرم اليقين بعلي الأمر والتحقيق في علم الخلق، وأوخذ بما أضاع من محكم ذلك المتشابه حين اشتغل لما يعنيه من حال نفسه بما لا يعنيه من أمر ربه، فكان كالمتشاغل بالنظر في ذي الملك، وتنظره يرمي نفسه عن مراقبة ما يلزمه من تفهم حدوده وتذلله لحرمته؛ وجوامع منزل هذا الحرف في رتبتين: مبهمة ومفصلة،أما انبهامه فلوقوف العلم به على تعريف الله سبحانه وتعالى من غير واسطة من وسائط النفس من فكر ولا استدلال، وليتدرب المخاطب بتوقفه على المبهم على توقفه عن مفصله ومبهمه، وهو جامع الحروف المنزلة في أوائل السور التسع والعشرين من سوره وبه افتتح الترتيب في القرآن، ليتلقى الخلق بادي أمر الله بالعجز والوقوف والاستسلام إلى أن يمن الله سبحانه وتعالى بعلمه بفتح من لدنه، ولذلك لم يكن في تنزيله في هذه الرتبة ريب لمن علمه الله سبحانه وتعالى كنهه من حيث لم يكن للنفس مدخل في علمه، وذلك قوله سبحانه وتعالى: {آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه} [البقرة: 1، 2] لمن علمه الله إياه {هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 2، 3] وقوفاً عن محاولة علم ما ليس في وسع الخلق علمه، حتى تلحقه العنايه من ربه فعلمه ما لم يكن في علمه؛ وأما الرتبة الثانية فمتشابه الخطاب المفصل المشتمل على إخبار الله عن نفسه وتنزيلات أمره، ورتب إقامات خلقه بإبداع كلمته وتصيير حكمته وباطن ملكوته وعزيز جبروته وأحوال أيامه؛ وأول ذلك في ترتيب القرآن إخباره عن استوائه في قوله: {ثم استوى إلى السماء} [البقرة: 29]إلى قوله سبحانه وتعالى {فأينما تولوا فثم وجه الله} [لبقرة: 115] إلى سائر ما أخبر عنه من عظم شأنه في جملة آيات متعددات لقوله سبحانه وتعالى {إلا لنعلم من يتبع الرسول} [البقرة: 143] ، {فإني قريب} [البقرة: 186] {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظل من الغمام والملائكة} [البقرة: 210] ، {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة: 255] {فأذنوا بحرب من الله ورسوله} [البقرة: 279] ، {هو الذي يصوركم في الأرحام} [آل عمران: 6] ، {ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 128] ، {ولله ملك السماوات والأرض} [آل عمران: 189] ، {والله على كل شيء قدير} [البقرة: 284] ، {وكان الله سميعاً بصيراً} [النساء: 85] ، {بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} [المائده: 64] ، {وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم} [الأنعام: 3] ، {خلق السماوات والأرض} [الأعراف: 54] ، {ثم استوى على العرش} [الأعراف: 54] ، {ولتصنع على عيني} [طه: 39] ، {قل من بيده ملكوت كل شيء} [المؤمنون: 88] ، {فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله} [القصص: 30] ، {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص: 88] ، {هو الذي يصلي عليكم وملائكته} [الأحزاب: 43] ، {إن الله وملائكته يصلون علىلنبي} [الأحزاب: 56] ، {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [الأعراف: 12] ، {وهوالذي في السماء إله وفي الأرض إله} [الزخرف: 84] ، {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه} [الجاثيه: 13] ، {وله الكبرياء في السماوات والأرض} [الجاثيه: 37] ، {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك} [الرحمن: 26، 27] ، {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} [الحديد: 3] ، {وهو معكم أين ما كنتم} [الحديد: 4] ، {ما يكون من نجوى ثلاثه إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا} [المجادلة: 7] ، {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} [الحشر: 2] ، {تبارك الذي بيده الملك} [الملك: 1] ، {تعرج الملائكة والروح اليه} [المعارج: 4] ، {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة: 22، 23] ، {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} [الإنسان: 30] ، {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} [الفجر: 22] إلى سائر ما أخبر فيه عن تنزلات أمره وتسوية خلقه وما أخبرعنه حبيبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من محفوظ الأحاديث التي عرف بها أمته ما يحملهم في عبادتهم على الانكماش والجد والخشية والوجل والإشفاق وسائر الأحوال المشار إليها في حرف المحكم من نحو حديث النزول والقدمين والصورة والضحك والكف والأنامل، وحديث عناية لزوم التقرب بالنوافل وغير ذلك من الأحاديث التي ورد بعضها في الصحيحين، واعتنى بجمعها الحافظ المتقن أبو الحسن الدارقطني رحمه اللهتعالى، ودوَّن بعض المتكلمين جملة منها لقصد التأويل، وشدد النكير في ذلك أئمة المحدثين، يؤثر عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه ورحمة أنه قال: آيات الصفات وأحاديث الصفات صناديق مقفلة مفاتيحها بيد الله سبحانه وتعالى، تأويلها تلاوتها، ولذلك أئمة الفقهاء وفتياهم لعامة المؤمنين والذي اجتمعت عليه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ولقنته العرب كلها أن ورود ذلك عن الله ومن رسوله ومن الأئمة إنما هو لمقصد الإفهام، لا لمقصد الإعلام، فلذلك لم يستشكل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم شيئاً قط، بل كلما كان وارده عليهم أكثر كانوا به أفرح، وللخطاب به أفهم، حتى قال بعضهم لما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تعالى يضحك من عبده: لا نعدم الخير من رب يضحك» وهم وسائر العلماء بعدهم صنفان: إما متوقف عنه في حد الإيمان، قانع بما أفاد من الإفهام، وإما مفتوح عليه بما هو في صفاء الإيقان، وذلك أن الله سبحانه وتعالى تعرف لعباده في الأفعال والآثار في الآفاق وفي أنفسهم تعليماً، وتعرف للخاصة منهمبالأوصاف العليا والأسماء الحسنى مما يمكنهم اعتباره تعجيزاً، فجاوزوا حدود التعلم بالإعلام إلى عجز الإدراك فعرفوا أن لا معرفة لهم، وذلك هو حد العرفان وإحكام قراءة هذا الحرف المتشابه في منزل القرآن، وتحققوا أن {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] و {لم يكن له كفواً أحد} [الإخلاص: 4] فتهدفوا بذلك لما يفتحه الله على من يحبه من صفاء الإيقان، والله يحب المحسنين. ثم قال فيما به تحصل قراءة هذا الحرف: اعلم أن تحقيق الإسلام بقراءة حرف المحكم لا يتم إلا بكمال الإيمان بقراءة حرف المتشابه تماماً لأن حرف المحكم حال يتحقق للعبد. ولما كان حرف المتشابه إخباراً عن نفسه سبحانه وتعالى بما يتعرف به لخلقه من أسماء وأوصاف كانت قراءته بتحقق العبد أن تلك الأسماء والأوصاف ليست مما تدركه حواس الخلق ولا ما تناله عقولهم، وإن أجرى على تلك الاسماء والأوصاف على الخلق فيوجه، لا يلحق أسماء الحق ولا أوصافه منها تشبيه في وهم ولا تمثيل في عقل {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] ، {ولم يكن له كفواً أحد} [الإخلاص: 4] ، فلاذي يصح به قراءة هذا الحرف أما من جهة القلبفالمعرفة بأن جميع أسماء الحق وأوصافه تعجز عن معرفتها إدراكات الخلق وتقف عن تأويلها إجلالاً وإعظاماً معلوماتُهم، وأن حسبها معرفتها بأنها لا تعرفها، وأما من جهة حال النفس والاستكانة لما يوجبه تعرف الحق بتلك الأسماء والأوصاف من التحقق بما يقابلها والبراءة من الاتصاف بها لأن ما صلح للسيد حرم على العبد لتحقق فقر الخلق من تسمي الحق بالغنى، ولا يتسمى بالغنى فيقدح في هداه، فيهلك باسمه ودعواه، ولتحقق ذلهم من تسميته تعالى بالعزة وعجزهم عن تسميته بالقدرة، واستحقاق تخليهم من جميع ما تعرف به من أوصاف الملك والسلطان والغضب والرضى والوعد والوعيد والترغيب والترهيب إلى سائر ما تسمى به في جميع تصرفاته مما ذكر في المتشابه من الآي، وأشير إليه من الأحاديث، وما عليه اشتملت «واردات الأخبار» في جميع الصحف والكتب، ومرائي الصالحين ومواقف المحدثين ومواجد المروّعين؛ وأما من جهةالعمل فحفظ اللسان عن إطلاق ألفاظ التمثيل والتشبيه تحقيقاً لما في مضمون قوله سبحانه وتعالى {ولم يكن له كفواً أحد} [الإخلاص: 4] لأن مقتضاها الرد على المشبه من هذه الأمة، وليس لعمل الجوارح في هذا الحرف مظهر سوى ما ذكر من لفظ اللسان، فقراءته كالتوطئة لتخليص العبادة بالقلب في قراءة مفرد حرف الأمثال؛ والله العلي الكبير انتهى. وقد تقدم حرف الأمثال عند قوله تعالى {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} [البقرة: 7] وقد بين سبحانه وتعالى أنه لا يضل بحرف المتشابه إلا ذوو الطبع العوج الذين لم ترسخ أقدامهم في الدين ولا استنارت معارفهم في العلم فقال: {فأما الذين في قلوبهم زيغ} أي اعوجاج عدلوا به عن الحق. وقال الحرالي: هو ميل المائل إلى ما يزين لنفسه الميل إليه، والمراد هنا أشد الميل الذي هو ميل القلب عن جادة الاستواء وفي إشعاره ما يلحق بزيغ القلوب من سيىء الأحوال في الأنفس وزلل الأفعال في الأعمال، فأنبأ تعالى عما هو الأشد وأبهم ما هو الأضعف: {فيتبعون} في إشعار هذه الصيغة بما تنبئ عنهمن تكلف المتابعه بأن من وقع له الميل فلفته لم تلحقه مذمه هذا الخطاب، فإذا وقع الزلل ولم يتتابع حتى يكون اتباعاً سلم من حد الفتنة بمعالجة التوبة {ما تشابه منه} فأبهمه إبهاماً يشعر بما جرت به الكليات فيما يقع نبأ عن الحق وعن الخلق من نحو أوصاف النفس كالتعليم والحكيم وسائر أزواج الأوصاف كالغضب والرضى بناء على الخلق في بادئ الصورة من نحو العين واليد والرجل والوجه وسائر بوادي الصورة، كل ذلك مما أنه متشابهات أنزلها الله تعالى ليتعرف للخلق بما جبلهم عليه مما لو لم يتعرف لهم به لم يعرفوه، ففقائدة إنزالها التعرف بما يقع به الامتحان بإحجام الفكر عنه والإقدام على التعبد له، ففائدة إنزاله عملاً في المحكم وفائدة إنزاله فيه توقفاً عنه ليقع الابتلاء بالوجهين: عملاً بالمحكم ووقوفاً عن المتشابه، قال عليه الصلاة والسلام: «لا تتفكروا في الله» وقال علي رضي الله عنه: من تفكر في ذات الله تزندق ووافق العلماء إنكار الخلق عن التصرف في تكييف شيء منه، كما ذكر عن مالك رحمه الله تعالى في قوله: الكيف مجهول والسؤال عنه بدعة، فالخوض في المتشابه بدعة، والوقوف عنه سنة؛ وأفهم عنه الإمام أحمد يعني فيما تقدم في آيات الصفات من أن تأويلهاتلاوتها، هذا هو حد الإيمان وموقفه، وإليه أذعن الراسخون في العلم، وهم الذين تحققوا في أعلام العلم، ولم يصغوا إلى وهم التخييل والتمثل به في شيء مما أنبأ الله سبحانه وتعالى به نفسه ولا في شيء مما بينه وبين خلقه وكان في توقفهم عن الخوض في المتشابه تفرغهم للعمل في المحكم، لأن المحكم واضح وجداني، متفقه عليه مدارك الفطن وإذعان الجبلات ومنزلات الكتب، لم يقع فيه اختلاف بوجه حتى كان لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، للزوم الواجب من العمل بالمحكم في إذعان النفس، فكما لا يصلح العراء عن الاتصاف بالمحكم لا يصلح الترامي إلى شيء من الخوض في المتشابه لأحد من أهل العلم والإيمان أهل الدرجات، لأن الله سبحانه وتعالى جبل الخلق وفطرهم على إدراك حظ من أنفسهم من أحوالهم، وأوقفهم عن إدراك ما هو راجع إليه، فأمر الله وتجلياته لا تنال إلا بعنايه منه، يزج العبد زجه يقطع به الحجب الظلمانية والنورانيةالتي فيها مواقف العلماء؛ فليس في هذا الحرف المتشابه إلا أخذ لسانين: لسان وقفة عن حد الإيمان للراسخين في العلم المشتغلين بالاتصاف بالتذلل والتواضع والتقوى والبر الذي أمر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتبع فيه حتى ينتهي العبد إلى أن يحبه الله، فيرفع عنه عجز الوقفه عن المتشابه، وينقذه من حجاب النورانية، فلا يشكل عليه دقيق ولا يعييه خفي بما أحبه الله، وما بين ذلك من خوض دون إنقاذ هذه العناية فنقص عن حد رتبة الإيمان والرسوخ في العلم، فكل خائض فيه ناقص من حيث يحب أن يزيد، فهو إما عجز إيماني من حيث الفطر الخلقي، وإما تحقق إيقاني توجبه العناية والمحبة انتهى. ولما ذكر سبحانه وتعالى اتباعهم له ذكر علته فقال: {ابتغاء الفتنة} أي تمييل الناس عن عقائدهم بالشكوك {وابتغاء تأويله} أي ترجيعه إلى ما يشتهونه وتدعوا إليه نفوسهم المائلة وأهويتهم الباطلة بادعاء أنه مآله. قال الحرالي: والابتغاء افتعال: تكلف البغي، وهو شدة الطلب، وجعله تعالى ابتغاءين لاختلاف وجهيه، فجعلالأول فتنة لتعلقه بالغير وجعل الثاني تأويلاً أي طلباً للمآل عنده، لاقتصاره على نفسه، فكان أهون الزيغين انتهى. ولما بين زيغهم بين أن نسبة خوضهم فيما لا يمكنهم علمه فقال: {وما} أي والحال أنه ما {يعلم} في الحال وعلى القطع {تأويله} قال الحرالي: هو ما يؤول إليه أمر الشيء في مآله إلى معاده {إلا الله} أي المحيط قدرة وعلماً، قال: ولكل باد من الخلق مآل كما أن الآخرة مآل الدنيا {يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق} [الأعراف: 53] لذلك كل يوم من أيام الآخرة مآل للذي قبله، فيوم الخلود مآل يوم الجزاء، ومآل الأبد مآل يوم الخلود؛ وأبد الأبد مآل الأبد، وكذلك كل الخلق له مآل من الأمر فأمر الله مآل خلقه وكذلك الأمر، كل تنزيل أعلى منه مآل التنزيل الأدنى إلى كمال الأمر، وكل أمر الله مآل من أسمائه وتجلياته، وكل تجل أجلى مآل لما دونه من تجل أخفى، قال عيه الصلاة والسلام: «فيأتيهم ربهم في غير الصورة التي يعرفونها الحديث إلى قوله: أنت ربنا» فكان تجليهالأظهر لهم مآل تجليه الأخفى عنهم؛ فكان كل أقرب للخلق من غيب خلق وقائم أمر وعلى تجل إبلاغاً إلى ما وراءه فكان تأويله، فلم تكن الإحاطة بالتأويل المحيط إلا لله سبحانه وتعالى. ولما ذكر الزائغين ذكر الثابتين فقال: {والراسخون في العلم} قال الحرالي: وهم المتحققون في أعلام العلم من حيث إن الرسوخ النزول بالثقل في الشيء الرخو ليس الظهورعلى الشيء، فلرسوخهم كانوا أهل إيمان، ولو أنهم كانوا ظاهرين على العلم كانوا أهل إيقان، لكنهم راسخون في العلم لم يظهروا بصفاء الإيقان على نور العلم، فثبتهم الله سبحانه وتعالى عند حد التوقف فكانوا دائمين على الإيمان بقوله: {يقولون آمنا به} بصيغة الدوام انتهى أي هذا حالهم في رسوخهم. ولما كان هذا قسيماً لقوله: {وأما الذين في قلوبهم زيغ} كان ذلك واضحاً في كونه ابتداء وأن الوقوف على ما قبله، ولما كان هذا الضمير محتملاً للمحكم فقط قال: {كل} أي من المحكم والمتشابه. قال الحرالي: وهذه الكلمة معرفة بتعريف الإحاطة التي أهل النحاة ذكرها في وجوه التعريف إلا من ألاح معناها منهمفلم يلقن ولم ينقل جماعتهم ذلك؛ وهو من أكمل وجوه التعريف، لأن حقيقة التعريف التعين بعيان أو عقل، وهي إشارة إلى إحاطة ما أنزله على إبهامه، فكان مرجع المتشابه والمحكم عندهم مرجعاً واحداً، آمنوا بمحل اجتماعه الذي منه نشأ فرقانه، لأن كل مفترق بالحقيقة إنما هو معروج من حد اجتماع، فما رجع إليه الإيمان في قلولهم: آمنا به، هو محل اجتماع المحكم والمتشابه في إحاطة الكتاب قبل تفصيله انتهى. {من عند ربنا} أي المحسن إلينا بكل اعتبار، ولعله عبر بعند وهي بالأمر الظاهر بخلاف لدن إشارة إلى ظهور ذلك عند التأمل، وعبروه عن الاشتباه. ولما كان مع كل مشتبه أمر إذا دقق النظر فيه رجع إلى مثال حاضر للعقل إما محسوس وإما في حد ظهور المحسوس قال معمماً لمدح المتأملين على دقة الأمر وشدة عموضه بإدغام تاء التفعل مشيراً إلى أنهم تأهلوا بالرسوخ إلى الارتقاء عن رتبته، ملوحاً إلى أنه لا فهم لغيرهم عاطفاً على ما تقديره: فذكرهم الله من معاني المتشابه ببركه إيمانهم وتسليمهم بما نصبه من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم ما يمكن أنيكون إرادة منه سبحانه وتعالى وإن لم يكن على القطع بأنه إرادة: {وما يذكر} أي من الراسخين بما سمع من المتشابه ما في حسه وعقله من أمثال ذلك {إلا أولوا الألباب*} قال الحرالي: الذين لهم لب العقل الذي للراسخين في العلم ظاهره، فكان بين أهل الزيغ وأهل التذكر مقابلة بعيدة، فمنهم متذكر ينتهي إلى إيقان، وراسخ في العلم يقف عند حد إيمان، ومتأول يركن إلى لبس بدعة، وفاتن يتبع هوى؛ فأنبأ جملة هذا البيان عن أحوال الخلق بالنظر إلى تلقي الكتاب كما أنبأ بيان سورة البقرة عن جهات تلقيهم للأحكام انتهى.